المؤلفات --> البحوث الفقهية
نظرية التجديد في الفكر الإسلامي
نظرية التجديد في الفكر الإسلامي
بحث قام الشيخ بكتابته عام 1430هـ –2009م والقاه في المؤتمر الدولي الثامن لرابطة الجامعات الاسلامية, نُشر هذا البحث مع مجموعة بحوث فقهية اخرى بكتاب يحمل عنوان (مجموعة بحوث فقهية معاصرة), قام الشيخ ايضا بالتعليق على البحث والاجابة على الاسئلة اثناء قراءته عليه من قبل بعض طلبة العلم (التعليق منشور – صوت وصورة - في الموقع بصفحة المرئيات).
1) المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن لفظ (التجديد) صار شعارا شائعا يرفعه، وينادي به، ويدعو إليه، الكثير من الكتاب والباحثين في الفقه الإسلامي، وتحت هذا الشعار (شعار التجديد) يأتون بآراء وأفكار ومطالب لتحقيق (التجديد) الذي يدعون إليه.
2) والذي أراه قبل الكلام عن التجديد في الفكر الإسلامي أن أبين مفهوم التجديد في الإسلام؛ لأن الفكر الإسلامي هو الذي لا يحمل إلا معاني ومفاهيم الإسلام، وبدون ذلك لا يجوز وصف الفكر بأنه إسلامي.
وبعد أن أبين مفهوم التجديد في الإسلام، وما قد يعتريه من خلل، أبين التأصيل الشرعي له أي المستند الشرعي له؛ لأنه لا يجوز تقويل الإسلام ما لم يقله، ولا تحميل مصادر أحكامه ما لا تحتمل، ثم أبين بعد ذلك ضوابط هذا التجديد في الإسلام.
3) وبناءً على ما تقدم أقسم هذا البحث إلى ثلاثة فصول على النحو الآتي:
الفصل الأول: مفهوم التجديد في الإسلام، وما قد يصيبه من خلل.
الفصل الثاني: التأصيل الشرعي للتجديد في الإسلام.
الفصل الثالث: ضوابط التجديد في الإسلام.
الفصل الأول: مفهوم التجديد في الإسلام
4) ورد لفظ التجديد في الإسلام في الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود -رحمه الله- في سننه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- إن رسول الله ﷺ قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وجاء في شرح هذا الحديث النبوي الشريف: والمراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما.
5)
التجديد في الإسلام لا يعني تغييره
والتجديد في الإسلام لا يعني تغيير الإسلام، وإنما يعني العودة إليه بالعمل بما جاء في الكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإزالة ما علق أو يعلق بهما مما ليس فيهما، وبهذا يتحقق التجديد بمفهومه في الإسلام.
6)
الأدلة على أن التجديد في الإسلام لا يعني تغييره
الدليل الأول:
إن الله تعالى هو الذي يختار من يرسله إلى الأمة الإسلامية لتجديد دينها، ودينها هو الإسلام الذي اختاره الله تعالى لها، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)، فلا يعقل أن يكون مبعوث الله تعالى الذي يرسله إلى الأمة الإسلامية يرسله لغرض تغيير دينها الذي ارتضاه لها.
الدليل الثاني:
إن تغيير الإسلام يعني نسخه، أو مجيء أو تقديم بديل عنه، وهذا غير ممكن لأن القاعدة الشرعية في النسخ أن يكون الناسخ بقوة المنسوخ، وحيث أن الإسلام وهو دين من عند الله تعالى، فلا يمكن نسخه إلا بدين جديد من عند الله تعالى، وهذا يستلزم أن يبعث الله رسولا يأتي بهذا الدين الجديد من عند الله تعالى، وهذا غير ممكن مطلقا ؛ لأن الله تعالى أخبرنا بأن لا نبي بعد نبينا محمد ﷺ، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، فلا يجوز شرعا القول بأن (التجديد) في الإسلام يعني تغييره أو إمكان هذا التغيير.
7)
من يشملهم مفهوم التجديد في الإسلام
والأمة الإسلامية هي المشمولة والمخاطبة بمفهوم التجديد في الإسلام كما يدل عليه الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه، ولكن هل المقصود بالأمة جميع أفرادها؟ والجواب: المقصود بالأمة هم أكثر أفرادها، وهم الذين قام فيهم ما يستدعي أو يستوجب مخاطبتهم بمفهوم التجديد، وهو وقوع المخالفة منهم لشرع الله تعالى، أما غيرهم وهم طائفة من الأمة فإنها غير مشمولة، ولا مخاطبة بمفهوم التجديد؛ لأنها لا تزال باقية على أمر الله تعالى وملتزمة بشرعه.
ويدل على ما أقول ما جاء في حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الإمام البخاري وفيه: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، وروى هذا الحديث النبوي الشريف الإمام مسلم في صحيحه بلفظ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله بأمره).
8)
ما يشمله التجديد
وما يشمله التجديد في الإسلام، أي مضمون هذا التجديد، وما يتعلق به فهو كل ما يعتبر خللا في موقف المسلم من الإسلام، أي مخالفا لأحكام الإسلام ومفاهيمه، وحيث أن هذا المضمون للتجديد في الإسلام واسع جدا فقد اخترت من هذا المضمون ثلاثة أنواع من هذا الخلل؛ لأنها من أعظم المخالفات للإسلام التي وقع فيها المسلمون ولا يزالون واقعين فيها وتستحق الأولوية في التجديد وهي:
أولا: الخلل في مرجعية المسلمين
ثانيا: الخلل في موقف المسلمين من الدنيا والآخرة
ثالثا: الخلل في مفاهيم المسلمين
أولا: الخلل في مرجعية المسلمين
9) وقبل بيان وجه الخلل في مرجعية المسلمين أذكر التعريف الشرعي لمرجعية المسلمين ثم أتبع ذلك ببيان وجه الخلل الذي وقع فيه المسلمون في موقفهم من هذه المرجعية الشرعية.
10)
التعريف بمرجعية المسلمين الشرعية
وهي أيضا مرجعية كل مسلم التي يرجعون إليها لمعرفة الحكم الشرعي لما يريدون فعله أو تركه، وفي ضوء هذه المعرفة يقدمون على ما يريدون فعله أو تركه أو يحجمون عنه على وجه الإيجاب أو الندب لهذا الفعل أو الترك، أو بترك الخيار لهم في الفعل أو الترك.
11) وهذه الجهة التي يرجع إليها المسلمون لمعرفة الحكم الشرعي؛ لما يريدون فعله أو تركه، هذه الجهة هي الإسلام بجميع أحكامه ومفاهيمه، والدليل على هذه المرجعية الشرعية قوله تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)، وقد جاء في تفسيرها: الخطاب في هذه الآية لجميع المكلفين، والمكلف هو كل مسلم بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى، والمقصود بقوله تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) هو القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة لأنها مثل القرآن في وجوب الإتباع، ولهذا قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).
وأيضا فإن السنة النبوية وحي من الله تعالى لرسوله ﷺ فهي مثل القرآن الكريم من هذه الجهة، أي من جهة أن كلا منهما وحي من الله تعالى، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى)، والفرق بينهما أن القرآن الكريم لفظه ومعناه وحي من الله تعالى، أما السنة فألفاظها من الرسول ﷺ، أما معناها فهي وحي من الله تعالى، ولهذا يقرن الله تعالى وجوب طاعة الرسول بطاعته في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُول)، ويجعل الطاعة للرسول ﷺ طاعة لله تعالى، قال تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ).
12)
خصائص مرجعية المسلمين
قلنا إن الإسلام هو مرجعية المسلمين، فخصائصه إذن هي خصائص هذه المرجعية للمسلمين، وأذكر فيما يأتي بعض هذه الخصائص:
13) الخصيصة الأولى لمرجعية المسلمين:
الشمول
وأعني بهذا الشمول أن جميع ما يتعلق بالمسلمين باعتبارهم أمة واحدة أو باعتبارهم أفرادا أو جماعات أو أحزابا أو حكومات؛ فكل ما يتعلق بهؤلاء، وما يصدر منهم من أفعال، أو تروك، يخضع لأحكام الإسلام الذي هو مرجعية المسلمين كما قلت، وعلى المسلمين أن يرجعوا إليه ليعرفوا الحكم الشرعي لما يريدون فعله أو تركه، ولهذا يعرّف علماء أصول الفقه الحكم الشرعي بأنه (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وهم كل مسلم بالغ عاقل، بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع).
