عن الشيخ --> قالوا عن الشيخ
الدكتور بلال فيصل البحر
مسامرة الأعيان في احتساب العلامة زيدان رحمه الله تعالى
بقلم/ الدكتور بلال فيصل* البحر
الحمد لله القائل (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الأنبياء 44) فكان من وجوه نقصانـها موت العلماء، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وقدوة الأولياء، أخبرنا أن الله يقبض العلم بقبض العلماء، وعلى آله السادة النجباء، وأصحابه الحلماء الحكماء...وبعد:
فقد بلغنا ونحن بمصر خبر وفاة أستاذنا وشيخ شيوخنا العلامة الفقيه الأصولي النظار الدكتور أبي محمد عبد الكريم زيدان العاني البغدادي في يوم الإثنين 26 من ربيع الأول عام 1435هـ، فانتفضت إلا من اليقين قلُوبنا، وانعقدت إلا من الاسترجاع ألسنتُنا، واغرورقت بالدموع أعينُنا، وعادت إلى صنعاء بنا سوانح الذكريات، وطاف بنا طيف خيال من نفحات يمانيات:
إذا قيل إن النأيَ يُســــليك ذكرها ألَـمَّ خيالٌ من أُميمةَ يُسعِفُ
فمن لامني في أن أَهيـم بذكرها تكلّف من وجدٍ بـها ما أُكـلّفُ
وقد كنتُ قبيل وفاته بنحو الشهر، رأيت فيما يرى النائم عند الفجر والدي رحمه الله، يدعوني للسلام على العلامة زيدان رحمه الله وكان بصحبته، فسلّمتُ عليه وقلتُ له: ألا تذهب معي؟ فقال أبي رحمه الله مستبشراً: إنه ذاهب معي! فأولته موت العلامة زيدان، ودفنه ببغداد بقرينة وجود والدي رحمهما الله وهو دفين بغداد حرسها الله وسائر بلاد الإسلام.
و كان لنا بصنعاء مع الأستاذ العلامة زيدان رحمه الله، مجالس حافلة بالفوائد، وأوقات عامرة بأنفع العوائد، وعهدي بفضيلته منذ سنة 1416هـ عندما قدمت اليمن فزرته للسلام عليه وإبلاغه سلام والدي رحمه الله وعمي، ووصايتهما إليه بتعاهدي.
وقد كان كلّمه قبيل قدومي عليه فضيلة الأستاذ الدكتور الفقيه محمد رضا عبد الجبار العاني رحمه الله، دفين صنعاء وكان أستاذاً بجامعتها، وعضو المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، فرحب بي غاية الترحاب، وفتح لي ما انغلق عن غيري من الأبواب، لا لأجل الوساطة فحسب، بل كما أعلمني بذلك بعدُ الدكتور رضا رحمه الله، أنه يستبشر بما أُلقيه عليه من المشكلات والمسائل، للمعرفة لا للامتحان أو الشهرة.
وقد علم من يعرف العلامة زيدان أنه كان على جوده وكرمه، ضنيناً بأوقاته، مستفرغاً أيامه في الإشغال والاشتغال، مع قلة المنتفعين منه بالسؤال، حتى إنه ليشتكي بلسان الحال ما اشتكى منه إبراهيم النخعي وغيره من السلف بلسان المقال: (ما أجد أحداً يسألني) أي: مسائل نافعة أو بقصد الانتفاع، أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من سألني متعنتاً ممتحناً أفحمته ولا أزال معه حتى ينقطع، ومن سألني مستفيداً حققت له الجواب).
ولذا تجدهم ينقبضون عن كثير من الطلبة، كما يُذكر عن سعيد بن المسيب ومالك والأعمش وغيرهم من السلف، وقد كان كثير من أهل العلم ممن أدركنا على هذه الحال، فإذا تحقق أحدُهم انتفاعَ السائل، وحسنَ قصده، انشرح له وانبسط لما يورده.
