نصيحة لجميع المسلمين في العراق قواعد تغيير المنكر باليد للقادر عليه في موضع تكون الولاية فيه لغيره ربح صهيب مسائل في الشان السوري كلمة الدكتور عبد الكريم زيدان في مؤتمر الشيخ امجد الزهاوي المنعقد في مركز الزهاوي للدراسات الفكرية شرح الاصول العشرين أثر الشريعة في الحد من المخدرات الحكم الشرعي في الدعوة الى الفدرالية او الاقاليم في العراق
بعض خصائص الشّريعة الاسلامية (الحلقة الثانية)
مقال كتبه الشيخ عبدالكريم زيدان عام 1338هـ - 1963م تحت عنوان (بعض خصائص الشّريعة الاسلامية) ونشر في مجلة التربية الاسلامية على ثلاث حلقات في عددها التاسع والعاشر والحادي عشر على التوالي من ذلك العام.
أدناه هو الحلقة الثانية والتي نشرت في العدد العاشر من عام 1338هـ- 1963م وتحقيقاً للفائدة يُنصح بقراءة الحلقة الاولى قبل هذه المقالة لترابطها مع هذه الحلقة شكلا وموضوعاً.
بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان
مدرس الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق
ثانيا : الجزاء في الشّريعة الاسلامية دنيوي واخروي
من خصائص القانون اقترانه بجزاء توقعه الدولة عند الاقتضاء على من يخالف احكامه. وهذا الجزاء قد يكون جنائياً يتمثل بأذى يصيب جسم الانسان أو يقيد حريته أو يصيب ماله بنقص (الغرامة). وقد يكون الجزاء مدنياً عن طريق جبر المدين على تنفيذ التزامه عيناً أو بمقابل أي بالتعويض المالي, أو يكون ببطلان الاتفاق المخالف للقانون وعدم ترتيب شيء من آثاره. الا ان الجزاء بنوعيه جزاء دنيوي ينال الانسان في حياته لا في آخرته لان الدولة لا تملك من أمر الآخرة شيئاً وبالتالي لا تضع من الجزاءات الا ما ينفذ في الدنيا.
والشّريعة الاسلامية تتفق مع القوانين الوضعية في ان احكامها تقترن بجزاء يوقع على المخالف ولكنها تختلف معها في ان الجزاء فيها دنيوي وأخروي, بل ان الاصل في أجزيتها هو الجزاء الاخروي ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الافراد على نحو واضح وضمان حقوقهم كل ذلك دعا الى ان يكون مع الجزاء الاخروي جزاء دنيوي. وهذا الجزاء الدنيوي منه ما يكون جنائياً ومنه ما يكون مدنياً كما هو الحال في القوانين الوضعية وان كان نطاقه اوسع من نطاق الجزاء في القانون الوضعي نظراً لشمول الشّريعة الاسلامية لجميع شؤون الافراد ومنها الدينية والاخلاقية خلافاً للقانون الوضعي.
والجزاء الاخروي يترتب على كل مخالفة لأحكام الشّريعة الاسلامية سواء أكانت من أعمال القلوب أو من اعمال الجوارح وسواء أكانت من مسائل المعاملات المالية أو من مسائل الجنايات, وسواء عوقب عليها المخالف في الدنيا ولم يعاقب ما لم تقترن مخالفته بتوبة نصوح وتحلل من حق الغير , وهذا ما تشير البه نصوص القران الكريم الكثيرة ومنها قوله تعالى في سورة المائدة: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وقد ترتب على هذا الجزاء الاخروي ان المسلم يخضع لأحكام الشّريعة خضوعاً اختياريا خوفا من عقاب الله تعالى, وهكذا تنزجر النفوس عن مخالفة القانون الاسلامي اما بدافع الاحترام له والشعور بالحياء من الله تعالى واما بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر الخالفين , يقول تعالى في سورة آل عمران: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ), ويقول تعالى في سورة الزلزلة: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة وكفها عن العصيان, وهذا ما لا يملكه القانون الوضعي.
ثالثاً: عموم الشّريعة في المكان والزمان
ومن خصائص الشّريعة الاسلامية كونها عامة في المكان والزمان, بمعنى انها عامة لجميع البشر في كل مكان وزمان, قال تعالى في سورة الاعراف: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا), فالشّريعة الاسلامية باقية لا يلحقها نسخ ولا تغيير لان الناسخ يجب ان يكون بقوة المنسوخ أو اقوى منه, فلا ينسخ الشّريعة الاسلامية, وهي تشريع من عند الله, الا تشريع آخر من الله, وحيث ان الشّريعة الاسلامية خاتمة الشرائع وان محمدا ﷺ خاتم النبيين فلا يتصور أن ينسخها أو يغيرها شيء.
