المؤلفات --> الكتب
السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية
السُّنَّن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية
كتاب الفهُ الشيخ عام 1413هـ -1993م, يقع في (300) صفحة, وهو من الكتب القلائل التي تناولت موضوع السنن الالهية قديما وحديثا, ويُعتبر مع كتاب "المستفاد من قصص القران للدعوة والدعاة" متمم لكتاب أصول الدعوة كما كان يذكر ذلك - رحمه الله - ويوصي طلبة العلم والدعاة خصوصاً بقراءته.
تُرجم الكناب الى اللغة الانكليزية واللغة الكردية.
يقول الشيخ عن هذا الكتاب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن هذا العالم بكل ما فيه ومن فيه من نبات وجماد وحيوان وإنسان وأجرام سماوية، وما يصدر عن هذه الموجودات وما يتعلق بها ويحل فيها، وما يقع من حوادث كونية كنزول المطر وهبوب الريح وثوران بركان وتعاقب الليل والنهار، وما يحصل للإنسان من أطوار خلقه وتكوينه في بطن أمه وما يحدث له وللأمة من شقاء وسعادة ورفعة وسقوط وعلو وانحطاط وقوة وضعف وبقاء وفناء ونحو ذلك ,كل ذلك الذي ذكرنا وجوده وحدوثه في العالم لا يقع صدفة ولا خبط عشواء وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
الوجه الأول لهذا القانون العام
ولهذا القانون العام الذي أشرت إليه وجهان:
(الوجه الأول) هو الذي تخضع له جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية، ويخضع له كيان الإنسان المادي وما يطرأ عليه مثل نموه وحركة أعضائه ومرضه وهرمه ولوازم بقائه حياً ونحو ذلك. وهذا الوجه من القانون العام وما يخضع له مما ذكرناه من الأمور المادية للكائنات، أقول هذا الوجه من هذا القانون لا يختلف في وجوده أهل العلم بهذه الأمور المادية، ولا يختلفون في خضوع ما ذكرناه له.
دلالة وجود هذا الوجه من القانون
ووجود هذا الوجه من القانون العام من أكبر الأدلة على وجود الله تعالى الخالق العظيم لأنه لا يمكن للمادة وهي جامدة صمّاء لا تعقل أن تضع هذا القانون الهائل الدقيق لهذه الموجودات، وإنما المعقول والمقبول أن يكون واضع هذا القانون هو خالق هذه الموجودات, وهو الله جلّ جلاله.
دلالة القرآن على هذا الوجه من القانون
قد دلّ القرآن الكريم على هذا الوجه من هذا القانون العام في آيات كثيرة، منها قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ*لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، وفي خلق الإنسان وخضوعه لهذا الوجه من القانون قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ , ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، من الواضح البيّن أن خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها وهو في بطن أمه يخضع في ذلك كلّه إلى قانون عام ثابت.
من سمات هذا القانون الثبات والاستمرار
ومن سمات هذا القانون العام في وجهه الأول، ثباته واستمراره بدليل اطّراد أحكامه وسريانها على الحوادث والظواهر التي يحكمها هذا القانون، فالأرض تحيا بالمطر ويخرج به منها النبات، قال تعالى: (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ). وكذلك جريان الشمس والقمر، وجريان الفلك في البحر وفقاً لهذا القانون العام ، قال تعالى: (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، ومما يدل على ثبات هذا القانون بوجهه الأول الذي نتكلم عليه أن الله تعالى يلفت الأنظار إلى هذه الظواهر الكونية ويجعلها من الآيات الدالة على خالقيته وربوبيته لقوم يعقلون ويتفكرون، ولولا اطراد حدوثها مما يدل على خضوعها لقانون ثابت لما صح لفت الأنظار إليها واعتبارها من آيات الله تعالى. فمن هذه الآيات قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ووجه تعالى بهاتين الآيتين أن حصول تسخير الله تعالى البحر وما خلقه في السموات والأرض لمنافع الناس إنما يكون بأن يعرف الناس كيف يستمدون منافعهم من هذه المُسخَّرات وذلك بأن يعرفوا ما تخضع له هذه الموجودات من قواعد ثابتة أي من قانون عام في وجودها وطرق الانتفاع بها بموجب هذا القانون العام .وقال تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). وقال تعالى: (وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
).