وكان العلامة زيدان رحمه الله يمتنع أشدّ الامتناع من التدريس في غير الجامعات حفاظاً منه على أوقاته، ولأن كثيراً من الطلبة في رأيه اليوم قد ضعفت هممهم، وفترت عزائمهم، وكان قليل المخالطة للناس إلا لمصلحة، ولسان حاله في هذا كما قال ابن المبارك رحمه الله:
قد أرحنا واســترحنا من غُدـــــــوٍ ورواحْ
واتـصــــــالٍ بلـئيــمٍ أو كريمٍ ذي سماحْ
بعـفـافٍ وكــفـــــافٍ وقنـــوعٍ وصـــــــلاحْ
وجعلنا اليأسَ مفــــــــتـاحاً لأبواب النجــاحْ
ولذا سمح لي أن أزوره في الأسبوع مرة أعرض عليه ما يواجهني من مشكلات المسائل حال البحث والنظر والمطالعة، فكنت أقيدها وأجتمع به، وأحفظ أجوبته، فحصل لي من ذلك خير كثير.
فلا ينبغي للطالب إذا امتنع العلماء منه أن يفوّت على نفسه الانتفاع بـهم، أو يدع الاشتغال بدعوى أن العالم المعيّن لا يُدرّس، كما نشاهده في كثير من طلبة العلم بالأزهر وغيره، بل لابدّ له من استخراج علومهم، ولا مناص له من اقتناص فوائدهم، ولا يسأم من ذلك ولا يضجر، ولا سيما الكبار منهم، حتى لو ناله منهم أذى أو شراسة خلق.
وقد ذكروا أن عليّ بن الحسن الأحمر وكان واسع الحفظ والعلم بالنحو واللغة، كان جندياً من رجال النوبة على باب الرشيد، ولا يقدر على مجالسة الكسائي، فكان يرصده في طريقه إلى الرشيد كل يوم، فإذا أقبل تلقاه وأخذ بركابه وماشاه، وسأله المسألة بعد المسألة إلى أن يبلغ الكسائيُّ بابَ الرشيد، فيرجع الأحمر إلى مكانه، فإذا خرج الكسائي فعل به مثل ذلك، حتى قوي وتمكن، واختاره الكسائيُّ دون سائر أصحابه مؤدباً لولد الرشيد.!
فتأمل كيف حصّل العلم من غير مجلس الدرس، وهذا كما قيل لحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: بمَ نلتَ العلم؟ قال: (بلسان سؤول وقلب عقول).
بل إن منهم من لا تُنال فوائده إلا بعد أن يُستثار فيتغيظ، وقد جمعنا مرة مجلس بالعلامة محمد المختار الشنقيطي الأستاذ بجامعة الإيمان، وكان فيه نوع كسل عن الإفادة على سعة علمه وكثرة محفوظه، فحاولنا معه حتى عجزنا عن الظفر منه بفائدة، فقلت له: يقولون إن المالكية ليس لهم في الفقه والأصول كبير مصنَّف يقع لهم فيه ذكر دلائل المذهب والاحتجاج له والرد على المخالفين، وغالب كتبهم إنما تعتني بتحقيق المذهب وبيان مشهوره، لا غير.؟
فانتفض وأملى مجلساً حافلاً سرد فيه قطعة وافرة من تصانيف المالكية في هذا المعنى وطرّزها بشواهد على ذلك، وهذا مصداق قول القائل:
مِنَ الناس مَنْ لا يُرتجى نفعُـهُ إلا إذا مُــسَّ بإضرارِ
كالعُــودِ لا يُطـمــع في عَرْفــه إلا إذا أُحرق بالنــارِ
وكان العلامة الأستاذ زيدان رحمه الله واسع العلم بالفقه وأصوله، ثاقب الفهم، دقيق النظر، شديد الذكاء، حاد الذهن، علمه في صدره يحفظه ويستظهره ويُمليه متى شاء، ولا سيما مصنفاته التي كأنـها كلها نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، يستحضر منها ما يشاء دون كلفة، فهو بحق ممن يُقبض العلمُ بقبضهم، ويفوت على من لم يلقه الفقهُ بموتـهم، وقد قال تعالى: (
