نصيحة لجميع المسلمين في العراق قواعد تغيير المنكر باليد للقادر عليه في موضع تكون الولاية فيه لغيره ربح صهيب مسائل في الشان السوري كلمة الدكتور عبد الكريم زيدان في مؤتمر الشيخ امجد الزهاوي المنعقد في مركز الزهاوي للدراسات الفكرية شرح الاصول العشرين أثر الشريعة في الحد من المخدرات الحكم الشرعي في الدعوة الى الفدرالية او الاقاليم في العراق
الإيمان بالقضاء والقَدَر وأثرُهُ في سُلوك الإنسان
بحث كتبه الشيخ عام 1394 هـ/1974م ونشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية بعددها الثامن الصادر في ربيع الاول 1394هـ/اذار 1974م , بعدها طُبع بكراس منفصل, ونشر ايضاً مع مجموعة بحوث بكتاب تحت اسم "مجموعة بحوث فقهية".تُرجم البحث الى اللغة الفارسية والمالايوية ونشر في كثير من المجلات الاسلامية حول العالم.
1) الايمان بالقضاء والقَدَر جانب مهم جدا من جوانب العقيدة الإسلامية, وله أثر بالغ في سلوك الفرد وتصرفاته وموقفه من الواقع والاحداث بشرط أن يكون هذا ألايمان قائما على المعنى الصحيح للقضاء والقَدَر, فاين نجد هذا المعنى الصحيح؟ والجواب نجده في المصدر الوحيد لمعرفة جميع معاني العقيدة الإسلامية ومنها مسالة القضاء والقَدَر, وهذا المصدر هو الوحي الالهي المتمثل في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة فقط, فلا يجوز مطلقا الاستعاضة عن هذا المصدر ولا اشراك غيره فيه.
2) ووحدة المصدر في معرفة العقيدة الإسلامية اصل مهم جدا وخطير للغاية يجب التسليم به واعتماده في بحث اي معنى من معاني العقيدة الإسلامية, وعدم اغفاله عند تقييم ما قيل او يقال في هذا المجال, وبهذا نسلم بإذن الله من الزيغ والضلال.
3) واساس هذا الاصل واضح ومعروف يسلم به كل مسلم فلا حاجة لسرد الادلة عليه, ولكن مع وضوحه والتسليم به فقد حاد عنه من حاد غافلاً عن حيدته او مبرراً لها بما لا يقنع ولا يفيد.
4) اعتراض ودفعه: ولكن قد يقال هنا على وجه المعارضة او الاستفهام: وما مكان العقل في مجال العقيدة وبالعقل عرفنا الله وصدقنا رسوله واقمنا الدلائل على ذلك؟ فهل يجوز بعد ذلك تعطيل العقل او ابعاده عن هذا المجال وهو الظاهر من كلامكم.
5) والجواب: أن العقل اساس التكليف ومناط الاهلية, فلا يتصور, إذن, أن ندعو الى تعطيل العقل او تنحيته عن مجال العقيدة اما الذي نريده ونؤكد عليه هو إيقاف العقل عند حده وابقاؤه في نطاق وظيفته وعدم السماح له بالجموح, لان العقل إذا جمح وتجاوز الحد وخرج عن نطاق وظيفته لم يأتنا الا بالخيال الغائب والوهم الكاذب ولا يصلح الوهم ولا الخيال اساساً للمعرفة الصحيحة.
6) ثم اننا بدعوتنا الى هذا الاصل انما ندعو في الحقيقة الى ما دل عليه العقل السليم فالعقل كما قلتم ونقول دلنا على صدق الرسول محمد ﷺ وانه رسول الله حقا ومعنى الرسول هو ان الله ارسله ليبلغ رسالته فعلى الخلق, اذن, تصديقه فيما اخبر به عن ربه والتسليم له بذلك عن رضا واقتناع وانقياد, ومن جملة ما اخبرنا به امور العقيدة الإسلامية وهذا يعني بالضرورة ان المصدر الوحيد لمعرفة معاني العقيدة هو ما قلناه: القران الكريم والسنة النبوية المطهرة, اي الوحي الالهي, وعلى هذا فان اي معارضة او مناقضة او رد لما اخبر به الرسول ﷺ بحجة مخالفته للعقل يعتبر مناقضة صريحة لما دل عليه العقل من انه رسول الله حقا, فأي الفريقين اسعد باعتبار العقل ودلالته: اصحاب هذا الاعتراض او الاستفهام ام اصحاب وحدة المصدر في معرفة العقيدة الإسلامية؟
7) ووظيفة العقل بعد ان دلنا على صدق الرسول ﷺ هي ان يَفهم اخبارات الرسول ﷺ ويعرف معانيها كما هي لا كما يتخيلها في حالة جموحه وخروجه عن حدود وظيفته, لان حد المعرفة الصحيحة لأي شيء هو ان تعرفه كم هو في الواقع لا كما تحب ان يكون عليه هذا الشيء, فهذه معرفة متوهمة لشيء متوهم غير موجود وليست هي معرفة للشيء الموجود فعلا في الخارج. ان مثل العقل في الحالتين مثل المصباح في يدك يكشف لك الموجود لا المعدوم, فاذا اردت منه ان يريك ما تحب ان يكون مما هو غير موجود لم يستطع ذلك إلا على سبيل الوهم والخيال, وهما لا يصلحان سبيلا للمعرفة الصحيحة.
اعتراض اخر ودفعه:
8) وقد يقال ايضا على وجه الاعتراض او الاستفهام, وهل تريدون بهذا الاصل – وحدة المصدر – الاعراض عن نتاج الفلاسفة القدامى والمحدثين وعدم الاستعانة بهم في مجال العقيدة؟ فان قلتم نعم فهذا حجر على العقول وتضييق لسبل المعرفة ومخالفة لنهج علمائنا الاقدمين, فقد تعلموا الفلسفة اليونانية واستدلوا بها وتحاكموا اليها في مجال العقيدة الإسلامية, فهل كانوا على ضلال او في غفلة عن اصلكم الذي تقولون به الان؟ وان قلتم لا انهدم اصلكم وتعددت مصادر المعرفة بالعقيدة الإسلامية.