علم الإنسان يعني علمه بهذا القانون
وعلم الإنسان المتعلق بالموجودات من حيث كيانها المادي وما يتعلق بها من حوادث مادية ، هذا العلم يعني العلم بهذا القانون العام الذي يحكمها. وبقدر ما يعرف الإنسان القانون: وجزئيات هذا القانون العام يكون مقدار علمه ومقدار ما يمكنه الاستفادة منه. إن الإنسان لا يستطيع أن يغير شيئاً من هذا القانون، وإنما يستطيع أن يوسع معرفته بتفاصيله وجزئياته الكثيرة جداً بما أعطاه الله تعالى من آلات المعرفة بهذا القانون، فما هي هذه الآلات؟
آلات المعرفة بهذا القانون
وآلات المعرفة بهذا القانون العام هي ما أشارت إليه الآية الكريمة: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (وَجَعَلَ لَكم) أي ما ركّب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به. وفي تفسير القرطبي: (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) أي التي تعلمون بها وتدركون.
سبيل المعرفة بالقانون العام (بوجهه الأول):
وسبيل المعرفة بالقانون بالآلات التي ركبها الله في الإنسان (السمع والبصر والأفئدة) يكون بالمشاهدة والنظر والتأمل واستخلاص النتائج في ضوء ذلك للتعرف على القواعد التي تحكم موجودات هذا العالم وحوادثه المادية. جاء في تفسير الآلوسي بصدد الآية الكريمة: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهاتكم، لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، قال الآلوسي رحمه الله تعالى (والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم ـ أي بعقولكم ـ وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية). والقرآن الكريم أمر بالنظر والتفكير فيما خلق الله في السموات والأرض ليزداد الناس يقيناً بأن الله هو الخالق العظيم ، وليعلموا أن ما خلقه الله كان بدقة ونظام، وأن كل ما فيه يجري بأمر الله، أي وفق ما وضعه له من نظام . فمن هذه الآيات الداعية إلى النظر في الكون والتأمل بما فيه للوقوف على أسراره وكيفية جريانه، قوله تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، فالأصل في معرفة هذا القانون العام في وجهه الأول هو النظر والمشاهدة والتأمل والاستقراء والتجارب . ومع هذا يوجد في القرآن الكريم إشارات لحقائق علمية يشملها هذا القانون العام ـ في وجهه الأول ـ أو إنها بعض تطبيقاته ذكرها الله تعالى في معرض بيان عظيم قدرته وعموم مشيئته وإرادته وتنظيمه لأمور مخلوقاته من ذلك كيفية تكوين المطر وإنزاله وكيفية تلقيح النبات بالرياح كقوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) ومثل الإشارة إلى قلة الضغط الجوي كلما ارتفع الإنسان في أعالي الجو ، وهذا يفهم من تشبيه حال الضال وتضيُّق صدره بحال من يصعّد في السماء في قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
ومعرفة هذا القانون في وجهه الأول مباحة للجميع ويمكن الحصول عليها من قبل المسلم والكافر، وأكثرهما جدية ونشاطاً ونظراً وبحثاً وسعياً أكثرهما وقوفاً عليه وإحاطة بجوانبه وجزئياته. فهذا العلم مشاع للجميع ولا يختص المسلمون بشيء منه باعتبارهم مسلمين، اللهم إلا في القصد من تعلمه وفي أوجه الانتفاع منه، لأن قصد المسلم وأوجه انتفاعه بالأشياء وبما يعلم، كل ذلك محكوم بحكم الشريعة الإسلامية فما تبيحه أو توجبه فهو المباح أو الواجب وما تنهى عنه فهو المكروه أو الحرام.