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ
) (العنكبوت 49) وقالوا:
ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصَدْرُ
وقال التَّوزي:
إذا لم تكن حـافـظـاً واعيـــاً فعلمــــك في البيت لا ينفعُ
وتحضر بالجهل في مجلس وعلمك في الكتْب مستودعُ
ومن يكُ دهْرُه هكـــــــــــذا يكن دهْرَه الــــقهقرى يرجعُ
ومن هنا قال سعيد بن جبير لما قيل له: ما علامة هلاك الناس؟ قال: (إذا هلك علماؤهم) وبه يدرك وجه ما كتب به أهل سمرقند إلى البخاري:
المسلمون بخير ما بقيتَ لهم وليس بعدك خيرٌ حين تُفتَقدُ
ومن مناقب العلامة زيدان أنه كان شديد التعظيم للآثار والسنن، وقّافاً عندها لا يجاوزها إلا بحجة ناهضة، مع كثرة تأنيه في المسائل، وعدم القطع فيها بحكم قبل استفراغ البحث في الدلائل، وإمعان النظر في مذهب القائل، وإذا عَنَّ له إشكالٌ أجال فكره عليه، وأدام خاطره فيه، وصوّب ثاقب فهمه إليه، فتراه طويل الصمت مهيباً، لا يتجرأ السائل على مراجعته حتى ينفتح له جواب الإشكال، وينطلق لسانه بالمقال، فيسترسل في فكّ الإعضال، وحلّ الإشكال والجواب عن موضع الاستشكال.
وقد سألته عن بيع السيف محلى بذهب وفضة؟ فتأمل وأفتى بالجواز إذا كانت قيمة السيف معهودة في السوق، أو كان بحيث يقوّم ثمنه بمعرفة مقدار ما فيه من الذهب والفضة على الانفراد ثم يباع جملة، فأوردت عليه الخبر الذي خرّجه النسائي في قلادة بعضها ذهب وبعضها فضة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تباع حتى تفصل)؟ فعجب للخبر وتوقف متأملاً طويلاً، ثم تبسم وقال: هذا فيما يُمكن فصله، فأما ما يفسد أو تنقص قيمته بفصله فلا يشمله هذا النهي بتقدير صحته، وكان كأنه لم يتحقق صحة الخبر.
وسأله سائل وأنا حاضر عن دية عين الأعور؟ فتوقف متأملاً فيها طويلاً، ولم يفتِ فيها بشيء، وقال: المسألة تحتاج إلى بحث ونظر، وتوقف فيها، ومذهب مالك وأحمد أن فيها دية كاملة لقضاء الخلفاء به من غير مخالف من الصحابة لهم، ولأنـها تقوم في حقه مقام العينين في منافعها، بدليل جواز استقضائه وشهادته، وعند أبي حنيفة والشافعي فيها نصف دية لظاهر الحديث، ومقتضى النظر أنه إن كانت عينه العوراء مخسوفة مطموسة بحيث لا يدرك بـها، ففي عينه الصحيحة نصف دية وإلا ففيها الدية أو النصف وحكومة، كالعوراء تجزئ في الأضحية إذا لم تكن عينها مخسوفة وإلا فلا، والله أعلم.
وعرضتُ على العلامة زيدان مرة مسألة تكليف الكفار بالفروع، إن قلنا إنـهم مكلفون، فلا يخلو إذا هم أوقعوا التكليف أن يصح منهم أو لا؟ الأول: ممتنع لأن من شرطه الإيمان وهو منتفٍ عنهم، والثاني: عبث يتنزه عنه الشارع الحكيم، فما فائدة تكليفهم بـها إذا كانت لا تصح منهم.؟!