والمراد بخطاب الله: كلامه مباشرة أو بصورة غير مباشرة، والمراد بكلامه مباشرة القرآن الكريم، وبكلامه بصورة غير مباشرة هو ما يرجع إلى كلامه من سنة نبوية شريفة، أو مصدر من مصادر الأحكام المعتبرة التي دلت عليها وأرشدت إليها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كالإجماع والقياس.
والمراد بالاقتضاء: الطلب سواء كان طلب فعل أو طلب ترك، وسواء كان هذا الطلب بنوعيه على سبيل الإيجاب والإلزام أو على سبيل الترجيح.
والمراد بالتخيير: الإباحة للمكلف لأن يفعل الشيء أو يتركه.
والمراد بالوضع: جعل شيء سببا لآخر أو شرطا له أو مانعا منه.
ومما يدل على شمول الإسلام أن أحكامه الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة غير مقصورة على أمور العبادات بل جاءت شاملة للعبادات ولغيرها من شؤون المسلمين المختلفة ولسائر أفعالهم وتروكهم وبالتالي فإن خصيصة الشمول التي هي الإسلام تكون هي خصيصة مرجعية المسلمين.
14)
ما يترتب على خصيصة الشمول
ويترتب على خصيصة الشمول لمرجعية المسلمين أنه يحرم عليهم التفلّت من وجوب الرجوع إلى مرجعيتهم في أمروهم الدينية والدنيوية، وفي جميع ما يريدون فعله أو تركه، ومن لا يلتزم بوجوب هذا الرجوع فإنه يرتكب إثما عظيما، وقد يكون هذا التفلّت منه ردة عن الإسلام إذا بنى تفلّته على أساس اعتقاده أن الإسلام لم يعد صالحا لجعله مرجعية للمسلم وللمسلمين في جميع شؤونهم.
15)
الخصيصة الثانية لمرجعية المسلمين: وجوب الرجوع إليها في أي نزاع
وجوب الرجوع إليها في أي نزاع أو اختلاف يقع بين المسلمين، وسواء كان موضوع النزاع والاختلاف من أمور الدين أو الدنيا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) والمراد بقوله تعالى: (إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ) أي إذا اختلفتم وتجادلتم، وقوله تعالى: (فِي شَيْءٍ) أنه يشمل أمور الدين والدنيا، والشأن بالمسلمين أن يقبلوا بهذه المرجعية، قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ومن لا يقبل بهذه المرجعية للفصل فيما تنازعوا فيه فهذا دليل على نفاقه، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً).
كما أن على المتنازعين إذا رفعوا نزاعهم إلى القضاء أن يرفعوه إلى القاضي المسلم الذي يحكم بموجب الكتاب والسنة، وأن يرضوا بما يحكم به، وقد علموا أنه يقضي ويحكم بموجب كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وأن لا يجدوا في أنفسهم ضيقا وكراهية لما قضى به، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً).
16)
أوجه الخلل في مرجعية المسلمين في الوقت الحاضر
سبق وأن ذكرت أن الإسلام بجميع أحكامه ومفاهيمه هو المرجعية الشرعية الوحيدة للمسلمين في جميع شؤونهم، وفي ضوء ذلك أذكر فيما يأتي أخطر وأقبح أنواع هذا الخلل.
17)
أولا:
قصرهم مرجعية الإسلام على بعض شؤونهم وليس على جميعها حتى قال قائلهم: لا علاقة للإسلام بغير أمور العبادة وبشيء مما يسمونه بمسائل الأحوال الشخصية كالميراث والنكاح، أما في غير ذلك مثل أمور الاقتصاد والمعاملات المالية وأمور الحكم والعلاقات الدولية فلا علاقة للإسلام بها.
ومعنى ذلك أنهم يقصرون مرجعية الإسلام على بعض شؤونهم التي ذكرناها، وهذا قول خطير جدا يناقض شمولية الإسلام، وبالتالي مرجعية المسلمين، بل ما قالوه يناقض جوهر الإسلام القائم على الخضوع المطلق للإسلام بجميع أحكامه بلا قيد ولا شرط ولا تعقيب، بل وجدنا هذا الخلل العظيم في مرجعية المسلمين يأخذ طريقه في كثير من البلاد الإسلامية إلى تشريعه وجعله قانونا واجب التطبيق، ومن ذلك إباحة الربا في المعاملات المالية، وفي ما يسمونه بمسائل الأحوال الشخصية، جاؤوا بما يناقض شمولية الإسلام فشرعوا تحريم تعدد الزوجات أو قيدوه بقيود تجعله قريبا جدا من تحريمه.
18)
ثانيا:
الرجوع المتأخر إلى الإسلام، وأعني بهذا الرجوع أن يقوم المسلمون بفعل ما يريدون فعله أو تركه ثم يرجعون إلى الإسلام ليجدوا المبرر الشرعي لما فعلوه أو تركوه، وقد يحملهم هذا إلى تقويل الإسلام ما لم يقله، وتحميل النصوص الشرعية ومصادر الأحكام فيه ما لا تحتمله، ويزعمون أنهم ملتزمون بوجوب الرجوع إلى مرجعيتهم الإسلام، وفاتهم أن الرجوع إلى مرجعيتهم الوحيدة (الإسلام) يجب أن يكون هذا الرجوع سابقا لما يريدون فعله أو تركه، وليس لاحقا لفعلهم أو تركهم؛ لأن الرجوع السابق يبين لهم الحكم الشرعي لما يريدون فعله أو تركه، فيكون فعلهم أو تركهم صحيحا، لأنه يأتي بموجب مرجعيتهم الإسلام.
19) وبناء على ما تقدم أرى من أولويات عمل المجددين؛ العمل على إزالة هذا الخلل الواقع بين المسلمين، والذي أراه يشيع فيما بينهم، وسبيل إزالته البيان الصريح لهذا الخلل والدعوة إلى التخلي عنه وعدم السكوت عنه أو الرضا به والاستسلام له.
ثانيا: الخلل في موقف المسلمين من الدنيا والآخرة
20) التعريف بهذا الخلل
ويمكن تعريف هذا الخلل بشيئين:
الأول: اغترارهم بالحياة الدنيا.
الثاني: غفلتهم عن الآخرة.
ولابد من الكلام عن هذين النوعين من الخلل لخطورتهما وعظيم تأثيرهما في مختلف أفعال المسلم والمسلمين.
21)
أولا: الاغترار بالحياة الدنيا
والاغترار بالحياة الدنيا الذي حذرنا الله تعالى منه في آيات كثيرة في القرآن الكريم هو أن ينشغل المسلم بأمور الدنيا بحيث يكون أكبر همه الحصول على ما فيها من متع ولذائد، ويتصرف كأنه خالد فيها لا يموت، مع إيمانه بأن مقامه في الدنيا قليل، وأن لابد من الرحيل عنها إلى حيث مستقره الدائم في الدار الآخرة.
فالاغترار إذن بالحياة الدنيا: انخداعه بلذائذ الدنيا على نحو يصرفه عن العمل بما ينفعه في الآخرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، والمخاطبون بهذه الآية الكريمة عموم الناس ويدخل فيهم دخولا أوليا المسلمون لأنهم يؤمنون بالدار الآخرة، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: لا تغرنكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها، قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: غرور الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذائذها عن عمل الآخرة، والمعنى لا تخدعكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمتاعها عن العمل للآخرة والظفر بما عند الله من نعيم دائم للمتقين.
وقوله تعالى: (وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) المراد بالغَرور –بفتح الغين- أي المبالغ في الغرور وهو الشيطان فلا يغرنكم الشيطان بالله بما يلقيه في نفوسكم من الأماني الباطلة، يقول لكم افعلوا المعاصي فإن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى يتجاوز عنكم إذا عصيتموه ويغفر لكم بفضله عليكم أو لسعة رحمته بكم. فعلى المسلم أن لا ينخدع بهذا القول الذي فيه تشجيع على المعصية، وإصرار عليها، وأن يستحضر في نفسه أن من أعظم الذنوب الإصرار على المعصية اعتمادا على حلم الله تعالى وإمهاله وقبول توبته وهو لا يدري متى يموت.