9) والجواب: ان الله جل جلاله وصف كتابه وما جاء به رسوله ﷺ بأوصاف الهداية والنور والشفاء والحق ونحو ذلك من الاوصاف, فلا يسوغ لأي حد الاستعاضة عن ذلك بغيره فيكون من الذين قال الله فيه: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ويكون مَثَلهُ مثل الذي يرفض الماء النقي العذب الزلال الصافي المقدم اليه ويؤثر عليه ماء البرك الراكد الاسن, ومَثلُ من يأبى السير في وضح النهار في الطريق المعبد المستقيم المأمون وراء الهادي الخبير الامين ويفضل عليه السير وراء اعمى او اعشى يسير في وحشة الليل وظلمته الحالكة في غابة كثيفة الاشجار ملتفة الاغصان تعوي فيها السباع وتملا ارضها الاشواك والعقارب والحيات ويزعم ان دليله الاعمى او الاعشى سيوصله الى المكان المقصود بسلامة وامان. ومثله ايضا مثل الذي يرفض علوم الطب الحديثة ونظرياته وعلاجه وادواته ويأخذ بما كان عند اليونان من معرفة بالطب وعلاج الابدان.
10) اما ما قلتم عن مناهج بعض العلماء القدامى, فهذا واقع فعلا وله اسباب كثيرة منها رغبة بعظهم في الرد على مخالفيهم بنفس لغتهم واسلوبهم وحججهم وادلتهم . ومنها اظهار باطل الفلاسفة ومن يحتج بأقوالهم. ومن وقع منهم في اباطيل الفلاسفة او استساغها او دافع عنها واحتج بها او تحاكم اليها او عارض بها الحقائق في مجال العقيدة الإسلامية , فهؤلاء امرهم الى الله ولكنهم بالتأكيد لا يصلحون لنا اسوة حسنة لان اتباع الغير انما يحسن فيما اصاب فيه هذا الغير لا فيما اخطأ فيه واساء ولا حجة مطلقا لاحد في متابعة غيره في خطئه البين المناقض لما عرف من الدين وان كان المتبوع معدودا من زمرة العلماء, والواجب على المسلم ان يتحاكم الى شرع الله لا الى الفلسفة اليونانية قال تعالى: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
11) اما الحَجْرَ على العقول وتضييق سبل المعرفة, فهذه عبارات خطابية لا طائل من ورائها ولا تصلح في هذا المقام فنحن لا نحجر على العقول فيما تريد الاطلاع عليه ما دامت قادرة على التمييز بين ما فيه من حق وباطل, و خطأ وصواب, وما دامت لا يبهرها الباطل المزخرف, اما اذا لم تستطع ذلك مع جهلها بمعاني العقيدة الإسلامية فمن المجازفة في القول والتغرير بالغير وعدم النصيحة في الدين السماح لإصحاب هذه العقول العاجزة بالاطلاع على ما ذكرتموه والاستدلال به, فان هذا يوقع في جعل الشريعة محكومة بغيرها لا حاكمة عليه, وخادمة له لا مخدومة به, وهذا لا يجوز.
12) أما سبل المعرفة والادعاء بتضييقها فهذا قول ساقط فمن المعلوم أن لكل نوع من أنواع المعرفة مصادر خاصة بها, فالفيزياء مثلا والكيمياء وسائر العلوم الطبيعية الأخرى, وكذا العلوم الاجتماعية لها مصادرها الخاصة بها, فكذلك معاني العقيدة الإسلامية وعلوم الدبن بصورة عامة لها مصادرها الخاصة بها, وهذه المصادر – أي مصادر المعرفة بالعقيدة الإسلامية – هي القران والسنة, فمن غير المقبول اصلاً ان نلتمس معرفة معاني هذه العقيدة في غير القران والسنة كالفلسفة اليونانية مثلا, وان كان بعض معاني العقيدة الإسلامية لا تعجب البعض ويخشى التصريح بذلك فيتستر وراء الفلسفة فهذا لا يفيده ولا يعطيه حصانة في مسلكه الباطل هذا.
13) وقد يقال ان الشرع لم يفصّل امور العقيدة فالرجوع الى الفلسفة ضروري لمعرفة التفاصيل. وهذا القول باطل ايضا وتمويه لان امور العقيدة من اهم مطالب الدين الذي بعث الله به النبي محمد ﷺ فمن المستحيل في العقل السليم ان يغفل الشارع عن هذا المطلب المهم ولا يبينه لنا بالتفصيل اللازم ويحيلنا الى غيره في معرفته في الوقت الذي بين لنا نواقض الوضوء وكيفية الاستنجاء ونحو ذلك من فروع الدين وجزيئياته. وحيث ان الشارع بين لنا معاني العقيدة الإسلامية في القران والسنة على احسن وجوه البيان واكمله. فمن باب تقرير الواقع ان نقول ان مصدر معرفة معاني العقيدة الإسلامية هو القران والسنة النبوية. الا ان هذا القول لا يمنع من الاستعانة بما يدركه العقل السليم من دلائل على بعض معاني العقيدة الإسلامية كما في ادراكه ان الاعادة اسهل من الابتداء, فالواقع ان الشرع يعترف بهذه الدلائل ويشير اليها كما في قوله تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ففي هذه الآية الكريمة اشارة الى ما يدركه العقل من ان الأعادة اسهل من الابتداء.
وكذلك لا يمنع ما قلناه من الاستعانة بأقوال الحكماء الصحيحة التي قالوها بعد طول تأمل ونظر وتؤكد معاني العقيدة الإسلامية. كما في اقوال بعظهم في استحالة قِدَم العالم وكذلك لا يمنع ما قلناه من الاستعانة بالعلوم الحديثة المتعلقة بالحيوان والنبات والفيزياء والكيمياء وغيرها التي تبين لنا عجائب المخلوقات ودقة تركيبها وخلقها ودقة النواميس التي تحكمها وكذلك العلوم الفلكية وعجائب الاجرام السماوية, فهذه العلوم يجوز او يندب او يجب وجوبا كفائياً الاستعانة بها في مقام العقيدة الإسلامية وبيان عظمة الله جل جلاله, وقد اشار القران الى ذلك ودلنا عليه لأنه أمرنا بالتفكر في السموات والارض وما يخلق فيهن وبينهن والنظر في ذلك, ولا شك ان هذه العلوم تحقق هذا النظر والتفكر على نحو واسع يؤدي حتما الى تعميق معاني الايمان بالله.
ولكن مع هذا كله لا يمكن القول بان دلالات العقل او اقوال الحكماء او العلوم الطبية مصادر مستقلة لمعرفة العقيدة الإسلامية, ولا انها مجتمعة او منفردة تصلح لمعارضة معاني العقيدة الإسلامية التي وردت في القران والسنة او جعلها حاكمة على هذه العقيدة او على دلالة القران عليها وتفصيله لها.