فتأمل وأدام الفكرة حتى لامني الحاضرون دون علمه على هذا السؤال، ثم أجاب وهو يتبسّم بالفرق بين ما يقبل الضمان من التكاليف، ويتعلق به حق الغير، فإنـهم مكلفون به والحال هذه، وإلا فلا، ومحصّل جوابه موافقة المعتزلة وهو الحق لأن ما يضمن خارج عن محل الخلاف اتفاقا، والنزاع إنما هو فيما عداه مما لا ضمان فيه.
وعهدي بالعلامة الدكتور زيدان رحمه الله، كالمطر لا يبالي بأي أرض نزل، وعلى أي واد هطل، يستوي عنه المادح والقادح، حاله في هذا كما قال ابن سراج:
بُثَّ الصــنائعَ لا تـحفـل بـموقـعـهــا من آملٍ شكرَ الإحسانَ أو كفرا
فالغيثُ ليس يبالي أينما انسكبت منه الغمائمُ تُرباً كان أو حــــجرا
وقد وقع فيه المحدث الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله وغفر له وبـهته بالباطل، ورماه بما لا أستحل ذكره وإيراده هنا، فلم يُلقِ العلامةُ له بالاً، وإن كان بعض الناس قد أغروه بـمقاضاته.
وقد رام بعضهم امتحان أخلاقه، فعرض بحضرته لذكر الوادعي ووقيعته فيه، فانتهر العلامةُ السائلَ، وتناول الوادعي بما يقتضي أن قوله في جرح أهل العلم والفضل وثلبهم غير مقبول، بل هو عند عقلاء الفضلاء مرذول، لتعنته وإسرافه في الجرح، وغلوه في الذم والقدح، ثم نصح السائلَ أن لا يشتغل إلا بما ينفعه من المذاكرة في العلم والفقه، وأن لا يقبل كلام الأقران في بعضهم إذا لاح أنه إنما خرج لأجل العداوة والعصبية للمذهب.
وهذا من تمام حلمه وإنصافه، فإنه أشار إلى أن كلامه هو نفسه بتقدير وجوده منه في الوادعي أيضاً غير مقبول، إذا كان سببه ما ذُكر، لا محض النقد والتقويم، مع كونه مظلوماً في الواقعة بحيث يحل له الوقيعة في مخالفه لرفع مظلمته والتعريف بحاله، كما قيل:
القـدح ليس بغـيـبـةٍ في ســتةٍ
مُتـظّلِّـمٍ ومُـعـرّفٍ ومُحـــــذِّرِ
ولـمُظهرٍ فسقاً ومُسـتفتٍ ومن طلبَ الإعانةَ في إزالة منـكرِ
وتصرفه هذا هو الذي ينبغي لأهل العلم والفضل التحلي به اقتداءً بالسلف الماضين، وهو نظير تصرف الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، فإنه قيل له إن رجلاً يقول: أخطأ أبو عبيد في مائتي حرف من (الغريب المصنف) فحَلُم أبو عبيد رحمه الله ولم يقع في الرجل بشيء، وقال: في (المصنف) كذا وكذا ألف حرف، فلو لم أخطئ إلا في هذا القدر اليسير ما هو بكثير، ولعل صاحبنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في المائتين لوجدنا لها مخرجاً.
وكان شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني يطريه ويبالغ في تعظيمه والثناء عليه بالفهم والعلم وثقوب النظر، ويعجب من طول صمته، ويقول إنه يذكرنا بما ذكروه في ترجمة الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله من طول صمته، فقلت له: هل تناظرتما أو تذاكرتما؟ فقال: لا، فقلت: لمَ؟! قال: لأنه يحب السكوت، وأحب أنا الكلام.
وكان القاضي كثير الكلام في العلم والنوادر والفوائد، كما يذكر عن القاضي إياس بن معاوية الذكي أنه كان كثير الكلام، فقال له رجل: ما فيك عيب غير كثرة الكلام! فقال إياس: هل أتكلم بحق أم بباطل؟ فقال الرجل: بحق، فقال إياس: فالإكثار من الحق خير.