وعموم الشّريعة المكاني والزماني وعدم قابليتها للنسخ والتغيير, كل ذلك يستلزم عقلا ان تكون قواعدها واحكامها على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان ويفي بحاجاتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن اي مستوى عال يبلغه أي مجتمع. وهذا - بفضل الله – مُتحقق في الشّريعة الاسلامية, لان الله عز وجل اذ جعلها عامة في المكان والزمان جعل قواعدها واحكامها على نحو يجعلها صالحة لكل زمان ومكان, وهذا ما يدل عليه واقع الشّريعة ومصادرها وطبيعة احكامها ولا بد هنا من بيان موجز كل الايجاز لتوضيح هذا المعنى واثبات صحة ما نقول ونبدأ ببيان طبيعة أحكام الشّريعة ليظهر مدى قابليتها للعموم والبقاء.
أن احكام الشّريعة نوعان: الاول جاء على شكل احكام تفصيلية, والثاني جاء على شكل قواعد ومبادئ عامة. وكلا النوعين جاء على نحو يوافق كل مكان وزمان ويتفق مع عموم الشّريعة وبقائها, وهاك البيان بإيجاز:
النوع الاول – الاحكام التفصيلية: وهذا اما ان يتعلق بالعقيدة والعبادات والاخلاق واما ان يتعلق بعلاقات الافراد فيما بينهم فأحكام العقيدة كالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ونحو ذلك, لا يتصور مجيء عصر يستغنى فيه البشر عن هذه الاحكام لأنها تبين حقائق ثابتة يستحيل نقصها والشأن في الحقائق الثابتة الثبات والبقاء.
واحكام العبادات تُنظم علاقة الانسان بخالقه على شكل معين, وهذا التنظيم يحتاجه الانسان في كل زمان ومكان, لان العبادة من لوازم مخلوقية الانسان لخالق عظيم أراد أن يكون اتصال مخلوقه به وعلاقته به على هذا النحو المعين, وفضلا عن ذلك فان لأشكال هذه العبادات فائدة دنيوية ظاهرة تظهر في صلاح النفس وما ينتج عن ذلك من صلاح المجتمع , فالصلاة مثلاً قال الله عنها: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ), وانزجار الانسان عن الفحشاء والمنكر مصلحة ظاهرة له وللمجتمع , وهكذا بقية العبادات.
والاخلاق عنصر أصيل في صلاح الفرد والمجتمع ولا يغني عن الاخلاق أي تقدم في مجال الثقافة والعلوم, ودليلنا على ذلك ما نجده في العالم وفي الوقت الحاضر فان الازمة التي يمر بها ازمة أخلاقية في أساسها وجوهرها, وليس هنا محل تفصيل ذلك. وعليه فأن الشّريعة الاسلامية في تأكيدها على جانب الاخلاق وفي تشريعها الاحكام الاخلاقية انما أرادت أرساء قواعد المجتمع على أساس قويم ثابت وإقامة صرح الاصلاح ابتداء من النفس الانسانية . والاخلاق بعد هذا كله معانٍ ثابته يحتاجها الانسان السوي ولا يتصور مجيء عصر يُقال فيه ان الصدق والعدل والوفاء والامانة معانٍ فاسدة لا تليق بالإنسان, اللهم الا اذا ارتد البشر الى حياة الغاب وانتكاس الفطرة.
وأما الاحكام التفصيلية الاخرى المتعلقة بعلاقات الافراد فيما بينهم فهي ايضاً غير قابلة للتبديل لان تفصيلها بُني على اساس ان الحاجة اليها تبقى قائمة في كل زمان ولكل جماعة وتوافق كل عصر وان غيرها لا يسد مسدها. فمن هذه الاحكام تنظيم الاسرة وكيفية الزواج وحق الحضانة والولاية ونحو ذلك من شؤون الاسرة . فالنكاح جاء تنظيمه في غاية البساطة وخالياً من الشكلية والطقوس ومن ثم فهو صالح لكل زمان ومكان, اذ يكفي لانعقاده ايجاب من الرجل أو المرأة وقبول من الاخر بحضور شهود على هذا العقد, فلا يشترط لصحة النكاح ان يكون على يد شخص معين أو في مكان معين أو بكيفية خاصة أو بتراتيل معينة, فهذه الكيفية البسيطة لعقد النكاح توافق كل عصر ومكان.