14) اعتراض اخر ودفعه: وقد يقال ايضا على سبيل الإعتراض أو الاستفهام ان نصوص القران والسنة تحتمل معاني كثيرة مما يؤدي الى وقوع الاختلاف في معاني العقيدة الإسلامية, وقد وقع هذا الاختلاف فعلا مما حمل المختلفين على الرجوع الى اقوال الفلاسفة لمعرفة المعنى المطلوب, فكيف يصح اذن قولكم بوحدة مصدر المعرفة بالعقيدة الإسلامية؟
15) والجواب: صحيح ان بعض نصوص القران والسنة وليس كلها, يحتمل اكثر من معنى ولكن هذا لا يعني ان الشرع لم يبين لنا المعنى المقصود لان الأدعاء بهذا يناقض وصف القران بالمُبين, ويخالف قول قيام الرسول ﷺ بالبلاغ المُبين ويخالف قوله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ويخالف قوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) لان التدبر لا يكون مع انغلاق المعنى المقصود من النصوص المحتملة لأكثر من معنى. وعلى هذا فإننا نقول واثقين متيقنين ان الله تعالى بين لنا المعاني المقصودة من نصوص القران اما في القران نفسه واما في السنة النبوية لان الله تعالى, كما قال الحسن البصري: ما انزل الله آية الا وهو يحب ان يعلم ما اراد الله بها ولا يمكن تحصيل هذا العلم الا ببيان من الله ورسوله.
16) وحصول الخلاف في بعض هذه النصوص بالرغم من بيان الشرع لها كما قلنا, لا يستدعي الرجوع الى اقوال الفلاسفة لمعرفة المعنى المقصود, وانما بالرجوع الى بيان الرسول لتحكيمه في امر هذا الخلاف قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ومما يعين على معرفة المعنى المقصود الرجوع الى ما كان عليه الصحابة الكرام في امور العقيدة وما فهموه من نصوصها لانهم رضي الله عنهم اعرف من غيرهم بهذه المعاني لأسباب كثيرة (منها) انهم يعرفون لغة القران معرفة فطرة وسليقة لا معرفة تكلف وتعلم و (منها) انهم شاهدوا التنزيل وعرفوا اسباب النزول و (منها) انهم صحبوا الرسول ﷺ فعرفوا مضامين كلامه وإخباراته بالقرائن التي حفت بها وهو يحدث عنها و (منها) ما عرفوا به من حدة الذهن وصفاء النفس وعمق الايمان وهذا مما يساعد على معرفة المعنى المقصود و (منها) حرصهم على معرفة معاني القران الكريم لاسيما امور العقيدة التي هي اهم مطالب الدين, قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته الى خاتمته اقفه عند اية واساله عنه. ولو قدرنا جهلهم ببعض معاني العقيدة الإسلامية لسألوا عنها الرسول ﷺ اذ لا يعقل ان يسألوه عن جواز الوضوء بماء البحر مثلا ولا يسألوه عن معاني العقيدة الإسلامية التي يجهلونها مع علمهم بانها اساس الدين واهم مطالبه.
17) معنى القضاء والقَدَر
وبعد هذه المقدمة الوجيزة,
نسأل هنا, ما المقصود بالقضاء والقَدَر؟
والجواب بإيجاز المقصود هو أن الله تعالى سبق علمه بكل مخلوق وشاء وجوده, وأوجده وفق ما قَدَّره له, وشاء ما يصدر عنه بعد وجوده, لا يخرج عن ذلك شيء لا افعال الإنسان ولا غيرها, سواء كانت هذه الافعال خيراً أو شراً طاعة أو معصية, كما لا يخرج عن ذلك ما يصيب الإنسان وما يقع في الكون من أحداث وبهذا كله يجب الايمان, وبه يتحقق الايمان الشرعي المطلوب بالقضاء والقَدَر الذي أمر به القرآن وجاءت به السنة النبوية المطهرة.
الاصول القطعية في القضاء والقَدَر
18) وما قلنا من معنى موجز للقضاء والقَدَر يقوم على أصول قطعية يقينية تقوم عليها معاني القضاء والقَدَر وما يتصل بهذه المعاني ونذكر فيما يلي هذه الاصول مع ايراد لبعض ادلتها بإيجاز.
أولاً: سبق علم الله بالأشياء
19) فقد سبق علم الله تعالى بالأشياء قبل وجودها, وعلم ما سيحدث لها بعد وجودها وما يصدر عنها وما يصيبها, ويدخل في ذلك بداهة علمه تعالى بالإنسان وما يصدر عنه وما يحدث له. والدليل على ذلك نصوص كثيرة جداً من القرآن الكريم منها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وقوله تعالى (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) وقوله تعالى (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).
20) وعلم الله تعالى يتناول ايضا ما لم يكن لو كان كيف يكون, قال تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) وقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) وقوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ).
ثانيا: الله خالق كل شيء
21) والاصل الثاني ان الله تعالى هو الخالق المتفرد بالخلق والايجاد, فهو خالق كل شيء بلا استثناء, فما من شيء وجد بعد ان لم يكن موجوداً الا والله خالقه, ويدخل في ذلك بداهة أفعال الإنسان من طاعات ومعاصي وخير وشر, فهذه الافعال كانت معدومة ثم وجدت فلا بد ان تدخل في قوله تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ). ومن استثنى من هذا العموم شيئاً فقد أثبت مع الله خالقاً آخر وهذا هو الشرك.
والدليل على هذا الاصل نصوص القرآن الكريم ومنها قوله تعالى (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وقوله تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) وقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) وهناك نصوص اخرى كثيرة تصرح بعموم خالقية الله تعالى للأشياء فمن اخرج منها شيئاً فقد اثبت لله شريكاً في الخلق والايجاد كما قلنا.
22) وخلق الله تعالى للأشياء يكون وفق ما قدره الله لهذه الاشياء من مقادير قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) وفي الحديث الصحيح (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) والمقادير التي قدّرها الله تعالى للأشياء التي خلقها ويخلقها تعني صفات هذه الاشياء ومقوماتها وما تتميز به عن غيرها من حيث الجنس والنوع والآحاد ومن جهة تركيبها وشكلها ولونها وحجمها واجزائها ونحو ذلك.
ثالثا: عموم مشيئة الله تعالى
23) والاصل الثالث, عموم مشيئة الله تعالى, فلا يقع شيء في الكون الا بمشيئة الله تعالى, أي أن الله تعالى شاء وقوع ما وقع ولم يشأ وقوع ما لم يقع, فلم يخرج عن ذلك شيء لا أفعال انسان ولا غيرها, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, والدليل على هذا الاصل نصوص القرآن الكريم, ومنها قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا.....) وقوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وقوله تعالى (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) وقوله تعالى (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ).