كما أن في إصراره على المعصية إخلالا كبيرا في واجبه نحو ربه بتعظيمه والحياء منه في عصيانه أو الخوف من عقابه، ألا ترى كم يكون قبيحا إصرار الولد على عقوق والديه اعتمادا على حلمهما والصفح عن عقوقه لهما.
22) إن الشأن بالمسلم إذا وقع في المعصية أن ينخلع عنها حالا ويعزم على عدم الرجوع إليها لا أن يصر على فعلها وتكرارها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، جاءت هذه الآية في تعداد صفات المتقين، لأن ما قبلها الآيتان وهما قوله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقد جاء في تفسير الآية التي نحن بصددها وهي: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي فعلة فاحشة وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد، وقد كثر اختصاصها بالزنا (أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ) باقتراف ذنب من الذنوب (ذَكَرُواْ اللّهَ) بألسنتهم عند اقترافهم الذنب أو أحضروه في قلوبهم أو ذكروا وعد الله ووعيده أو جلال الله الموجب للحياء منه (فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا المغفرة لها من الله تعالى، (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) أي لا يغفر الذنوب إلا الله تعالى، وفي هذا ترغيب لطالب المغفرة من الله سبحانه، (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ) أي لم يقيموا على قبيح فعلهم، ولكن استغفروا الله، ولم يعزموا على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه (وَهُمْ يَعْلَمُون) أي عالمين بقبح ما فعلوه وأنه معصية لله تعالى، وأن لهم ربا يغفرها بالتوبة منها وعدم الإصرار عليها.
وقال تعالى حكاية عما قاله الرجل المؤمن لقومه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)، وجاء في تفسيرها: إنما هذه الحياة الدنيا متاع يتمتع بها الإنسان أياما ثم تنقطع وتزول أو هو ينقطع عنها ويموت، (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) أي دار الاستقرار والثبات، لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول، والثابت خير من الفاني.
والمراد من قول الرجل المؤمن ذلك لقومه أن يلفت أنظارهم إلى واقع هم مفارقوه، وهو الحياة الدنيا وما فيها إلى أجل قادمون عليه مستقرون فيه، وهذا يستلزم أن يحرص العاقل على ما ينفعه في الآخرة لا أن يشتغل بالحصول على المتاع القليل في الدنيا مع تركه وتفريطه فيما ينفعه في الآخرة.
23)
من أساليب التحذير من الاغترار بالدنيا
ومن أساليب القرآن الكريم في التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا أن يفرض المسلم حصوله على كل ما يريد في الدنيا، ويقارنه بما يمكنه الحصول عليه في الآخرة، وما الذي يختاره ويفضله منهما، ويجعل أكبر همه الحصول عليه؟ قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وجاء في تفسيرها: وما أوتيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه أو يزول عنكم، وهو زينة تتزينون به أيام عيشكم ثم يفنى، وعل كل حال فهو إلى فناء وانقطاع، وما عند الله تعالى من ثواب وجزاء خير من ذلك الزائل الفاني؛ لأن ما عند الله تعالى خال من الكدر وأبقى لأنه يدوم أبدا وهو نعيم الجنة، وذلك ينقضي بسرعة أفلا تعقلون أيها المخاطبون بهذه الآية الكريمة؟ أن الباقي أفضل من الفاني وأن ما فيه لذة خالصة غير مشوبة بكدر أفضل من لذات الدنيا المشوبة بالكدر، أو التي لا تخلو من الكدر، ولذلك قيل في الأمثال من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل، والمخاطبون بهذه الآية هم عموم الناس على ما قاله الإمام الطبري في تفسيره.
24) وإذا كان ما يقضي به العقل السليم هو أن نعيم الآخرة أفضل من نعيم الدنيا، ويستحق التقديم على نعيم الدنيا لاسيما بالنسبة لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، فهذا يستلزم السعي للظفر به، وسبيل هذا الظفر تقوى الله تعالى بالقيام بالعمل الصالح الذي أمر الله به وترك ما نهى عنه، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، وقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى).
25) كما أن هذه الأفضلية لنعيم الآخرة على نعيم الدنيا توجب على من عقلها أن يسارع في العمل الصالح الذي أمر الله به، وترك ما نهى عنه؛ لأن الإنسان لا يدري متى يموت ويرحل عن هذه الدنيا، قال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، وجاء في تفسيرها بادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الطاعات والأعمال الصالحات، (وَجَنَّةٍ) أي وسارعوا إلى جنة عرضها عرض السماوات والأرض، وإنما فصل بين المغفرة والجنة؛ لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين وتقديم المغفرة على الجنة، وهو كما قيل إن التخلية قبل التحلية.
26)
ثانيا: الغفلة عن الآخرة
وهذا هو النوع الثاني من الخلل الذي وقع فيه المسلمون ولا يزالون واقعين فيه في موقفهم من الآخرة، والغفلة تعني في اللغة: السهو من قلة التحفظ والتيقظ، وغفل عن الشيء غفولا وغفلة، أي سها عنه بسبب قلة التحفظ والتيقظ، وَغَفَلَ الشيء: تركه إهمالا من غير نسيان.
وهذا المعنى للغفلة مثل معنى النسيان في اللغة، فقد جاء في المعجم الوسيط نسي الشيء نسيانا أي تركه على ذهول وغفلة، أو تركه على عمد، ونسي الأمر: أهملته ذاكرتَه ولم يَعِهِ.
27)
الغفلة والنسيان في القرآن الكريم
وأذكر فيما يأتي الآيات أو بعضها التي ورد فيها لفظ الغفلة أو لفظ النسيان، وما قاله المفسرون في معنى هذين اللفظين، والتحذير منهما، وسبب وقوع المسلم فيهما، وسبل الوقاية منهما.
28)
أولا: آيات الغفلة والنسيان
أ- قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، وجاء في تفسيرها: أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفها الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة وبالأعمال الصالحة، وهم عن الآخرة التي فيها النعمة الدائمة واللذة الخالصة هم عنها غافلون لا يلتفتون إليها ولا يُعِدُّون ما يحتاجون إليه.
ب - قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ)، وجاء في تفسير هذه الآية: المراد بالناس العموم، ومعنى الآية: اقترب للناس وقت حسابهم أي القيامة، ومعنى اقتراب الحساب دنوه منهم؛ لأنه في كل ساعة هو أقرب إليهم من الساعة التي قبلها؛ وهم في غفلة عن حسابهم معرضون عن الآخرة غير متأهبين لما يجب عليهم من الإيمان بالله تعالى والقيام بفرائضه والانزجار عن مناهيه.
ج- قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)، وجاء في تفسيرها: أن الذين لا يتوقعون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا عوضا عن الآخرة فعملوا لها واطمأنوا بها، أي سكنت نفوسهم إليها وفرحوا بها، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) أي غفلوا عن آياتنا الكونية والشرعية لا يعتبرون بها ولا يتفكرون فيها. وقال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)، وجاء في تفسيرها: إن كثيرا من الناس عن آياتنا التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سِنة الغفلة لغافلون عما توجبه تلك الآيات.
د - وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، أي تركوا أمره وطاعته، أو ما قدروه حق قدره، أو لم يخافوه، أو جميع ذلك (فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) أي جعلهم ناسين ما ينفعهم بسبب نسيانهم له تعالى، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من عذاب الله تعالى، ولم يكفوا أنفسهم عن المعاصي التي توقعهم فيه.
هـ - وقال تعالى عن المنافقين والمنافقات: (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وجاء في تفسيرها: (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) النسيان يعني الترك، أي تركوا ما أمرهم الله به فتركهم من رحمته وفضله أو تركوا ذكر الله وعبادته فترك الله ذكرهم فيمن ذكرهم بالرحمة والإحسان، لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله تعالى وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان.
و - وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، وسبيل الله تعالى هو طرق الجنة أو دلالته التي نصبها على الحق تشريعا وتكوينا، وهذا العذاب الشديد لضلالهم عن سبيل الله تعالى، (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ومعنى النسيان الترك أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين.
29) ويستفاد من الآيات التي ذكرناها في الغفلة عن الآخرة أو نسيانها، أن معنى هذين اللفظين والمقصود منهما في استعمال القرآن الكريم هو إعراض الإنسان عن الآخرة وعدم الالتفات إليها والاهتمام بها وترك ما ينفعه فيها، وهذا المعنى لهذين اللفظين والمقصود منهما واضح ومفهوم بالنسبة للكافر الذي لا يؤمن بالآخرة، أما بالنسبة للمسلم فإنه غير معصوم من الوقوع في الغفلة عن الآخرة أو نسيانها، حتى يبدو في غفلته عن الآخرة كأنه لا يؤمن بها، فما سبب ذلك وما سبيل الوقاية منها؟
30)
سبب غفلة المسلم عن الآخرة
وسبب غفلة المسلم عن الآخرة أنه يعيش في الدنيا، والدنيا حاضر محسوس والآخرة غائب غير محسوس، أو منافع الدنيا ولذائذها عاجلة ومنافع الآخرة آجلة، والإنسان بغريزته يحب ويؤثر ما فيه لذة عاجلة على منفعة أو لذة آجلة، قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، وأيضا فإن الشيطان يغريه على الإقبال على الدنيا على نحو يشغله عن الآخرة ومتطلباتها؛ بحيث تصير الدنيا أكبر همه، ومن شغله أمر من الأمور أو أهمه هذا الأمر فإنه ينسيه ما سواه فلا يعود يذكره وإن كان لا ينكر وجوده.
31) وسبيل الوقاية للمسلم من الغفلة عن الآخرة أو نسيانها أن يتذكر المسلم احتمال رحيله عن الدنيا في أي لحظة؛ لأن عمر الإنسان في الدنيا محدود وهو مجهول للإنسان، فقد يأتيه الموت في أي لحظة وإذا جاء لا يعيقه كون الإنسان أنه شاب في مقتبل العمر ولا كونه في عافية وصحة، قال تعالى: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ).
وفي السنة النبوية الشريفة قوله ﷺ: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)، كما أن زيارة القبور تذكر بالآخرة ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف قوله ﷺ: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
32)
العمل للآخرة لا يعني ترك العمل في الدنيا
ومما يجب ملاحظته أن العمل للآخرة لا يعني ترك العمل في الدنيا، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، وقال تعالى في بيان أسباب رفع إيجاب قيام الليل عن المسلمين: (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى)، فلا يطيقون قيام الليل ويشق عليهم ذلك (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ)، أي يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل، قال النسفي: سوى الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية بين درجة المجاهد والمكتسب لأن الكسب الحلال جهاد.
33) قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ثم قرأ هذه الآية، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أي للتجارة فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) أي اطلبوا من رزقه الذي يتفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح والمكاسب.
34)
ما ينويه المسلم في عمله في الدنيا
وإذا كان العمل في الدنيا فيما هو مباح العمل فيه من المباحات؛ فقد يكون عمله واجبا عليه أو مندوبا إذا كان وسيلة لكفاية نفسه أو من تلزمه نفقته كالزوجة والوالدين وأولاده الصغار، وفيما عدا ما هو الواجب أو المندوب من أعمال الدنيا، فإذا قصد بعمله أن يجعل ما يكسبه فيه وسيلة لعمل الآخرة كأن ينوي بعمله كسب المال ليقوم بفريضة الحج، وإيتاء الزكاة، وصلة الأرحام، وإعانة المحتاجين، وكفالة اليتامى، فإن هذه الأعمال ونحوها تكون وسيلة لكسب الأجر من الله تعالى، وتحصيل هذه الوسيلة يكون بتحصيل المال، والمال وسيلة تحصيله الأصلية عمل الإنسان، وبالتالي على المسلم أن يجعل الغرض من عمله في الدنيا هو ما قاله الله تعالى حكاية عما قاله المؤمنون لقارون: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)، أي واطلب فيما أعطاك الله تعالى من الأموال والثروة والغنى (الدَّارَ الْآخِرَةَ) وهي الجنة، فأنفق ما آتاك الله فيما يرضاه الله كصدقة، وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار، ونفقة على محتاج، ونحو ذلك من أعمال الخير التي توصل صاحبها بمشيئة الله تعالى إلى الجنة لا أن ينفق ما يحصل عليه في البغي، وما لا ينفعه في الآخرة، أو ما يضره في الآخرة، كما لو أنفقه فيما لا يرضي الله تعالى، (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) قال جمهور المفسرين: نصيب الإنسان في الدنيا هو أن يعمل في دنياه لآخرته، وقال الزجاج: معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو الذي يعمل به لآخرته.
35)
التزاحم بين الدنيا والآخرة
وأعني بهذا: التزاحم بين أفعال المسلم في الدنيا وبين ما يقتضيه العمل للآخرة، والقاعدة في هذا التزاحم ترجيح ما يقتضيه العمل للآخرة على ما سواه من أعمال الدنيا حتى ولو كانت هذه الأعمال بذاتها مباحة ولكن يقابلها ما يقتضيه العمل للآخرة، وهذه القاعدة التي أقول بها يمكن استفادتها من قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وعشيرة الرجل أهله وقراباته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه ويتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أو فوقها، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أي اكتسبتموها، والتجارة هي ما يشترونه ليربحوا فيه، وكسادها عدم نفاقها لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان، (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) أي التي تعجبكم وتميل إليها أنفسكم وترون الإقامة فيها أحب إليكم من المهاجرة إلى الله ورسوله ومن الجهاد في سبيله وعدم التحول عنها.....
ووجه الدلالة بهذه الآية الكريمة على القاعدة التي ذكرتها في التزاحم؛ هي أن هذه الأشياء الثمانية هي مما يحبها الإنسان بفطرته وغريزته، والإسلام يراعي في تشريعاته فطرة الإنسان، وما جُبِلَ عليه من غرائز وميول، ولكن هذه المراعاة لما جبل عليه الإنسان من غرائز وميول، لا يعني أن الإسلام يقف منها موقف المراعي لها والمعترف بها فقط، ولكنه يراعيها مع مراقبته لها لمنع جموحها وخروجها عن الحد الذي يستحق المراعاة، ولذلك راعى الإسلام ما جبل عليه من حب التملك فأقر حق الملكية الفردية، ولكن هذه المراعاة لا تعني ترك حق الملكية يخرج عن القيود التي فرضها الإسلام فيما يتعلق بأسباب الملكية، فاشترط أن تكون مشروعة، واشترط في موضوع التملك أن يكون مما يجوز تملكه، فلا يصح الخمر والخنزير موضوعا لملكية المسلم.
وكذلك في مسألتنا فالشرع لا يمنع من حب المسلم لهذه الأشياء الثمانية، فهو حب يقتضيه ما جبل عليه الإنسان، ولكن يقيد هذا الحب الغريزي الطبيعي أن لا يعلو على ما يحبه الله ورسوله، وعلى المسلم أن يجاهد نفسه ليجعل ما يحبه الله ورسوله هو الأحب عنده، وهو الذي يستحق التقديم والاعتبار والعمل بموجبه، وليس في هذا تكليف المسلم فوق طاقته؛ بل هو من مقتضيات إسلامه واستسلامه لشرع الله تعالى، ويدخل في طاقة المسلم، والدليل على ذلك أن الصحابة الكرام طبقوا هذا في حياتهم، ففي معركة بدر كان المتقاتلون تجمعهم رابطة النسب أو رابطة العشيرة الواحدة بل القرابة القريبة فيما بينهم، ولكن لم تمنعهم رابطة العشيرة والقرابة أن يفرق بينهم ما يحملونه من حب لله ورسوله على ما قد يكون قد بقي من حبهم لأقاربهم وعشيرتهم بعد أن رفضوا الإسلام وآثروا عليه كفرهم على ما يحبه الله ورسوله من دخولهم في الإسلام.