وتشريع الفرقة بين الزوجين هو الشيء الطبيعي المعقول اذ لا يصح اجبار الزوجين على ابقاء الريطة الزوجية بالرغم من قيام ما يدعو الى انفصالهما, وانما المعقول ان تباح الفرقة بينهما ليذهب كل واحد الى حال سبيله ويجرب حظه في شركة اخرى ورابطة جديدة. ولهذا اباحت معظم الدول الغربية الفرقة بين الزوجين اذا ما توافرت أسباب معينة بعد ان كان التفريق بينهما محرما.
وتنظيم الميراث وتعيين الورثة ومقادير انصبتهم جاء على شكل ممتاز لوحظ فيه مختلف الاعتبارات كقرب الوارث من الميت وحاجته وتفتيت الثروة, وهذا التنظيم للميراث وما بني عليه من اسس واعتبارات صالح لكل زمان ومكان, وليس هنا تفصيل ذلك.
وتحريم الربا وهو حكم يخص المعاملات المالية حكم شرعي غير قابل للتبديل لان مفاسد الربا ذاتية لا تنفك عنه ابدا وهو من مظهر انحلال المجتمع وفساده وضعف روح التعاون بين افراده , وعلاج مثل هذا المجتمع الفاسد يكون بإصلاحه جذرياً لا بترك فساده وانحلاله وتشريع الاحكام الملائمة لفساده.
والعقوبات في الشّريعة جاءت مفصلة ومقدرة لعدد محدود من الجرائم وهي عقوبة الردة والزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر والقصاص, اما عقوبات الجرائم الاخرى فقد تُرك تقديرها لولي الامر او من ينوب عنه وهذه تسمى بالعقوبات التعزيرية, ويلاحظ في تقديرها مدى جسامة الجريمة وظروفها وحال الجاني ومدى ضررها , كل ذلك في ظل قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا).
والعقوبات المقدرة كلها خير وصلاح وعدل ولا يستغني عنها اي مجتمع فاضل, لأنها بنيت على اساس العدالة وتحقيق الغرض من تشريع العقوبة.
فعقوبة الردة وهي قتل المرتد بعد استعماله فأن أصر على ردته قُتل وان رجع للإسلام تُرك , هذه العقوبة التي قد تبدو قاسية لأولي النظر السطحي, بنيت على أساسين: الاول اخلال المسلم بالتزامه بأحكام الاسلام. والثاني درء المفسدة عن المجتمع الاسلامي. وبيان ذلك ان الانسان بإسلام يكون قد التزم احكام الاسلام وأصوله وعدم الخروج عليها, فان فعل ذلك كان مخلاً بالتزامه فيجب ان يناله جزاء هذا الاخلال. هذه واحدة, والثانية ان في الردة واعلانها مفسدة للمجتمع الاسلامي تظهر في تشكيك المسلمين في عقائدهم واحداث الاضطراب فيما بينهم وزعزعة لكيان الدولة التي اتخذت الاسلام أساساً لقيامها وبقائها وأهدافها, فكان لا بد من عقوبة زاجرة لمنع هذه المفسدة عن مجتمع يدين بالإسلام وعن دولة جعلت اساس حياتها الاسلام. ولا يقال ان هذا يناقض حرية العقيدة في الاسلام وعدم الاكراه في الدين, لا يقال هذا القول لأنه خلط بين أمرين, فالإسلام لا يكره غير المسلم على تبديل عقيدته, وهذا حق, قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ), ولكن كلامنا عن مسلم يرتد فهذه مسألة غير المسألة الاولى, لان المسلم بارتداده عن الاسلام بكون قد اخل بالتزامه فيعاقب نتيجة هذا الاخلال ولا تعني معاقبته الاكراه في الدين.
وعقوبة الزنى بنيت على اساس إفسادها أخلاق الناس وعظيم اضرارها بالفرد والاسرة والمجتمع كشيوع الامراض واختلاط الانساب وخراب البيوت والعزوف عن الزواج وما الى ذلك, والشّريعة من اصولها العناية بالأخلاق ودفع الاضرار عن الناس والمحافظة على الاسرة, ولا شك ان المجتمع الفاضل الذي يحرص على الفضيلة ويعني بالأخلاق يرحب بهذه العقوبة ولا يجد فيها الا المصلحة والخير وزجر المفسدين الذين يريدون العبث بأعراض الغير واشاعة الفساد في المجتمع. ولا يقال ان عقوبة الزنا, وهي الجلد أو الرجم, فيها قسوة واهدار لكرامة الآدمي, لأننا نقول ان الزاني هو الذي أهدر كرامته ورتع في هذا المحرم فلا يتوقع التقدير والتبجيل بل يستحق الجلد والتقريع. هذا وان عقوبة الجلد لا تزال قائمة في بعض دول العالم كما في امريكا بالنسبة لبعض جرائم الجنود وكذا في الجمهورية العربية المتحدة.