24) ويدخل في عموم مشيئة الله تعالى الهداية والضلال والإيمان والشرك قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَن مِنْ الْجَاهِلِينَ) وقال تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) وقال تعالى (وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) وقوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) وقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وقوله تعالى (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الى نصوص كثيرة بهذا المعنى.
25) كما يدخل في عموم مشيئته تعالى وإرادته العامة ما يصيب الإنسان من مصائب قال تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) وقوله تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) وقوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
رابعاً: مسؤولية الإنسان عن افعاله
26) وبالرغم من أن الله تعالى خالق الاشياء, ومنها افعال الإنسان, وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فان الإنسان مسؤول عن أفعاله ويجزي عليها بالثواب أو العقاب, وهذا هو الاصل الرابع. وهذا الاصل معروف من الدين بالضرورة, فمن أصول الايمان: الايمان بيوم الحساب حيث يصير الناس بعد حسابهم يوم القيامة إما إلى الجنّة وإما الى النار, فلا حاجة لسرد الادلة على هذا الاصل وجزيئاته ومسائله فإنها معروفة حتى من قبل عامة المسلمين وصغار المتعلمين.
خامسا: استحالة الظلم على الله تعالى
27) والاصل الخامس استحالة الظلم على الله تعالى فإن الله منزّه عن الظلم, وكل أفعاله عدل ورحمة, قال تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) وقال تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وقال تعالى (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا), وقال تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ).
سادساً: لا حجّة لأحد بالقَدَر
28) والقَدَر لا يصلح حجة لأحد لدفع المسؤولية عن نفسه قال تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) والواقع أن هذا الاصل مفهوم من الدين بالضرورة, لأنه لو كان القَدَر حجة لأحد لما عذّب الله أحداً, وحيث أن الجزاء ثابت والعذاب حاصل للكافرين بناء على مسؤولياتهم عن أفعالهم كما بيّنا في الأصل الخامس, فإن الاحتجاج بالقَدَر لرفع المسؤولية وبالتالي لرفع الجزاء احتجاج باطل وساقط.
سابعاً: لا يُسأل عمًا يفعل
29) والأصل السابع أن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وعمّا يخلقه وعمّا يشاء وجوده سؤال اعتراض ومحاسبة, والدليل على ذلك قوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وهذا الاصل في الحقيقة واضح ومفهوم لأن من يسأل غيره سؤال اعتراض ومحاسبة إنما يسأله لكونه مشرفاً على المسؤول أو آمر له أو لكون المسؤول جاهلاً أو مقصراً أو متصرفاً فيما لا حق له فيه, وكل هذه الأسباب المبررة لسؤال الاعتراض والمحاسبة معدومة في حق الله تعالى, فالله تعالى هو العالم الحكيم الذي يستحيل عليه الجهل والتقصير, فهو يدبر أمور الخلق بحكمته التي لا يمكن ابداً الإحاطة بها بل لا يعرف منها إلا القليل حتى أن الملائكة المقربين خفيت عليهم حكمة الله في خلق الإنسان وإعطائه الخلافة في الأرض, قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
والله تعالى ربّ كل شيء ومليكه, وكل ما عداه فهو خاضع إليه نافذ فيه أمره فلا يتصور أن يكون الله تعالى تحت اشراف احد أو مراقبة أحد أمراً لله أو ذو سلطان عليه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والله تعالى خالق كل شيء ومالكه على وجه الحقيقة فما يجريه في العالم أو يتصرف فيه إنما هو تصرف منه تعالى فيما يملكه. وإذا كان الحال كما ذكرنا استحال ان يسأله أحد سؤال اعتراض ومحاسبة.
ثامناً: ربط الاسباب بالمُسَبِّبات
30) والاصل الثامن, أن ما قدره الله وقضاه من أفعال الإنسان وأحواله إنما قدره بأسباب, وربط الأسباب بالمُسَبِّبات سنة إلهية في جميع الموجودات فهي قانون عام شامل لها وليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب.
وقد أشار القران الكريم إلى هذا القانون في آيات كثيرة منها قوله تعالى (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) فإنزال الماء سبب لإحياء الارض, ومثله قوله تعالى: (فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فما يخلقه الله تعالى من أشياء إنما يخلقه بأسباب هو قدرها فهو سبحانه وتعالى خلق السبب والمسبب. وقال تعالى (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) فالقتال سبب نزول عذاب الله عليهم, وقال تعالى (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) وقال تعالى (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالعمل سبب لدخول الجنة وهكذا.
إلا أن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته مثل الوطء سبب الولد, وإلقاء البذر سبب للزرع, والأكل سبب للشبع, وشِرْبُ الماء سبب للري. ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل إتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة, والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة, والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب.
ومن الاسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل اسباب الاحداث الاجتماعية وما يصيب الامم من عز وذل وتقدم وتأخّر وشدّة وهزيمة وانتصار ونحو ذلك فهذه الاحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها. فهي كالأحداث من انجماد الماء وغليانه ونزول المطر فهذه احداث لها أسبابها التي قدّرها الله فمتى تحققت هذه الاسباب تحققت هذه الاحداث, وكل الفرق بينها وبين الأحداث الاجتماعية ان الأولى أسبابها منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها أما الثانية أي الأحداث الاجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وأن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج. والشرع دلّنا على هذا القانون العام قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة ليس هنا محل الكلام عليها, والمقصود هنا أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره الله بأسباب, فمن أراد حصول نتيجة معينة فلا بد من مباشرة السبب المفضي إليها.
تاسعاً: ضرورة مباشرة الأسباب
31) والإيمان بالقَدَر لا يمنع من مباشرة الاسباب ولا يدعو الى القعود والكسل كما يدعي المستشرقون والجّهال, بل على العكس يدعو الى مباشرتها كما سنفصله فيما بعد, ويكفي ان نقول هنا أن ما قدّره الله إنما قدره بأسباب كما ذكرنا في الاصل الثامن, فالأسباب والمُسَبِّبات جميعها من اقدار الله تعالى, فلا بدّ لنا من مباشرتها للحصول على ما ربط بها من نتائج أو مسببات.