وهذا نظير ما وقع بين الإمامين التقيين، تقي الدين بن تيمية وتقي الدين بن دقيق العيد رحمهما الله، على ما ذكره العماد ابن كثير في (تاريخه) أن ابن دقيق العيد أخبر عن سعة علم ابن تيمية وجودة فهمه، فقيل له: هل تناظرتما؟ فقال: لا، لأنه كان يحب الكلام وأحب السكوت.
وقد قال أبو العتاهية:
إن كان يُـعـجبك السـكوتُ فإنه قد كان يُعجب قبلك الأخيـــارا
ولئن ندمتَ على سكوتك مرة فلقد ندمتَ على الكـلام مِرارا
إن السكوتَ سلامةٌ ولربمــــــا زرع الكلامُ عداوةً وضِـــــــــرارا
ومن عجب أن هذا الجبل العاني، مع علمه وفضله الذي تحققه القاصي والداني، لم يكن لأهل بلده من البغداديين خصوصاً، والعراقيين عموماً، كبير عناية به، نظير ما وقع للقاضي عبد الوهاب البغدادي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما من أهل العلم بدار السلام، فإنـهم كانوا يشتكون ويتذمرون من شديد عناية البغاددة بالغرباء الوافدين من أهل العلم عليها، دون علماء بغداد، وإن كنا نحن في رحلتنا شاهدنا من أحوال العلماء في مصر واليمن وغيرها من البلاد مثل هذا، وفي ذلك يقول ابن الجوزي:
عذيري من فتية بالعـــراق قلوبـهم بالجــــفا تتقلبُ
يرون العجيبَ كلامَ الغريب وقولَ القريب فلا يُـعجبُ
ميازيبُهم إن تندّتْ بخيـــــر إلى غير جيرانـهم تضربُ
وعُذرهــــــم عند توبيخهم مُغنية الحيِّ لا تُطـــــربُ
وقال القاضي عبد الوهاب:
كم حكمةٍ لي فيكم لو رميتُ بـها لِقَعْر بحرٍ لجـــاءتني جواهرهُ
لا عيبَ لي غير أني في دياركــمُ وزامرُ الحيّ لا تُطربْ مزامرهُ
وأُراه كان أعني العلامة زيدان رحمه الله، كالقاضي عبد الوهاب في قوله وقد خرج من بغداد مُكرهاً بعد أن نَبَتْ به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وحكم الأيام في محسني أهلها، كما يقوله ابن بسام في (الذخيرة):
سلامٌ على بغدادَ في كل موطـن
وحُقَّ لها مني سلامٌ مضاعفُ
فـوالله مـا فـارقـتهـا عن قِــلاً لـها وإني بشَطيّ جانبيها لعـــارفُ
ولكنها ضاقتْ عليَّ بأســــــــرها ولم تكن الأرزاقُ فيها تُساعفُ
وكانت كخِلٍّ كــــــنتُ أهوى دُنوَّه وأخلاقُهُ تنأى به وتُخالـــــــــفُ
ثم توجه العلامة زيدان إلى اليمن كما توجه القاضي إلى مصر، فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، مع أن العلامة رحمه الله كان لفضله ونبله يعتقد الفضل في كل فاضل، ويقدر أهله من كل الطوائف والمذاهب سواء، ولم يعهد عنه قدح في أحد أو ذمّ في معين، إنما كانت همَّتُه نقدَ الأراء وتقويمَ الأفكار، بعلم وإنصاف على سبيل النصح والتوجيه والإرشاد، وهو في هذا كما قيل:
وما عبّر الإنسانُ عن فضل نفسـه بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضلِ
وإن أخسّ النقص أن ينفيَ الفتى قذى العين عنه بانتقـاص الأفاضلِ
ولما طلب مني صديقنا الأستاذ المحقق إياد القيسي وفقه الله أن ألتقي العلامة زيدان رحمه الله بغرض الحصول على إفادة منه تتعلق بترجمة العلامة المحدث عبد الكريم الشيخلي البغدادي الملقب بالصاعقة رحمه الله، وكان القيسي مشتغلاً بترجمته والتنويه بفضله، فالتقيت العلامة زيدان على العادة في داره بصنعاء وسألته عنه، فذكره بكل فضل وجميل مع ما بينهما من الاختلاف في الفكر والمنهج، وسنح به خاطره إلى ذكريات الماضي في غمرة مشوبة بألم الحاضر، فانحدر يذكر شهوده درس العلامة الصاعقة في مسجد الحيدرخانة ببغداد، واسترسل في وصف أطلال بغداد العتيقة، ومنادمة دورها وأزقتها السحيقة، كأني به يستنشد قول زياد الأعجم:
أحبُّ بلاد الله ما بيـــــــن منئج
إليَّ وسلمى أن يصوب سحابـُها
بلادٌ بـها عقّ الشــبابُ تميمتي وأولُ أرضٍ مــــــسَّ جلدي ترابـُها
ومما أفاده أن الشيخلي إنما لُقّب بالصاعقة لقوة مقاومته الاحتلال الإنكليزي ودعوته الناس إلى جهادهم بالعراق، ولو اقتفى المشتغلون بالعلم هذا النبل مع مخالفيهم ما وجد نزاع وشقاق في الأمة.