وعقوبة السرقة, وهي قطع اليد, قد يُقال ان فيها قسوة لا تلائم عصرنا الحاضر, وقد يقول البعض انها وحشية ومن مخلفات العصور القديمة, وكلا القولين ضعيف مردود لم يقم على نظر عميق واحاطة بجوانب المسألة وتفهم لفلسفة العقاب, فمن المعلوم ان الشّريعة الاسلامية أوجبت ضمانا اجتماعياً لكل فرد يبدأ من الاسرة وينتهي بالدولة, فالفرد المُحتاج يجد ما يسد حاجته بما أوجبته الشّريعة من تضامن الزامي بين افراد الاسرة يتمثل بإيجاب النفقة للعاجز المحتاج على قريبه الموسر, فان لم يوجد أو لم يفِ ذلك فللفقير حق مالي في أموال الاغنياء تستوفيه الدولة وتسلمه اليه , فان لم يفِ ذلك أو لم يوجد, فالدولة الاسلامية مسؤولة عن ايجاد العمل للقادر عليه, فأن لم يوجد العمل أو وجد وكان المحتاج عاجزاً فالدولة ملزمة بكفالته لا فرق بين مسلم وغير المسلم فالدولة ملزمة بكفالته ما دام يحمل جنسية الدولة الاسلامية, جاء في كتاب الاموال لابي عبيد ان عمر بن عبدالعزيز كتب الى علي بن أرطاة واليه في البصرة: ( .... وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فاجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه, فقد بلغني ان عمر بن الخطاب مرّ بشيخ من اهل الذمة يسأل على ابواب الناس, فقال: ما انصفناك ان كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك في كبرك, ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه). ففي هذا المجتمع الاسلامي القائم على هذا التنظيم اذا وجد فيه سارق يمد يده الى مال الغير بغير حق ويتسلق الجدر في جنح الظلام ويروع الآمنين ويسطو على اموالهم ثم جاءت الشّريعة الاسلامية بإيجاب قطع يد السارق, فان المنصف لا يقول هذا عقاب قاس. هذه واحدة, والثانية ان الغرض من العقوبة تأديب الجاني وزجر من يريد الجناية حفظا لاستقرار المجتمع وامنه وطمأنينته ولا شك ان في قطع يد السارق تحقيقاً لهذه الاغراض على أكمل وجه, والواقع يؤيدنا فما ردعت السجون النفوس الشريرة عن السرقة ولكن عقوبة قطع اليد ردعت المجرمين في الماضي ولو طبقت هذه العقوبة في الحاضر وبُني المجتمع على اساس الاسلام لردعت هذه العقوبة المجرمين, وكون العقوبة قديمة لا يدل على فسادها وعدم صلاحها فما كل قديم بفاسد ولا كل جديد بصالح , فان صلاح الشيء يستفاد من ذاته لا من جدته وقدمه.
وعقوبة القذف تجب على من يرمي غيره, رجلا أو امرأة, بالزنا ولا بينة له, والحكمة من ورائها وقاية اعراض الناس من قالة السوء والمحافظة على طهارة المجتمع, وسد منافذ الشر والعداء والخصام وخراب البيوت.
وعقوبة قطع الطريق تتناسب وفظاعة هذه الجريمة لان فيها اعتداءً على أموال الناس وارواحهم مع المجاهرة بالعدوان والخروج على سلطان الدولة واخافة الطريق ومنع المرور فيه ومن ثم كانت عقوبتها أشد من عقوبة السرقة العادية, وهي قطع الايدي والارجل من خلاف.
وعقوبة شرب الخمر شُرعت وقاية لعقل الانسان من الفساد, والعقل جوهرة ثمينة لا يجوز التفريط فيها , فضلاً عما يؤدي اليه شرب الخمر من جرائم واتلاف الاموال وجلب الامراض.
والقصاص في الشّريعة جَعل حقاً للمجني عليه أو لأوليائه (في جريمة القتل العمد) فلهم ان يطلبوا القصاص كما لهم ان يطلبوا الدية ( التعويض المالي) كما لهم ان يعفوا, وهذا هو التنظيم الكامل الذي لم يغفل جانب النفس البشرية وما جبلت عليه من حب أخذ الثأر من الجاني وانزال القصاص العادل به, كما لم يغفل مصلحة المجتمع , فالقصاص يردع الجاني عن الجريمة وفي هذا الردع حياة له ولغيره, قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ويستل النقمة من النفوس.