32) بل ان الإعراض عن مباشرة الاسباب إعراض عن شرع الله وقدح فيه ومناقضة له, لأن الشرع الاسلامي جعل الايمان والاعمال الصالحة أسباباً لما ربط بها من نتائج كالسعادة والفلاح ورضوان الله ودخول الجنّة, كما جعل الكفر والمعاصي ومخالفة الشرع اسباباَ لما ربط بها من نتائج كالشقاوة ومقت الله ودخول النار, فمن أعرض عن هذه الأسباب كان منسلخاَ من الدين ولا ينفعه الأدعاء بأن ما قدّر لي فهو حاصل باشرت السبب أو لم أباشره, لان الله تعالى وعد بالظفر بأسباب معينة فلا بد من مباشرة هذه الاسباب, ومن رام الحصول عليها بلا اسبابها كان كمن أراد الولد بدون زواج.
33) ولكن يجب أن يعلم هنا أن مباشرة الاسباب لا يعني تعلق القلب بها أو الاعتقاد بأنها مفضية قطعاً الى نتائجها فليس في المخلوقات كلها سبب يفضي الى مسببه بصورة حتمية وقطعية بل لا بد من تضافر أسباب اخرى وأزالة مواتع حتى يؤدي السبب الى نتيجته, ولهذا كان الاعتماد القلبي في حصول النتيجة على الله وحده لا على مباشرة السبب كما سيأتي بيان ذلك.
اعتراض ودفعه
34) وقد يقال على وجه الاعتراض على ما قدّمناه من أصول أن افعال الإنسان تقع بإرادته ومشيئته واختياره قال تعالى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله تعالى (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) فإرادة الإنسان لها تأثير في ايجاد الفعل, ولهذا فان افعال الإنسان منسوبة اليه ويسأل ويجازى عليها قال تعالى (ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ) وقوله تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) وقوله تعالى (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) ومما يؤيد ذلك ان افعال المجنون لا يسأل عنها لأنها لم تقع منه بإرادة معتبرة, وعلى هذا فالقول بأن أفعال الإنسان مخلوقة لله واقعة بمشيئة الله لا يتفق وهذه الحقائق التي ذكرناها.
35) والجواب: على ذلك أن الإنسان فاعل لأفعاله حقيقة وله إرادة ومشيئة حقيقية لا مجازاً, ولكن إرادته مخلوقة لله تعالى فهي سبب لايجاد فعل الإنسان, والله خالق السبب والمسبب وكون الإنسان يفعل بإرادته لا يخرج فعله من عموم خالقية الله تعالى للأشياء فالسفن يصنعها الإنسان بيده, والله خالقها وخالق يده وإرادته قال تعالى (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) أي السفن. والبيوت يصنعها الإنسان, ومع هذا فالله هو الخالق لها قال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) فإرادة الإنسان لها تأثير في ايجاد الفعل من حيث انها سبب, وليس لها تأثير من حيث خلق الفعل ذاته وحصوله قطعا فليس في الوجود سبب تام يترتب عليه وجود الفعل حتماً. والشارع وان فرّق بين ما يخلقه من أفعال الإنسان بتوسط إرادته وبين ما يخلقه بغير توسط إرادته كما في أفعال النائم والمجنون, إلا أن هذا التفريق لا يترتب عليه خروج أفعال الإنسان العاقل المختار من عموم خالقية الله للأشياء لأن هذا العموم أصل قطعي لا يتصور خلافه ولا ورود الاستثناء عليه. واعترافنا بالفرق المذكور لا يكون على حساب عموم خالقية الله ولا على ثلم هذا العموم بدخول الاستثناء عليه. وسر المسألة أن ارادة الإنسان مخلوقة فهي إرادة تناسب المخلوق ولا يتصور أن تكون إرادة مطلقة بل لا بدّ لها من الاستناد إلى إرادة الله ومشيئته شأنها شأن سائر المخلوقات.
اعتراض آخر ودفعه
36) وقد يقال ايضا على وجه الاعتراض: إذا شاء الله من الإنسان المعصية ولم يشأ منه الطاعة فَلِمَ يحاسبه عليها؟ ولم لم يشأ منه الطاعة كما شاءها من غيره؟
37) والجواب على ذلك, أننا قدمنا أن الهداية والضلال والطاعة والمعصية تقع كلها بمشيئة الله, وهذا أصل قطعي, وقدمنا ايضا ان مسؤولية الإنسان عن أفعاله أصل قطعي آخر. والقطعيات لا تتناقض في نفسها وإن بدت متناقضة في أنظارنا. فحسبنا أن نقف عند هذه القطعيات ونؤمن بها جميعاً ولا نرد منها شيئاً. ويكفي أن نقول هنا أن مسألة القضاء والقَدَر لها تعلق بصفات الله تعالى كعلمه وحكمته وخلقه وارادته, وحيث اننا نعجز عن الإحاطة بصفات الله تعالى, فكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القَدَر, وسر القَدَر هو أن الله تعالى أضل وهدى وأسعد وأشقى وأمات وأحيا ونحو ذلك من مظاهر نفوذ مشيئته في الإنسان, وأن الإنسان مع هذا مسؤول عن أفعاله ما دامت صادرة عنه بتوسط إرادته وقدرته.
ولا يضير الإنسان عجزه عن الإحاطة بسر القَدَر لتعلقه بصفات الله تعالى, ولكن يضيره أن يترتب على عجزه رد بعض الأصول القطعة في القَدَر والتي ذكرناها. فعليه ان يعتصم بها ولا يحيد عنها وسينكشف الغطاء للإنسان في الآخرة فيعلم من امور القَدَر ما يجهله الآن.
أثر الإيمان بالقضاء والقدر في سلوك الفرد
38) بعد ان بيّنا بإيجاز معنى القضاء والقَدَر والأصول القطعية التي يقوم عليها هذا المعنى, نسأل هنا: هل لذلك من تأثير في سلوك الفرد, ام لا يتجاوز ما قلناه المعرفة النظرية التي لا أثر لها في السلوك وواقع الحياة؟
39) والجواب على ذلك بالإيجاب لأن من خصائص المعرفة في الإسلام, أية معرفة كانت وبدون استثناء, أنها تؤثر في سلوك الفرد بصورة مباشرة أو غير مباشرة وليس هنا تفصيل هذه المسألة, والذي يهمنا في هذا المقام أن نبين مدى تأثير الإيمان الصحيح بالقَدَر في سلوك الفرد في علاقته مع الآخرين وما يقوم في قلبه من المعاني وهو يباشر تصرفاته وأفعاله وفي موقفه من الحداث وعند فعله الحسنات أو ارتكابه السيئات أو إصابته بالبليات, وما يترتب على ذلك كله من شخصية قوية متينة لها وزنها وأثرها في واقع الحياة, وإليك بعض التفاصيل.