36) وفي الآية تهديد عظيم لمن يخرق هذه القاعدة التي ذكرناها، فيقدم العمل الذي يهواه على العمل بما يحبه الله ورسوله، ومن يفعل ذلك يقع في ما يتضمنه قوله تعالى: (فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) أي فانتظروا حتى يأتي أمر الله فيكم، وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وفي هذا وعيد شديد وتهديد لهم، ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات، وإنما كان تهديدا لكونهم آثروا لذات الدنيا على الآخرة، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين التي يجب مراعاتها وبين مصالح الدنيا، يجب ترجيح الدين، وهو ما يحبه الله ورسوله على الدنيا.
وختم القرآن الكريم هذا التهديد بقوله تعالى: (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وفي هذا إشارة إلى أن الذين لا يجعلون ما يحبه الله ورسوله هو الأحب عندهم على ما تحبه نفوسهم؛ فإنهم (فاسقون)، والفسق هو الخروج عن طاعة الله ورسوله.
ثالثا: الخلل في مفاهيم المسلمين
37) وهذا هو النوع الثالث من الخلل الذي أصاب المسلمين في مفاهيمهم، وبيان ذلك أن لكل إنسان في حياته مفهومَهُ عن السعادة والشقاء، والفوز والفلاح، والربح والخسارة، في أعماله وما يحرص عليه، ويكون هو الغاية في حياته وفيما يسره أو يحزنه، وفيما يهمه وما لا يهمه، والمسلم له مفاهيمه عن هذه الأمور التي تشغل بال كل إنسان.
ولكن مفاهيم المسلم عن هذه الأمور يجب أن تكون في ضوء وبموجب ما قرره الإسلام بشأنها من مفاهيم لا أن تكون مفاهيمه في ضوء أو بموجب شيء آخر غير الإسلام، وأذكر فيما يأتي مفاهيم الإسلام عن هذه الأمور التي ذكرتها ليتبين مدى مطابقة هذه المفاهيم الإسلامية لما يحمله المسلم في نفسه من هذه المفاهيم.
38)
مفهوم الفوز والفلاح
مفهوم الفوز والفلاح في الإسلام هو الظفر برضا الله، ودخول الجنة، والنجاة من النار في الآخرة، وتوفيق الله تعالى له بالأعمال الصالحة التي توصل فاعلها إلى هذا الظفر، وفي هذا المعنى للفوز والفلاح آيات كثيرة نذكر بعضها فيما يأتي:
أ- قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)، وأي فوز أعظم من النجاة من النار ودخول الجنة، وفيها النظر إلى وجه الله الكريم، والإحساس برضوان الله تعالى، وهذا وذاك أعظم فوز على وجه الحقيقة لا المجاز، وفي الجنة إضافة لما قلنا من أنواع النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إن هذا الفوز هو الفوز الحقيقي في مفهوم وميزان الإسلام، وفي ميزان العقل والحساب، أما في ميزان الإسلام فهذا كلام الله الذي ذكرناه، ومثله في القرآن الكريم كثير، شاهد على صحة ما نقول: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)، وأما في ميزان العقل فلا نحسب عاقلا يؤمن بالله واليوم الآخر يستطيع أن يجادل في هذه الحقيقة أو يعتبر أن الفوز الذي ذكرناه في الآخرة أدنى رتبة من الفوز بنعيم الدنيا... وأما في ميزان الحساب فإن الفائز بنعيم سنة أكثر ربحا وأعظم فوزا من الفائز مدة ساعة واحدة، فهذا ميزان الحساب وهو ميزان واضح وسليم، فإذا كان هذا صحيح وهو صحيح فما نسبة نعيم الدنيا المتناهي إلى نعيم الآخرة غير المتناهي؟ وما قيمة ما يحوزه الإنسان في عمره القصير من نعيم الدنيا القليل الفاني بالنسبة إلى ما يناله الفائزون في الآخرة من نعيم دائم لا يزول؟ ألا يحق لنا أن نقول: إن الفوز في الآخرة بما ذكرناه هو الفوز الحقيقي؟ وإن الفوز في الدنيا بكل ما يتمناه الإنسان هو فوز على وجه المجاز؟ لقد شبه رسول الله ﷺ الحياة الدنيا ومتاعها وما فيها من لذائذ ونعيم بتشبيه رائع محسوس، ففي الحديث النبوي الشريف قوله ﷺ: (
والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يضع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع
).
وإذا تبين أن الفلاح والفوز الحقيقي هو الفلاح والفوز في الآخرة، وأن هذا الفوز جدير بأن يحرص عليه المسلم ويرفع بصره إليه ويبذل كل جهده للوصول إليه، فما سبيل الوصول إليه؟ وما وسائل الظفر به؟!
إن الإسلام بين لنا هذا السبيل، وكشف لنا عن هذه الوسائل، فمن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وقال تعالى: (لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فالإيمان بحقائق الإسلام، والصبر بمعناه الواسع، وتقوى الله تعالى في السر والعلن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، كل ذلك وأمثاله وسائل تؤدي إلى الفلاح الحقيقي والفوز الحقيقي فمن أخذ بهذه الوسائل فهو من الفائزين حقا، وإن اعتبره الناس من الخائبين.. ومن هجرها واتبع هواه وركض وراء الشهوات من المحرمات فهو من الأشقياء التعساء؛ لأن أهواءه ولذاته تدفعه وتجره إلى الشقاء المؤكد، وإن اعتبره الناس من السعداء، قال تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ)، وقال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: غلبت علينا لذاتنا وأهوائنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها.
ب- آية أخرى في مفهوم الفوز
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، وجاء في تفسير هذه الآيات: إن الخطاب في هذه الآية هو لجمع المؤمنين ومضمونه أنه جعل العمل المذكور في هذه الآيات بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، ثم جاء تفصيل هذا العمل المربح لفاعله وهو: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي تداومون على الإيمان، (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) (ذَلِكُمْ) أي ما ذكر من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَّكُمْ) أي هذا العمل خير لكم من أموالكم وأنفسكم أو من كل شيء، (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم ممن يعلم أنه خير لكم، إلا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون هذه الخيرية، (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) (ذَلِكَ) أي المذكور من المغفرة ودخول الجنة الموصوفة بما ذكر هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا ظفر يماثله.
39)
مفهوم الربح في الإسلام
المفهوم العام للربح أن تأخذ أكثر مما تعطي، وتحصل على أكثر مما تبذل، وهذا المفهوم للربح معروف في أمور الدنيا كما في البيع والشراء، وسائر المعاوضات الجائزة شرعا، وهذا المفهوم للربح وإن كان صحيحا ومقبولا إذا كان الربح في المعاملات الجائزة شرعا إلا أنه يكون قاصرا إذا اقتصر مفهومه على ما ذكرنا دون سواه.
إن للربح مفهوما آخر دقيقا نبه عليه الإسلام وهو أحق المفاهيم للربح وأنفعه للإنسان، وإن كان هذا المفهوم للربح أول ما ينساه ويغفل عنه الإنسان، هذا المفهوم الحق للربح هو ربح الحسنات لا ربح الجنيهات، ومن أجل هذا الربح العظيم جادت نفوس العارفين ببذل أموالهم في سبيل الله تعالى غير آسفين ولا نادمين.
روي عن الصحابي الجليل صهيب الرومي –رضي الله عنه- أنه قال: أردت الهجرة من مكة إلى النبي ﷺ في المدينة فقالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم أرأيتم إن تركت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (ربح صهيب ربح صهيب)، وصهيب لم يربح درهما ولا دينارا بل خسر دراهمه ودنانيره فهو الخاسر في مفهوم وميزان الصيارفة والتجار عبيد المال، ولكنه هو الرابح في مفهوم الإسلام للربح، إنه -رضي الله عنه- هو الرابح على وجه الحقيقة، أعظم ما يكون الربح، إنه ربح الحسنات بهجرته إلى رسول الله ﷺ وظفر بالقرب منه فليس قول النبي ﷺ(ربح صهيب) من مجاز القول ولكنه الحقيقة التي لا مجاز فيها، وتبّا لمفهوم يجعل ربح الحسنات عند خالق السماوات من مجاز القول ويجعل ربح الأحجار من الحقيقة لا المجاز.