ومع هذا كله فان الجاني اذا فلت من القصاص لعفو المجني عليه أو اوليائه عنه فان للدولة ان توقع عليه عقوبة تعزيرية لما في جنايته من اعتداء على المجتمع (الحق العام).
والنوع الثاني – من أحكام الشّريعة: جاء على شكل قواعد ومبادئ عامة لا يمكن ان تضيق بحاجات الناس كما لا يمكن ان تتخلف عن اي مستوى عال يبلغه المجتمع. ونذكر هنا بعض المثل تأييدا لما نقول.
جاءت الشّريعة بمبدأ الشورى في الحكم. قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) وقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فمبدأ الشورى اسمى نظام للحكم بمكن ان يصل اليه النوع البشري ولا يمكن ان يتخلف عن أي مستوى عال رفيع بمكن ان يصله البشر. وقد جاء هذا المبدأ القويم على نحو من العموم والمرونة بحيث يتسع لكل تنظيم قانوني يوضع لتحقيق هذا المبدأ ولا يخرج على أحكام الشّريعة الاخرى.
وجاءت الشّريعة الاسلامية بمبدأ المساواة, وهو مبدأ عظيم, من تطبيقاته المساواة أمام القانون, مساواة تشمل الجميع من رئيس الدولة الى ابسط مواطن , ومن ثم فان هذا المبدأ صالح لكل زمان ومكان.
وجاءت الشّريعة بمبدأ العدالة ولزوم الحكم بالعدل مع الاقربين والابعدين ومع الاصدقاء والاعداء , قال تعالى في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ), وقال تعالى في سورة المائدة: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) ولا شك ان هذا المبدأ يضمن مصالح الناس في كل زمان ومكان ويتسع لكل تنظيم سليم يحقق العدالة, فمثلاً اذا رؤى ان تحقيق العدالة في القضاء يستلزم جعل المحاكم على درجتين أو ان المحكمة تؤلف من اكثر من حاكم أو جعل هيئة تدقيقية تدقق أحكام المحاكم , فهذه ونحوه يجوز لأنه من مستلزمات تحقيق العدالة والحكم بالعدل حسب ظروف معينة ومكان معين, والشّريعة لا تضيق باي اسلوب صحيح يحقق اغراضها ويؤدي الى حسن تطبيق مبادئها , وفي هذا يقول الامام ابن القيم: (فإذا ظهرت امارات العدل واسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه).
وجاءت الشّريعة بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وهي حديث نبوي شريف ومعناها ان الضرر مرفوع بحكم الشّريعة, اي لا يجوز لاحد ايقاع الضرر بنفسه أو بغيره, كما ان مقابلة الضرر بالضرر لا يجوز لأنه عبث وافساد لا معنى له , فمن يحرق مال الغير لا يجوز للغير احراق ماله لان في هذه المقابلة تكثيراً للضرر والفساد وانما يرفع هذا الضرر بإيجاب الضمان المالي على المعتدي . ولا شك ان هذه القاعدة العظيمة تبتني عليها فروع كثيرة, وجاءت احكام كثيرة تحقيقاً لمدلول هذه القاعدة , من ذلك تقدير حق الشفعة لدفع الضرر عن الشريك والجار, وتقييد استعمال الحق على وجه لا يلحق ضرراً بالآخرين كما في منع الانسان من اقامة مدبغة ونحوها في بيته اذا كان في ذلك ايذاء للجار, واجبار صاحب الارض بإمرار الماء من أرضه لسقاية ارض جاره اذا كان بحاجة الى ذلك ولم يكن في امرار الماء مضرة عليه, والزام أصحاب السلع على بيع سلعهم بقيمة المثل اذا امتنعوا عن البيع بهذه القيمة وكان في الناس حاجة الى ما عندهم من مواد. فاستعمال الحق في الشّريعة الاسلامية مُقيد بعدم الاضرار بالغير فلا وجود للحقوق المطلقة في الشّريعة فهي مقيدة بحدود الله التي تحفظ على الجماعة مصلحتها وتدفع الضرر عنها.
فقاعدة لا ضرر ولا ضرار صالحة لكل زمان ومكان , وهكذا جميع القواعد والمبادئ العامة التي جاءت بها الشّريعة والتي يطول تعدادها وشرحها.
ويخلص لنا من جميع ما تقدم ان طبيعة احكام الشّريعة صالحة لكل زمان ومكان وتتفق وعموم الشّريعة الاسلامية.
<<<<<<يتبع>>>>>
نشرت بتاريخ: 2015-12-19 (8432 قراءة)