اولاً: السلوك المستقيم مع الآخرين
40) الإنسان اجتماعي بالطبع كما قيل وهو قول صحيح فلا بد له من علاقات مع الآخرين وتصرفات وأفعال معهم, وهو إما أن ينهج في هذه العلاقات منهج الصدق والاستقامة والوضوح ونحوها وإما أن ينهج في سلوكه معهم منهج النفاق والكذب والمداهنة ونحوها, وإما ان يقيمها على اخلاط من النهجين, فما مرد ذلك؟ إذا اردنا الجواب المختصر الجامع أمكننا ان نقول أن مرد ذلك كله اعتقاد الفرد بغيره على نحو معين من جهة مدى قدرة هذا الغير على النفع والضر, فإذا اعتقد ان الغير يملك القَدَرة الكاملة على المنع والضر فقد يسلك معه مسالك النفاق والمداهنة لظنّه أن هذا المسلك يأتيه بالنفع ويدفع عنه الضر. وإذا اعتقد ان الغير لا يملك في الحقيقة مثل هذه القَدَرة وإنما هو مجرد سبب وواسطة ومجرى لوصول ذلك اليه حسبما قدره العليم الحكيم الذي بيده وحده النفع والضر. ويستحضر في ذهنه قول الرسول الكريم ﷺ (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبهُ الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام، وجفت الصحف) فإن مثل هذا الاعتقاد يورث حتماً وقطعاً سلوك المسلك المستقيم القائم على الصدق والوضوح والاستقامة, بل أن هذا الاعتقاد يورث القوة والشجاعة ومواجهة الاعداء حيث تجب أو تستحب هذه المواجهة لان أقصى ما يمكن أن يناله من الأعداء هو القتل, وهذا لن يكون الا عند تمام الاجل وانتهاء رحلة الإنسان على الحياة قال تعالى (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ).
41) ومن اثار الإيمان بالقَدَر في علاقات الفرد مع الاخرين العفو عمن قصّر في حقه أو أساء اليه او ردّ إحسانه بالإساءة أو نال من عرضه بغير حق, وبيان ذلك ان صاحب الإيمان بالقَدَر يشاهد القَدَر في حالة تقصير الغير بحقه فيعلم أن ما أصابه من هذا الغير مقدور عليه, وإنما الغير واسطة لوصول المقدور عليه. وهكذا كان خلق رسول الله ﷺ, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله - ﷺ عشر سنين، فما قال لي أف قط وما قال لي لشيء فعلته لِمَ فعلته ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعله وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول " دعوه فلو قضي شيء لكان "), فهذا الحديث الشريف يدل على ترك معاينة الغير ولومه عند تقصيره فيما يجب عليه نحو الآخرين بناء على مشاهدة القَدَر, وفي حديث أخر عن الصّديقة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, وهي تتحدث عن أخلاق الرسول ﷺ (ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط, إلا أن تنتهك حرمات الله , فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله).
ففي هذا الحديث الخطّ الفاصل بين تقصير الغير في حق الشخص, وبين تقصيره في حق الله, ففي الاول يستحب العفو, وفي الثاني لا يجوز العفو, وأساس التفريق بين الحقين, وجواز العفو في أحدهما دون الآخر, هو ما قلناه في أصول القَدَر من أنه لا حجة لأحد بالقَدَر لدفع المسؤولية عن نفسه في مخالفة الشرع. وإذا كان لا حجّة في ذلك, والحق هو حق الله تعالى, فلا يملك أحد أن يعفو عن المقصر في حق الله المخالف لشرعه, كما انه ليس لأحد أن يتصرف في حق غيره بإسقاط هذا الحق. أما بالنسبة للتقصير بالحق الشخصي للفرد فإن هذا الفرد هو صاحب الحق, فيملك اسقاطه. ويقوي فيه هذا الاتجاه اعتقاده بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. على أنه يجب أن يعلم هنا أن العفو عن المقصر في الحقوق الشخصية من الامور المندوبة لا الواجبة, فمن آثر هذا المندوب كان ذلك منه خير وكرمة, وإذا اراد المجازاة فله ذلك بشرط أن يكون بالعدل القائم على المماثلة, قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وقال تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ).
ثانيا: الاستعانة بالله
42) وصاحب الايمان الصحيح بالقَدَر يعلم يقيناً ان الامر كله بيد الله خلقاً ومشيئة وتقديراً وإيجاداً فالمستعان على حصول المراد هو الله وحده دون غيره, ولهذا فهو يستعين بالله على حصول مراده, ولأمر ما كانت سورة الفاتحة تقرأ في كل صلاة, بل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب كما جاء في الحديث الشريف, وفي هذه السورة الكريمة قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإذا استعان بالله وباشر السبب وحصل المقصود فهذا من فضل الله, وإن لم يحصل المقصود لم ييأس المسلم فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير لا يعرف وجهه, فالله يعلم ونحن لا نعلم, وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قليل للغاية بالنسبة لما لا نعرفه من هذه الحكمة, وعليه – أي المسلم – أن يجدد السعي مستعيناً بالله ولا يعجز عن ذلك ولا يقل لو اني فعلت كذا كان كذا فإن هذا الكلام لا يفيد شيئاً وإنما يفتح باباً لعبث الشيطان, جاء في الحديث الشريف (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فعل؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان).
ثالثاً: الاعتماد على الله وحده
43) وصاحب الايمان الصحيح بالقَدَر يباشر الاسباب بيده ولكن اعتماده على الله وحده لا على السبب, وهكذا كان حال سيدنا محمد ﷺ, فقد اختفى ﷺ في الغار, وهذا منه ﷺ مباشرة لسبب الخلاص من المشركين, ولكن ما كان اعتماده في الخلاص من المشركين على هذا السبب وإنما كان على الله وحده, قال تعالى (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فثقته ﷺ واطمئنانه وسكينته وأمله في الخلاص المتأتية من اعتماده على الله لا يسبب الاختفاء بالغار, وفي معركة بدر بعد ان نظم ﷺ الجيش وباشر الاسباب المادية للمعركة رجع الى العريش المنصوب له يدعو ربه ويكثر من الدعاء لأنه يعلم ﷺ ان النصر بيد الله والاعتماد في تحصيله يجب ان يكون على الله لا على الاسباب التي باشرها وإن كان لا بد من مباشرتها, وهذا هو التوكل الصحيح الذي هو من ثمرات الايمان الصحيح بالقَدَر, ومن ثمرات التوكل كفاية الله, (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
رابعاً: منازعة الأقدار بالأقدار
44) من الاصول القطعية كما قلنا ضرورة مباشرة الأَسباب. وعلى هذا فإن تركها قدح في الشرع مما يدحض ادعاءات الجّهال والمغرضين من مستشرقين وفروخهم, ونزيد هنا فنقول إن صاحب الايمان الصحيح بالقَدَر ينازع القَدَر بالقَدَر, بمعنى أن لا يستسلم للقدر ما دام له دافع أو رافع أو مانع, فيأخذ من الأَسباب ما يحقق ذلك. قال الشيخ عبدالقادر الكيلاني رحمه الله تعالى (كثير من الرجال اذا وصلوا الى القضاء والقَدَر أمسكوا, وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق).