إن بذل المال في سبيل الله ربح أكيد، وهو أعظم من ربح تجار الدنيا في البيع والشراء؛ لأنه ربح مضمون عند الغني القادر يظهر لصاحبه في الآخرة وهو أحوج ما يكون إليه، وكون هذا الربح لا يستلمه صاحبه إلا في الآخرة؛ لا ينقص من قدره، فإن التاجر الذكي يبذل المال بانتظار ربح أكثر مما بذل وإن كان يأتيه هذا الربح في المستقبل، أما الذي لا يرغب إلا في الربح العاجل في الدنيا فمثله كمثل الطفل لا يتخلى عما في يده حتى ولو وعدته وأنت صادق بأنك تعطيه غدا أضعاف ما في يده.
40)
الخاسرون والخسران في مفهوم الإسلام
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، ومعنى الآية الكريمة وهي خطاب للمؤمنين: لا تشغلكم أيها المؤمنون أموالكم بالتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء والاهتمام بها، ولا يشغلكم اهتمامكم بأولادكم وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمئونتهم عن ذكر الله أي عن فرائض الإسلام، (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي الاشتغال بالأموال بكسبها وتنميتها، وبالأولاد والاهتمام بأمورهم الدنيوية، (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون)، أي الكاملون في الخسران حيث انشغلوا في أموالهم وتنميتها ولم ينشغلوا بأمور الآخرة التي تجلب لهم الربح الحقيقي.
وقال تعالى: (.....قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وجاء في تفسير هذه الآية: أن الخاسرين الكاملين في الخسران هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بتخليد أنفسهم في النار، وبعدم وصولهم إلى الجنة؛ لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله، والمراد بـ(أَهْلِيهِمْ) أهل الآخرة، وقيل أهلهم في الدنيا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده، (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك وصف الخسران بكونه (مبينا) فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران، وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه.
41)
مفهوم التهلكة في الإسلام
المعنى الشائع للتهلكة عند عموم الناس هو تعريض الإنسان نفسه لما يؤذيه أو يفوت عليه راحته أو حياته بغض النظر عن الدوافع والغايات، وقد سحبوا هذا المفهوم للتهلكة على من يصيبه أذى وهو يقوم بحق الإسلام عليه في الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، والجهر بالحق والدعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل الله بالقول والفعل، وبذل المال والنفس، ويستشهدون بزعمهم هذا بقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، لقد ظلم هؤلاء معنى هذه الآية الكريمة وأنزلوها على غير مفهومها الحق، إن مفهومها الحق هو عكس ما فهموه منها.
إن مفهوم التهلكة في الإسلام وفي هذه الآية أن تفر من الهلاك في سبيل الله مؤثرا ومرجحا العافية والقعود والإقامة بين الأهل والولد ومشغولا في تثمير المال وتكثيره على ما يحبه الله تعالى من الهلاك في سبيله تعالى، فقد روي عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أنه قال في هذه الآية: أنها نزلت فينا نحن معشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيه وأظهر الإسلام قلنا نقيم في أموالنا نصلحها، فأنزل الله تعالى على نبيه ﷺ: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا وندع الجهاد.
42) وتأسيسا على هذا المفهوم الحق للتهلكة؛ لا يكون تهلكة في مفهوم الإسلام هلاك المسلم أو لحوق الأذى به، أو خسارة ماله، أو فقدان حريته، أو فقدان وظيفة، أو اضطهاده، إذا كان ذلك كله في سبيل الله تعالى، وكان ما يفعله يسبب له هذه الأنواع من الأذى والمتاعب، وكان ما يفعله واجبا عليه، أو مستحبا له، فالقيود في فعل ما يسبب للمسلم هذه الأنواع من الأذى ثلاثة قيود:
القيد الأول: أن يكون الهلاك وما دونه من الأذى في سبيل الله تعالى، فإذا كان ذلك في غير سبيل الله تعالى كما لو كان لطلب السمعة والثناء والمنصب ونحو ذلك، فالتعرض للتهلكة في هذه الحالة حرام.
القيد الثاني: أن يكون ذلك الفعل الذي يؤدي إلى الهلاك أو الأذى واجبا عليه أو مستحبا له، والوجوب والاستحباب يوزنان بميزان الإسلام كما هو مذكور في كتب السنة النبوية وكتب تفسير القرآن الكريم والفقه.
القيد الثالث: أن لا يفوّت هلاكه على المسلمين مصلحة مؤكدة هي أكبر من مصلحة إهلاك نفسه، فإذا فوت كان محظورا عيه التعرض إلى الهلاك.
وسر المسألة أن نفس الإنسان ليست ملكه وإنما هي ملك خالقها وهو الله -جل جلاله- فلا يجوز للمسلم أن يتصرف بنفسه ويعرضها للتهلكة إلا بإذن مسبق من مالكها وهو الله تعالى بموجب ما شرعه من أحكام في كتابه العزيز أو في سنة نبيه الكريم ﷺ فإن لم يأذن له الإسلام بإلقاء نفسه في التهلكة بل منعه من ذلك فعليه أن يكف نفسه عن التعرض للهلاك ولزمه الوقاية منه، وإن كان هواه في هذا التعرض للهلاك.
43)
أهمية تصحيح المفاهيم
إن تصحيح مفاهيم المسلمين عن طريق إزالة ما طرأ عليها من خلل مهم جدا وضروري؛ لأن تصرفات الإنسان مرتبطة بنوع مفاهيمه التي تشغل باله، مثل مفهوم الفوز والفلاح، والربح والخسران، وما إلى ذلك من مفاهيم، وإذا كانت أفعال أي إنسان مرتبطة بمفاهيمه؛ فإن هذا الارتباط بين تصرفات الإنسان ومفاهيمه بالنسبة للمسلم مسألة مهمة جدا لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وملتزم بمفاهيم الإسلام فيما يهمه ويحرص عليه ويبتغيه؛ لأن التزامه هذا من لوازم إيمانه وعقيدته الإسلامية، ومن المستحيل أن يكون ما يصدر عن المسلم من تصرفات وأفعال مقبولا شرعا إذا كان وراءها مفهوم فاسد يخالف مفاهيم الإسلام، والمأمول من كل مسلم أن لا تكون له مفاهيم غير مفاهيم الإسلام في تقييم أفعاله وعلاقاته مع غيره، وإن على المجددين أن يولوا هذا الخلل الكبير الذي طرأ على المسلمين في مفاهيمهم أهمية جادة في علاجه.
ومن الوسائل النافعة إن شاء الله تعالى أن يعرض المجددون وكل المهتمين بأمور المسلمين (ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، أن يعرضوا عليهم مفاهيم الإسلام حول ما يهمهم ويحرضوهم على جعلها هي مفاهيمهم، وعلى المعنيين بأمور المسلمين أن يدعوا المسلمين إلى عرض ما عندهم من مفاهيم على مفاهيم الإسلام المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ليروا مدى الاتفاق أو الاختلاف بين ما عندهم من مفاهيم وبين ما جاء به الإسلام من مفاهيم، فإن رأوا اتفاقا وتماثلا بين ما عندهم من مفاهيم وبين ما جاء به الإسلام حمدوا الله تعالى على ذلك، وثبتوا عليه، وإن رأوا خلاف ذلك حملوا أنفسهم على تصحيح مفاهيمهم بإزالة ما طرأ عليها من خلل حتى تستقيم وتكون مثل مفاهيم الإسلام، والله المستعان.
الفصل الثاني: التأصيل الشرعي للتجديد
44)
المراد بالتأصيل الشرعي للتجديد
والمراد بهذا التأصيل الشرعي للتجديد هو بيان مدى مشروعيته، وما هي الأدلة على هذه المشروعية، وما مستوى هذه المشروعية من جهة مدى طلب الشرع له، وهل هذا الطلب على وجه الإيجاب أو الندب، أي وجوب حصول التجديد عند المسلمين أو الندب إلى حصوله عندهم.