والعلامة زيدان رحمه الله ممن عاش بعد الموت! فإنه ممن نُعيَ قبل وفاته، ونُشر الخبر بذلك ثم تبين كذبه، وقد وقع هذا لجماعة من الفضلاء المعاصرين منهم الأديب أحمد الزيات وشاعرة العراق نازك الملائكة والمحدث الألباني وغيرهم رحمهم الله، واتفق أن الأستاذ الأديب زكي قنصل وهو من أدباء المهجر السوريين، نُشر خبر وفاته في بعض الصحف، فقرأه بنفسه وتغيّظ له وأنشد:
لا لم أمــت لكنني ســــــــأموتُ فعلامَ يستبقُ الردى عُكْروتُ
كذب النَّعيُّ ولو تــحققَّ لانطوى للشعر بَنْدٌ وانقضى ملكــوتُ
ولغاضت الفيــحاءُ في أحزانــــها وتجلَّلتْ بســــــوادها بيروتُ
هيهات لستَ من القضاء بنجدة لا مهدَ إلا خلفَهُ تابــــــــــوتُ
كم ذلّ جبارٌ لســــــلطان الردى وطوى لديه جناحَه طاغـــوتُ
لا فرق بين الناس في قانونـــه داودُ مات كما مضى جالــوتُ
أنا بلبلٌ بين الخــمائل هــــــائم نجواه رِيٌّ للنفوس وقُـــــــوتُ
حسدتْهُ فافتاتتْ عليــــــه بومةٌ يجني عليها حِقدُها المكبوتُ
قالوا لها غني فأضحكتِ الرُّبــى خيرٌ من الهَدْرِ القبيحِ سكوتُ
أنا قد أموتُ غداً وأتــرك ثروتي يبقى عبيرُ الورد وهو يـــموتُ
ولو أنه قال (كما قضى جالوت) مكان (مضى) كان أجود.
وقد نبهنا العلامة زيدان رحمه الله عملياً إلى نوع من الزهد، ربما غفل عنه كثير ممن تصدى لتعريف الزهد، وهو البذل والتضحية في سبيل نشر العلوم والمعارف، فكثيراً ما كان العلامة زيدان رحمه الله يتلقى عروضاً من الجامعات التي تغري الأساتذة الكبار بالرواتب العالية، والترف الاجتماعي، فكان يقابل هذه المغريات بالاعتذار عن قبولها، ويؤثر البقاء في اليمن، فإذا ما روجع في هذا يقول: إن الحاجة باليمن إلينا أشدّ، وانتفاع الناس والطلبة بنا فيها أكثر.