وما قاله الشيخ الجليل العارف بالله حق, ويريد بقوله رحمه الله تعالى إنه يدافع المقدور ما دام في مدافعته مجال مستعيناً بالله مبتغياً وجهه. وتفصيل ذلك ان المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع, وبرفعه ودفعه إذا وقع. فمن الأول اخذ الحمية لئلا يقع المرض, والابتعاد عن محل الوباء لئلا يصاب به الإنسان, والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من الأعداء, وليس في هذه الوقاية ومباشرة اسبابها مناقضة للإيمان بالقَدَر, وإنما أخذ بقدر لمنع قدر. والقَدَر ما دام مجهولاً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوعه, فإن كان مكتوبا عتد الله وقوعه لم يتيسر لنا مباشرة الأَسباب دفعه, أو تتيسر لنا هذه الأَسباب ولكن لا تؤدي الى نتيجتها لوجود مانع يمنع من إفضائها الى مسببها. والمقصود هنا ان مباشرة الأَسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من الاقدار ليس فيه مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو إخذ بقدر لمنع قدر لأن السبب والمسبب بقدر الله تعالى, جاء في الحديث الشريف (قيل يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقي بها ودواءً نتداوى به، وتُقى نتَّقِيَها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله) فإذا كان من قدر الله أن لا يصاب الإنسان بالمرض قدّر الله له مباشرة ما يدفع به وقوع المرض, وعندما وصل الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارف الشام وعلم بنزول الطاعون فيهم وهمّ بالرجوع قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرارً من قدر الله يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله ونقع في قدر الله) ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه : لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدبة وأخرى مخصبة فإذا نزلت بالمجدبة أو بالمخصبة أو تحولت من المجدبة إلى المخصبة فكل ذلك بقدر الله. ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرة الأَسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض, وطرد الأعداء والكفرة من ديار المسلمين بعد تسلطهم بإعداد العدة لذلك ثم قتالهم. ومثله أيضا انحباس المطر يرفع بالالتجاء الى الله والإنابة إليه واستغفاره كما هو معروف في الفقه في باب صلاة الاستسقاء, وكما دلّ عليه قوله تعالى حكاية عن نبيّه نوح عليه السلام وما قاله لقومه, قال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا....) فالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفاره من أهم الأَسباب لدفع المكروه ورفعه بعد وقوعه, ومنعه من الوقوع قبل أن يقع, وهذه معاني يفقهها أهل الإيمان لا أهل الكفر والجهالة والعصيان.
خامساً: مشاهدة القَدَر عند فعل الحسنات وما يترتب على ذلك
45) والإيمان بالقَدَر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفاً صحيحاً تترتب عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزكو أخلاقه. وتفصيل ذلك أن صاحب الايمان بالقَدَر يشاهد القَدَر ويستحضره في ذهنه عند فعل الحسنات وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفسه الاعتراف بأن ما صدر منه هو بمحض فضل الله عليه ليس له فيه شيء, وهذا يؤدي بدوره الى قمع نوازع الكِبْر والغرور والعجب بنفسه والمن على الناس ونحو ذلك من الاقذار القلبية, لأن هذه الأقذار إنما تكون في الإنسان لاعتقاده أن فيه من معاني الامتياز على غيره ما يدعوه الى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك و سواء كانت هذه المعاني أعمالاً صالحةً أو عبادة أو فعل حسنات أو قوة أو علماً أو سلطاناً أو مالاً أو كثرة اتباع ونحو ذلك. فإذا شاهد القَدَر عند فعله الحسنات, أو عند حصول شيء مما ذكرنا في يده, وعلم أن ذلك كله من عند الله وحده وما حصل على يديه هو محض فضل الله عليه, زال منه العجب والكِبْر والغرور والمنّة على الله وعلى الناس, وبالتالي تجره هذه المشاهدة وما يترتب عليها الى حمد الله وشكره وهكذا يفعل المؤمنون, قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) وهداية الله للعبد تتضمن الاعمال الصالحة التي يعملها, والعلم بالحقائق الدينية والعمل بها ونحو ذلك.
46) كما ان مشاهدة القَدَر عند فعل الحسنات تفيد المسلم من ناحية أخرى هي استدامة افتقاره إلى الله وتصرفه بهذه الكيفية وتشبثه الدائم برحمة الله وطلب عفوه وعدم الالتفات الى عمله, واعتقادهُ الجازم بأن فوزه في الآخرة إنما يكون بمحض فضل الله ورحمته لا بعمله, لأن عمله الطيب إنما هو محض فضل الله فلا يستحق به الجنة وإنما يستحقها بفضل آخر من الله تعالى, ولهذا جاء في الحديث الشريف: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
47) ولكن قد يقول بعض الناس: قولكم منقوض بقوله تعالى (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فدخول الجنة إنما يكون بالعمل فكيف تنفونه؟ أو تقللون من شأنه؟ والجواب أن الآية الكريمة دلّت على أن العمل سبب لدخول الجنة, فالباء في قوله تعالى (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) هي باء السببية ونحن لا ننكر الأَسباب, ولا كون العمل الصالح سبباً للجنة, والذي نتكلم فيه وننفيه أن يكون العمل عوضاً وثمناً مكافئاً لدخول الجنة, وهذا ما نفاه الحديث الشريف. فالباء في قوله ﷺ (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) هي باء المعاوضة والثمنية كما في قول القائل اشتريت هذا القلم بدرهم, فالعمل ليس عوضاً ولا ثمناً لدخول الجنة, ولا يصلح أبداً أن يكون عوضاً لها. ولتقريب هذا المعنى إلى الأذهان نقول إن الإنسان لو عبد ربه عمره كله وأتى بالصالحات فأية نسبة بين ما تقدم من عمل صالح في عمره المحدود وبين نعيم الجنة الدائم الممدود؟ أية نسبة بين عمل في زمن يتناهى, وهو عمر الإنسان, وبين زعيم لا يتناهى وهو نعيم الجنة؟ فلا بد أذن من فضل الله ورحمته ليظفر المؤمن بالجنة, وهذا المعنى لا يمكن تحصيله وانصباغ النفس به إلا بالمشاهدة الدائمة للقدر عند فعل الخير والحسنات.