45)
أدلة مشروعية التجديد
وتستفاد هذه الأدلة لمشروعية التجديد من مفهوم الحديث النبوي الشريف الذي ورد فيه التجديد، والذي ذكرناه من قبل، وهو ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وقال أهل العلم في شرح هذا الحديث النبوي الشريف: المراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وحيث أن ما ترك العمل بالكتاب والسنة يعتبر معصية ومنكرا، وحقُ المنكر إزالته لا بقاؤه فكل نص ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أدلة مشروعية التجديد في الإسلام، وأذكر فيما يأتي هذه النصوص في القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يقتضيه العمل بموجبهما.
46)
أدلة القرآن الكريم المتعلقة بالتجديد
قلت أن التجديد يعني إحياء ما اندرس، أي ما تُرِكَ من العمل بالكتاب والسنة، وأن هذا الترك يعتبر منكرا والمنكر تجب إزالته، وأذكر فيما يأتي من نصوص القرآن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: والمقصود من هذه الآية أن تكون من هذه الأمة فرقة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
وقد جعل القرآن الكريم من صفات المؤمنين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، وجعل من صفات المنافقين أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، قال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)، والأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس وسبب خيريتها كونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ).
47)
أدلة السنة النبوية المتعلقة بالتجديد
الدليل الأول: التجديد الوارد في الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه ونعيد ذكره وهو: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) فالتجديد بمفهومه الإسلامي مطلوب شرعا بل إن مشروعيته بلغت حدا أن الله تعالى يتولى بنفسه -سبحانه وتعالى- بعث من يجدد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة، مما يدل على أهمية ومكانة التجديد، وهذا البعث من الله تعالى لمن يجدد للأمة دينها يقتضي أن الله تعالى هو الذي يختاره ويعده لهذه المهمة، مهمة التجديد، ولا شك أن تفضل الله تعالى بإرسال المجدد باختيار منه -سبحانه وتعالى- تأكيد واضح لمشروعية التجديد.
الدليل الثاني: إن كلمة (مَن) الواردة في الحديث النبوي الشريف يمكن حملها على أكثر من مجدد واحد على رأس كل سنة، وهذا يزيد مشروعية التجديد تأكيدا وطلبا، قال الفقيه المعروف ابن حجر العسقلاني: حمل بعض الأئمة كلمة (مَن) الواردة في الحديث النبوي الشريف على أكثر من مجدد واحد وهو ممكن بالنسبة للفظ الحديث الذي ورد فيه هذا اللفظ (مَن) لأن هذا اللفظ يصلح للتعبير به على الواحد وعلى أكثر من واحد.
وتعدد المجددين الذين يرسلهم الله تعالى إذا حملنا معنى كلمة (مَن) على أكثر من مجدد يدل على عظم وأهمية هذا التجديد الذي يتولى الله تعالى إرسالهم إلى الأمة لتجديد دينها، مما يدل على تأكد مشروعية التجديد.
الدليل الثالث: المراد بالتجديد هو إحياء العمل بالكتاب والسنة ممن تركه كما ذكرنا ذلك عند الكلام على مفهوم التجديد في الإسلام، وهذا التجديد بهذا المفهوم يعيد للمجتمع الإسلامي صلاحه وصلاح المجتمع ضروري وواجب على المسلمين لوقاية أفراده من الضلال والانحراف عن الدين؛ لأن الفرد يتأثر بحال المجتمع الذي يعيش فيه من صلاح وفساد.
وما نقوله في تأثير المجتمع في حال أفراده يدل عليه ما جاء في الحديث النبوي الشريف، وفيه(ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه....) ، والأبوان بالنسبة للصغير هما مجتمعه الصغير الذي يؤثر فيه، فإذا كان الأبوان ضالين دفعاه إلى الضلال، وإن كانا صالحين أبقياه على الفطرة التي خلقه الله عليها، ونمّيا فيه جانب الخير، وهكذا شأن المجتمع كله في تأثيره على الفرد صلاحا وفسادا.
الدليل الرابع: النجاة من العقاب الجماعي
التجديد بمفهومه الذي بيناه يعتبر من أهم الوسائل الواقية للمجتمع من العقاب الجماعي، إذا بقي المجتمع على صدوده عن الكتاب والسنة وعدم العمل بموجبهما، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، قال ابن عباس -رضي الله عنه- في هذه الآية: إن الله أمر المؤمنين أن لا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم العذاب.
وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
فهذا يدل على أن القيام بمقتضى التجديد وهو إحياء ما تركه المسلمون من العمل بموجب الكتاب والسنة في إزالة معصيتهم بترك العمل بالكتاب والسنة، وإن لم يفعلوا ذلك يوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده يعم الجميع؛ لأن ظلم الظالم من أعظم المنكرات فتركه على ظلمه تقصير من المسلمين، فيأتي المجدد فيذكرهم بواجبهم نحو ذلك وهو إيقاف الظالم عن ظلمه وعدم تركه مستمرا على ظلمه لئلا يصيب الجميع عقاب الله تعالى، وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (
مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (اقترعوا) على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا
) ، ففي هذا الحديث دليل -كما يقول الإمام القرطبي في تفسيره- على تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة للجماعة، وأنه إذا لم تغير المنكرات وترجع الأمور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد.
وفي الحديث دليل على وجوب إنكار المنكر، وما فيه ضرر بالجماعة وإن كان فاعله حسن النية ويفعل ما يفعل لجهله بعدم جواز فعله وإن كان جهله قد ينجيه من عقاب فعله.
الفصل الثالث: ضوابط التجديد
48)
التعريف بهذه الضوابط وسبيل معرفتها
والمراد بهذه الضوابط الحدود التي يقف عندها المجدد ولا يتجاوزها، ويمكن معرفة هذه الضوابط في الإسلام في ضوء الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه برواية أبي داود في سننه وفيه: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وفي ضوء ما قاله أهل العلم في تعريف التجديد وما قلناه فيما يترتب على تعريفهم للتجديد، نقول إن ضوابط التجديد هي معرفتها أولا تمهيدا للالتزام بها؛ لأن العلم بالشيء يسبق العمل به أو الدعوة إليه، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
49) وهذه الضوابط هي
أولا: وقوع مخالفات في أفعال المسلمين للأحكام الشرعية.
ثانيا: أن يُعرف وجه هذه المخالفات للأحكام الشرعية.
ثالثا: أن تستفاد هذه الأحكام الشرعية من مصادرها الشرعية، وعلى رأس هذه المصادر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ثم المصادر الأخرى التي أرشدت إليها ودلت عليها نصوص القرآن والسنة، كالإجماع والقياس.
رابعا: أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من مصادرها الشرعية وفقا للضوابط المقررة لكل مصدر من هذه المصادر.
خامسا: أن يكون التجديد بالدعوة الصريحة إلى العمل بموجب أحكام القرآن والسنة والأحكام المستفادة من المصادر الشرعية الأخرى.
وبالالتزام بما ذكرناه يكون ما يدعو إليه المجددون تجديدا مقبولا شرعا، وبخلاف ذلك، أي بعدم الالتزام بما ذكرنا من ضوابط يكون ما يوصف بالتجديد هو في الحقيقة تغيير للدين وليس تجديدا له بالمفهوم الشرعي، وتغيير الدين أو تبديله مرفوض لا يجوز القول به أو الدعوة إليه.
50) ونذكر فيما يأتي الضوابط الشرعية في استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها التي أشرنا إليها، مبتدئا بالضوابط المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ومكتفيا بذكر الضوابط المتعلقة بالمصادر الأخرى للأحكام بالإشارة إلى ضرورة التقيد بها عند الرجوع إليها لمعرفة الأحكام الشرعية، ما عدا مصدر الإجماع حيث أني سأخصه بشيء من الكلام عنه بذكر تعريفه وكيفية الاستفادة منه في الوقت الحاضر.
51)
ضوابط التجديد المتعلقة بالقرآن الكريم
أولا: مراعاة القواعد اللغوية العربية في تفسير القرآن؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب فلا بد من مراعاة أساليبهم في التفسير، وقواعدهم اللغوية في التخاطب، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال تعالى عن القرآن الكريم: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، وقد اعتنى علماء أصول الفقه بهذه القواعد اللغوية بعد استقرائهم أساليب اللغة العربية في التعبير عما يريده المتكلم بها والاستعمال لها.