الوجه الثاني من القانون العام:
أما الوجه الثاني من القانون العام فهو الذي يتعلق بخضوع البشر له باعتبارهم أفراداً وأمماً وجماعات. وأعني بخضوعهم له خضوع تصرفاتهم وأفعالهم: في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء والعز والذل والرقي والتأخر والقوة والضعف ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا وما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم وفقاً لأحكام هذا القانون بوجهه الثاني، وهذا هو موضوع بحثنا في هذا الكتاب.
هل يوجد هذا القانون في الشريعة الإسلامية
ونتساءل هنا هل يوجد هذا القانون بوجهه الثاني في الشريعة الإسلامية ويخضع له البشر في أفعالهم وسلوكهم وما يترتب عليها من نتائج في ضوء قواعد هذا القانون وأحكامه؟
والجواب: إن الشريعة الإسلامية ـ بكتابها العزيز القرآن ، وبالسنة النبوية الكريمة ـ تبين بوضوح وجلاء وجود (سنة عامة) لله تخضع لحكمها تصرفات البشر وأفعالهم وسلوكهم ومواقفهم من شرع الله وما قد يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة، فهل تعني (سنة الله) ما نعنيه بالقانون العام الذي نتكلم عليه؟ والجواب يعرف بعد ان ابين تعريف سنة الله في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء وعلماء التفسير.
تعريف سُّنَّة الله
السُّنَّة
في اللغة تعني السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، كما جاء في لسان العرب لابن منظور. وفي النهاية لابن الأثير: والأصل في هذا اللفظ ـ السنّة ـ الطريقة والسيرة. وفي حديث المجوس (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراهم. وقال الفيروز آبادي في معنى السنة: والأصل فيها الطريقة والسيرة ومنه قول النبي ﷺ: (من سنّ سنة حسنة) أي طرق طريقة حسنة، وسنة النبي ﷺ طريقته التي كان يتحرّاها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (و السُّنَّة
هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار). وقال الإمام الرازي في تفسيره: (و السُّنَّة: الطريقة المستقيمة والمثال المتبع)، وقال رشيد رضا صاحب تفسير المنار: (السنن جمع سنة، وهي الطريقة المعبدة أو السيرة المتبعة أو المثال المتبع).
التعريف المختار لسنة الله
يلاحظ أن هذه الكلمة يدور معناها على معنى (الطريقة المتبعة) فيكون معنى (سنة الله) هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبيائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
سنة الله هي القانون العام
وحيث أن سنة الله تعالى المتعلقة بأفعال البشر وسلوكهم هي طريقته المتبعة في معاملته للبشر، كما قلنا، وما يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة، فهذا يعني أن
معنى (السنة) هو معنى (القانون العام) من حيث خضوع أفعال البشر وسلوكهم إلى أحكام هذه (السنة) التي يمكن تسميتها بالقانون العام.
سنة الله تتسم بالثبات والاطراد والعموم
وما دامت (سنة الله) هي القانون العام الذي يحكم أفعال البشر وسلوكهم فإنها تتسم بالثبات والاطراد والعموم ، وهذا هو شأن القاعدة القانونية. فهي ثابتة لا تتغير، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)
, وقال تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً).
وهي مطردة لا تتخلف، ويدل على اطرادها أن الله تعالى قصّ علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر ولا نفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها. فمن هذه الآيات قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) بعد أن قصّ الله تعالى علينا ما حلّ ببني النضير لسوء أعمالهم، قال الآلوسي في هذه الآية: أي فاتعظوا بما جرى عليهم ـ أي على اليهود من بني النضير ـ من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعتبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى ـ الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم كارهين ـ إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عزّ وجلّ بل توكلوا عليه. وكذلك قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ). وهي، أي سنة الله، تتصف بالعموم أي أنها عامة يسري حكمها على الجميع دون محاباة ولا تمييز، قال تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ)، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم . وقال تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)، والمعنى أن كل من يعمل سوءاً يلق جزاءه ؛ لأن الجزاء بحسب سنّة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه. فسنّة الله تعالى ثابتة ومطردة وعامة غير مقتصرة على فرد دون فرد ولا على قوم دون قوم. ولولا ثباتها واطرادها وعمومها لما كان معنى في ذكر قصص وأخبار الأمم السابقة وطلب الاعتبار بما حل هم، ولكن لما كان ما جرى لهم وعليهم يجري على غيرهم إذا فعلوا فعلهم، حسن ذكر قصصهم وطلب الاعتبار والاتعاظ بها.