48) وفائدة أخرى لمشاهدة القَدَر عند فعل الحسنات هي أن المسلم إذا فعل خيراً لغيره وهذا من الحسنات, قد تتحرك فيه نوازع المنة على الغير وحب الاستعلاء عليه والاستشراف الى طلب العوض منه, فهذه النوازع تموت اذا شاهد القَدَر وهو يفعل الخير لغيره لأنه بهذه المشاهدة يعلم انه واسطة فقط لإيصال ما قدره الله من خير لذلك الغير فلا داعي أذن لأن يمنّ هو على هذا الغير أو يستعلي عليه أو يتطلع الى العوض منه, أرأيت لو أن سيداً أرسل خادمه بهدية الى شخص أيكون من حق الخادم ان يمُن على المهدي إليه أو يستعلي عليه بهذه الهدية وهو محض واسطة لإيصالها إليه؟.
وإذا كان صاحب الإيمان لا يمن ولا يستعلي على من فعل له خيراً, فمن باب أولى أن لا يكون كذلك إذا لم يفعل له شيئاً, وبهذا المسلك الحميد من صاحب الإيمان بالقَدَر, أي بفعله الخير للناس دون منّة أو استعلاء عليهم أو طلي العوض منهم يكون من الذين قال فيهم (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).
سادساً: مشاهدة النفس عند فعل السيئات وما يترتب على ذلك
49) وصاحب الإيمان الصحيح بالقَدَر يشاهد نفسه عند فعل السيئات وارتكاب المنهيات ولا يحتج بالقَدَر على عصيانه لأنه لا حجّة لأحد فيه, كما بيّنا, وإنما يحتج يرجع الى نفسه ليوبّخها وينهض من كبوته حالاً كما ينهض من الوحل إذا وقع فيه ويعقد العزم على عدم العودة إلى الذنب, ويتوجه إلى الله بالاعتراف بالذنب بانكسار قلب, وبهذا كله علمنا القرآن وضرب لنا الامثال وقصّ علينا مواقف أنبيائه الكرام في مثل هذه الأحوال, قال تعالى عن نبيه آدم عليه السلام (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وقال تعالى عن موسى عليه السلام (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) وفي الحديث الشريف (سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) أو كما قال ﷺ. أما من يشاهد القَدَر عند فعله السيئات محتجاً به دافعاً المسؤولية عن نفسه فمثله مثل إبليس حين قال كما أخبرنا الله عنه (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وكان عاقبته كما هو معروف الطرد من رحمة الله.
سابعاً: مشاهدة القَدَر عند المصائب
50) نريد بالمصائب ما يصيب الإنسان من ألم أو أذى أو ضرر مادي أو معنوي في نفسه أو بدنه أو أهله أو إخوانه أو من يهمه امره وشأنه وهذه المصائب بهذا المعنى تسمى بلاء وفتنة وابتلاء لما فيها من امتحان للعبد في هذه الدنيا. والواقع أن الدنيا دار بلاء وابتلاء ولا يمكن أبداً أن ينجو الإنسان من مصائبها, فالموت مثلاً لا بد منه وفيه فراق الأحبة وما يتبع ذلك من ألم. وإذا كانت الدنيا هذه شأنها فإن اكثر الناس فيها بلاء هم المؤمنون ثم الامثل فالأمثل امتحاناً لإيمانهم ولتعرضهم الى اصلاح الناس. وبهذا مضت سنّة الله, قال تعالى (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) وقال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
51) واذا كان الامر كما وصفنا فما موقف صاحب الايمان الصحيح بالقَدَر عند المصائب التي تمر به أو تنصبُّ عليه؟ الجواب على ذلك يحتاج الى شيء من التفصيل:
أ- أنه يستحضر حالاً في ذهنه ما علمه الله تعالى من معاني القَدَر ومنها في الآية الكريمة (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال بعض السلف في تفسير هذه الآية: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم انها من عند الله فيرضى ويسلم. وفي الحديث الشريف (وأعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك). وبهذا تهدأ نفس صاحب الايمان بالقَدَر ولا تنال منه المصائب إلا كما تنال الموجة الفاترة من الصخرة الصماء, أما غيره فإنه قد ينكسر أمام المصائب وتذهب نفسه حسرات, ويظل يولول ويشتكي.
ب- صاحب الايمان بالقَدَر يتذرع بالصبر الجميل في جميع انواع المصائب, والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع ولا تذمر ولا تسخط على الاقدار, قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
ج- وإذا كانت المصيبة مما يمكن دفعها كالمرض مثلاً, دفعها بالأَسباب المشروعة والمقدورة فإن اندفعت فبها, وإن لم تندفع أعاد المحاولة دون ضجر أو سخط فإن في تأخير رفع البلاء حكمة نجهلها ولكن هذا لا يمنع من الحرص على دفع المصيبة والسعي لذلك.
د- مصيبة لا يمكن دفعها ولا رفعها لأنها وقعت وانتهى الأمر كالموت مثلاً, وفي هذه الحالة يفقه صاحب الايمان بالقَدَر قوله تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
فنحن ملك لله, والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء ومتى يشاء ونحن راجعون الله فيجازينا على أعمالنا, فمن صبر جوزي بأحسن الجزاء بغير حساب قال تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ). ثم إن الجزع عند المصيبة لا يرد مفقوداً ولا يمنع مقدوراً فلا نتيجة له إلا سخط الرب. وما أحسن كلمة الإمام علي رضي الله عنه: إن تصبر تصبر وأنت مأجور, وإن تجزع تجزع وانت مأزور ولن يرد المقدور.
الخاتمة
52) وبعد فهذا ما أردت بيانه في مسألة القضاء والقَدَر, وقد هدفت من ورائه إعانة المخالف على رؤية الحق في هذه المسألة وكشف الشُبَه عنه, وإظهار بعض آثار الايمان الصحيح بالقَدَر في سلوك الفرد في علاقاته مع الآخرين وموقفه من أفعاله وما يصيبه ليتبين أن أمور العقيدة في الإسلام هي الأصل في نوع سلوك الإنسان ومواقفه من احداث الحياة, فإن وفقت إلى ذلك فهذا محض فضل الله, وإن لم أوفق إلى ذلك فإني أرجو أن لا يفوتني شيء من الثواب لأن الأصل في نواله حسن النوايا والقصود لا حصول المراد والمقصود والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبدالكريم زيدان
نشرت بتاريخ: 2015-03-01 (16893 قراءة)