وقد كان العلامة شديد الشوق إلى بغداد والعراق، يحن لهفاً على موطنه ومحكده، وينزع شوقاً إلى أرضه ومحتده، زاره معي يوماً رجل من مدينة (أبو الخصيب) بالبصرة الفيحاء، فرحب به العلامة كثيراً، وأخذ يصف له أنـهار (أبو الخصيب) الرائقة، وبساتينها اليانعة الفائقة، والبصرةَ القديمة التي زارها كما قال في خمسينات القرن الماضي يوم كانت تدعى (فينيسيا الشرق) فعاوده الحنين إلى الوطن، ونازعه الشوق إلى الأهل، فكان حاله كحال أبي حيان الأندلسي رحمه الله، فإنه على ما ذكر أبو البقاء البلوي في (تاج المفرق) أنه كان ربما نازعه الحنين إلى غرناطة فقال يصف موطنه، ويبث فيها شوقه وشجنه، ويندب معاهده فيها ومشاهده، ويذكر مصادره فيها وموارده:
هل تذكـــرين منازلاً بالأحــبل منازلها حُفّت بشطّي شــنشلَ
ومشـــاهداً ومعاهداً ومناظراً للقاصـــــــــــرات اليعملات الذُّبلَ
حيث الرياضُ تفتّحت أزهارُها فشممتُ أذكى من أريج المندلَ
والطيرُ تشـدو مفصحاتٍ بالغنا فوق الغصــــون الناعمات الـمـُيّل
فتثير للمشـــــــتاق داءً كامناً وتزيل صـــــائنَ دمعه المتـــــهلّلَ
أو كما قال الأديب العلامة أبو عبد الله الكلثومي وقد رحل عن العراق، واغترب في خوارزم، فقال يذكر اشتياقه لوطنه:
سقى الله رَبْعاً بالعراق فإنه إليّ وإن فارقتــــــــــــــه لحبيبُ
أحنُّ إليه من خراسانَ نازعاً وهيــــــــهات لو أن المزارَ قريبُ
وإن حنينــاً من خوارزمَ ضُلّة إلى منتهى أرض العراق عجيبُ
وقد صدق اللهَ في حبه لوطنه فصدقه اللهُ، وها هو يعود إليه لكن.. ومن عجب أنه هو لا غيره من أفتى أبناء الدكتور رضا العاني رحمه الله بأن السنة أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، فلم بدفن هو حيث مات.!
ليت أن الأستاذ الشاعر المجوّد وليد الأعظمي رحمه الله حيّ، لكان يطرّز كتابه الحافل في (تاريخ أعيان الأعظمية) بذكر العلامة زيدان في جملة جيران النعمان في مقبرة الخيزران.
إنها دمعة فراق على علامة العراق، ولوعة الاشتياق إلى التلاق، الذي حال دونه المساق، على حدّ قول البخاري رحمه الله وقد قيل له: أيّ شيء تشتهي؟ فقال: (أشتهي أن أقدمَ العراق، وعليُّ بن عبد الله حي فأُجالسه) يريد: الإمام الحافظ الكبير علي بن المديني رحمه الله.
ونحن نقول في العلامة الدكتور زيدان ما قاله الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم في شيخه الحافظ أبي عليّ النيسابوري: (ولست أقول مبالغاً لأنه شيخي، ولكن لم ترَ عيناي مثله).
تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا على فراقك يا زيدان لمحزونون.
القاهرة/ الأربعاء 28 ذو القعدة 1440هـ - 31 يوليو 2019م * والد كاتب المقال: فيصل خليل البحر من مواليد 1937 وتوفي سنة 2011 رحمه الله تعالى. وهو ابن عم الدكتور عبد الكريم زيدان وتلميذه. كان معلما للغة العربية، وقد درَّس في الجزائر في الستينيات إبَّان التعريب والقضاء على الفرنسة، واشتغل بتجارة الأقمشة ،وتفرغ آخر حياته لتحفيظ القرآن الكريم في مسجد حيِّ القضاة بالكرخ في بغداد، وكان قد بدأ بطلب العلم قديما، وحضر يسيرا عند الملا طاهر الواعظ رحمه الله، وقرأ عليه ابنه بلال الإحياء لحجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى. |