السبيل لمعرفة سنّة الله
والسبيل لمعرفة (سنة الله) أي الوجه الثاني للقانون العام هو الرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنّة نبيه الكريم محمد
ﷺ
فما فيهما هو القول الفصل، وما بيّناه ـ أي القرآن والسنّة النبوية ـ من أنه هو (سنة الله) أي قانونه العام الذي تجري بموجبه أحداث ووقائع البشر، فهذا البيان هو الحق المبين والقول الصدق: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)، وهو الإخبار الحق الصادق عن هذا القانون العام (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً
).
الإخبار عن (سنّة الله) بصيغ متنوعة
وقد يخبرنا الله تعالى عن (سنته) أي عن القانون العام الذي وضعه الله لحكم سلوك البشر وأفعالهم وما يصيبهم، قد يخبرنا عن ذلك بغير لفظ (السنّة) كأن يعبر عن (سنّته) بتقرير نتيجة معينة بناء على وصف معين أو حالة معينة أو بناء على سبب أو شرط معينين، فيكون هذا الإخبار بهذه الصيغ إخباراً عن سنة ثابتة لله تعالى كما في قوله تعالى (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
أهمية دراسة سنن الله
وسنن الله تعالى التي بيّنها الله في القرآن الكريم أو بيّنها الرسول
ﷺ
جديرة بالدراسة والفهم، بل إن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جداً والواجبة ديانة، لأن معرفتها معرفة لبعض الدين قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). قال الآلوسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية (والمراد من (كُلِّ شَيْءٍ) ما يتعلق بأمور الدين أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك، ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم). ومن الواضح أن أحوال الأمم مع أنبيائهم التي اعتبرها الآلوسي رحمه الله بحق أنها من جملة الدين، هذه الأحوال تعني ما جرى لهم مع انبيائهم وما حلّ فيهم بسبب سلوكهم معهم وموقفهم منهم وفقاً لسنّة الله، وما طلبه الله منا من الاتعاظ والاعتبار بهم. فيتحصل من ذلك أن معرفة سنن الله جزء من معرفة الدين أو معرفة لجزء من الدين ، وأن هذه المعرفة ضرورية. ومن الواجبات الدينية لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو ممّا حذّرنا الله منه، ونظفر بما وعد الله به عباده المؤمنين المتقين.
الغرض من تأليف هذا الكتاب
والغرض من تأليف هذا الكتاب توضيح بعض معاني الشريعة الإسلامية للمسلمين ونرها فيما بينهم لتبصيرهم بها ودعوتهم إلى فحص نفوسهم وصفاتهم وأحوالهم وما هم عليه كأفراد أو أمم أو دول أو جماعات في ضوء سنن الله التي بيّنها لنا، وليعلموا يقيناً أن ما هم عليه مما يحزن المحب ويسرّ له العدو، وما أصابهم وما حلّ في ديارهم ، لم يحدث شيء من ذلك قط (صدفة) أو خبط عشواء، بل كان نتيجة حتمية لما فعلوه أو قصّروا في فعله أو تسببوا في فعله أو التقصير فيه .. وليعلموا أيضاً على وجه اليقين أن الخلاص من الحالة السيئة التي هم عليها لا يكون أبداً إلا باتباع ما تقضي به سنن الله تعالى وليس باتباع غيرها أو اتباع ما يناقضها. وليعلموا أيضاً أن من يريد تبديل حاله السيئ بغير تهيئة مقتضيات التبديل مثله كمثل من يريد تبريد الماء بوضعه على النار أو يريد تسخينه بوضعه على الثلج.