ثانيا: الرجوع إلى السنة النبوية لفهم المقصود من نصوص القرآن؛ لأن السنة النبوية من الوحي الإلهي، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى)، فالسنة واجبة الإتباع كالقرآن لأنها من عند الله تعالى، والفرق بينهما أن القرآن لفظه ومعناه وحي من الله تعالى، أما السنة فمعناها وحي من الله تعالى ولفظها من رسول الله ﷺ.
وقد أعطى الله رسوله ﷺ وظيفة بيان معاني القرآن وشرح المجمل من نصوصه وأحكامه، وما يلزم لتطبيق أحكامه من شروط وزوال الموانع، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أي أنزلنا إليك القرآن لتبين للناس ما أنزل الله فيه من أحكام وبيان القرآن يُطلب من السنة، والمبيِّن لذلك المجمل من القرآن هو الرسول ﷺ.
52) ضوابط التجديد المتعلقة بالسنة النبوية الشريفة
أ-
التعريف بالسنة والالتزام بها:
السنة النبوية الشريفة هي ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير واجبة الإتباع؛ لأنها وحي من الله تعالى، فهي كالقرآن إلا أن لفظها من الرسول ﷺ ومعناها من الله تعالى، أما القرآن فكما قلنا أن لفظه ومعناه من الله تعالى، والدليل على حجية السنة النبوية ووجوب إتباعها والعمل بموجبها والالتزام بها، الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تأمر بطاعة الرسول ﷺ فيما يأمر به وينهى عنه والالتزام بها في أساليب متنوعة، وصيغ مختلفة، فهي تأمر بطاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتجعل طاعته طاعة لله تعالى، وتأمر برد التنازع فيه إلى الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- أي إلى كتاب الله (القرآن الكريم) وسنة نبيه ﷺ وتأمر بقبول ما أنبأنا به رسول الله ﷺ وطاعته فيه، قال تعالى: (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، وتصرح بأن لا إيمان لمن لا يحكِّم رسول الله ﷺ فيما يختلف فيه مع غيره، ولا يكفي هذا التحكيم لرسول الله ﷺ حتى يرضى المتنازعون بما يحكم به رسول الله ﷺ، ويحذِّر القرآن الكريم المخالفين لأمر رسول الله ﷺ بسوء العاقبة وبالعذاب الأليم.
ب- وطاعة الرسول ﷺ فيما يصدر عنه من أمر ونهي أو تقرير هي طاعة مطلقة من غير شرط ثبوتها عن طريق التواتر، بل يكفي للزوم طاعتها ثبوتها برواية العدول، وإن كانوا آحادا، كما أن ما يأمر به أو ينهى عنه ﷺ لا يقبل التعقيب عليه، ولا أن يكون مشابها لما يأمر به القرآن وينهى عنه؛ لأن السنة النبوية هي من وحي الله تعالى كما أن القرآن الكريم من وحي الله تعالى، قال رسول الله ﷺ: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
ج- الالتزام في تفسيرها بقواعد اللغة العربية لأنها صادرة عن النبي ﷺ باللسان العربي، وهو ﷺ أفصح من نطق باللغة العربية وأوتي جوامع الكلم، وتفسر السنة ويفهم المراد مما ينطق به ﷺ من أمر ونهي وفق أساليب اللغة العربية وقواعدها في التعبير عما يريده المتكلم بها.
53) مظاهر الالتزام بضوابط القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
والذي يدل على أن المجدد للدين ملتزم بما قلناه من ضوابط تتعلق بالكتاب والسنة عند استخراج الأحكام منهما، أو الاستدلال بنصوصهما، والدعوة إلى ما فيهما من معاني وأحكام أن لا يأتي المجدد بما يخالف هذه النصوص في دلالتها الصريحة على الأحكام، كالذي يقوله بعضهم من عدم جواز تعدد الزوجات، أو استحلال الربا، وسلب حق الزوج بالطلاق، أو رفض قوامة الرجال على النساء؛ لأن هذه الأقوال لا تصلح أن تكون من وجوه تفسير النصوص؛ لأنها مناقضة لدلالتها الصريحة على معناها الذي يعرفه كل مسلم.
54)
الضوابط المتعلقة بالإجماع
الإجماع من مصادر الأحكام الشرعية التي أرشد إليها ودل على شرعيتها وحجيتها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وأريد أن أخص هذا المصدر (الإجماع) بذكر تعريفه، وكيفية الاستفادة منه في العصر الحاضر.
فأما تعريفه في اللغة فهو: العزم والتصميم على فعل شيء أو تركه، وفي الاصطلاح الشرعي هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة النبي ﷺ على حكم شرعي، والإجماع إذا انعقد بشروطه الواردة في تعريفه كان حجة شرعية لا تجوز مخالفته، فلا يجوز أن يأتي المجدد بأشياء تخالف ما انعقد عليه الإجماع الشرعي.
55)
أهمية الإجماع في الوقت الحاضر
الإجماع مصدر مهم وشرعي من مصادر الأحكام الشرعية في الفقه الإسلامي، ويمكن الاستفادة منه في معرفة الأحكام الشرعية للوقائع الجديدة في الوقت الحاضر وهي كثيرة إلا أن هذه الاستفادة لا يمكن الحصول عليها إلا إذا أمكننا جمع الفقهاء المسلمين من جميع أقطارهم في مكان واحد، وعرض الوقائع الجديدة لإخراج الأحكام الشرعية لها باتفاق المجتمعين، وهذا متعذر، ولكن يمكن الاقتراب منه بتكوين مجمع فقهي يضم جميع فقهاء العالم الإسلامي وتخصيص ما يلزم لعملهم من اختيار محل لاجتماعهم في الأوقات التي يتفقون عليها، وتهيئة كل ما يلزم لعملهم من موظفين مساعدين لهم، وأدوات النشر لقراراتهم وغير ذلك، وتعرض عليهم الوقائع الجديدة التي يراد معرفة أحكامها الشرعية، وترسل هذه الوقائع إلى مركز المجمع الفقهي رأسا أو إلى معتمده في كل قطر، ثم يقرأ المجمع هذه الوقائع، ويبدي كل عضو في المجمع رأيه في الحكم المناسب لكل واقعة ودليله، ثم تنشر هذه الأحكام التي توصلوا إليها باتفاقهم أو بدون اتفاقهم على رأي واحد، ويطلب مع نشرها أن يبدي كل من عنده فقه رأيه، وما يعقب به على هذه الأحكام، ويرسلها إلى المجمع الفقهي رأسا أو يسلمها إلى معتمده في كل قطر خلال مدة معينة، ثم يجتمع المجلس الفقهي للنظر في هذه الآراء والتعقيبات التي وصلته، وفي ضوئها إما أن يعدل المجمع آراءه التي أعلنها، أو يصر على آرائه التي أعلنها كما كانت عليه من اتفاق أو اختلاف، فإن كان ما توصلوا إليه من أحكام محل اتفاق فيما بينهم فهذا الاتفاق يقترب جدا من مفهوم الإجماع من الاصطلاح الشرعي، وبالتالي يستحق القبول به والعمل بموجبه، أو يبقى الاختلاف فيما توصلوا إليه ويكون الأولى بالترجيح والعمل به الرأي الذي تسنده الأدلة المقبولة شرعا أكثر من غيره من الآراء.
56)
الضوابط المتعلقة بالمصادر الأخرى للأحكام
هناك مصادر للأحكام الشرعية اكتسبت حجيتها واعتبارها من دلالة القرآن والسنة كما قلنا وهي: الإجماع، والقياس، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، وقول الصحابي، على تفصيل فيه، وبالتالي يجوز للمجتهد أن يرجع إلى هذه المصادر للتعرف على الأحكام الشرعية منها.
ولكن هذا الجواز بالرجوع إلى هذه المصادر مقيد بالالتزام بضوابط كل مصدر من هذه المصادر لمن يريد استفادة الأحكام الشرعية منها، وعلى المجدد أن يلتزم بما قلناه عند رجوعه إلى هذه المصادر للتعرف على الأحكام الشرعية منها، وإلا كان ما يدعو إليه من تجديد غير مقبول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين,,,
الدكتور عبدالكريم زيدان
13 صفر 1430هـ الموافق 9شباط/فبراير 2009م |