إن تأليف هذا الكتاب وفصوله ليس من قبيل الترف العقلي أو لغرض التأليف العلمي النظري البحت، وإنما هو لأجل تعريف أحبائي وإخواني المسلمين في كل مكان ببعض حقائق الإسلام العظيم ومعانيه وقوانينه الثابتة، لا ليخزنوا هذه المعرفة في رؤوسهم وإنما ليجعلوها محركاً ودافعاً لنفوسهم للعمل الجدّي الصحيح الدؤوب الصامت وفقاً لمقتضيات سنن الله في التبديل والتحويل من السيئ إلى الحسن، ومن حياة الذل إلى حياة العز، ومن التبعية الذليلة المهينة للطواغيت والكفرة والفجرة، إلى حيث أراد الله تعالى للمؤمنين من العزّة والكرامة والقيادة للبشر جميعاً، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
منهج البحث وفصوله
قلنا إن موضوع بحثنا في هذا الكتاب هو الوجه الثاني من القانون العام الذي يحكم المخلوقات في هذا العالم. والوجه الثاني من هذا القانون العام هو (سنة الله)المادية، بسلوك البشر وأفعالهم في الدنيا وما يترتب عليها من نتائج في الدنيا والآخرة. أما الوجه الاول من القانون العام، فيقابله أيضاً في اصطلاحنا الشرعي (سنة الله). ولكن هذه السنة تتعلق بالأشياء والظواهر والأحداث المادية، وهذه السنّة لا أتكلم عليها إلا على سبيل التمثيل والاستطراد وهي على كل حال شيء قليل جداً.
وعلى هذا فقد جعلت هذا الكتاب فصولاً، وجعلت لكل فصل عنواناً، وهذا العنوان اقتبسته من مضمون الفصل، وهذا المضمون هو بعض ما اشتملت عليه (سنة الله).. كل ذلك ليسهل على القارئ الإحاطة بمواضيع الكتاب بيسر ودون اضطراب أو تشويش,
وهذه الفصول هي:
الفصل الأول: سُّنَّة الله في الاسباب والمسببات [
قانون السببية
].
الفصل الثاني: سُّنَّة الله في اتباع هداه والإعراض عنه [
قانون الهدى والضلال] .
الفصل الثالث: سُّنَّة الله في التدافع بين الحق والباطل [
قانون التدافع]
.
الفصل الرابع: سُّنَّة الله في الفتنة والابتلاء [
قانون الابتلاء]
.
الفصل الخامس: سُّنَّة الله في الظلم والظالمين [
قانون الظلم]
.
الفصل السادس: سُّنَّة الله في الاختلاف والمختلفين [
قانون الاختلاف]
.
الفصل السابع: سُّنَّة الله في المتساوين والمختلفين [
قانون التماثل والأضداد]
.
الفصل الثامن: سُّنَّة الله في الترف والمترفين [
قانون الترف]
.
الفصل التاسع: سُّنَّة الله في الطغيان والطغاة [
قانون الطغيان]
.
الفصل العاشر: سُّنَّة الله في بطر النعمة وتغييرها [
قانون النعم وتغيرها].
الفصل الحادي عشر: سُّنَّة الله في الذنوب والسيئات [
قانون الذنوب والسيئات].
الفصل الثالث عشر: سُّنَّة الله في الاستدراج [
قانون الاستدراج]
.
الفصل الرابع عشر: سُّنَّة الله في المكر والماكرين [
قانون المكر].
الفصل الخامس عشر: سُّنَّة الله في طلب الدنيا والآخرة [
قانون طلب الدنيا والآخرة]
.
الفصل السادس عشر: سُّنَّة الله في رزق العباد [
قانون الرزق]
.
الفصل السابع عشر: سُّنَّة الله في [
قانون الفظاظة والغلظة والرفق
]. |