عن الشيخ --> قالوا عن الشيخ
الدكتور/ احمد حسن الطه
كلمة الشيخ الدكتور احمد حسن الطه في تأبين الشيخ عبدالكريم زيدان
كلمة القاها الشيخ الدكتور احمد حسن الطه ارتجالا من الحفظ والذاكرة دون الاعتماد على الورقة, والارتجال في الخطابة سنة الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم أجمعين, وقد نشر هذا التأبين للشيخ عبدالكريم زيدان بالصوت والصورة في قنوات ومواقع كثيرة.
الموقع ينشر نص التأبين بعد تفريغ التسجيل المرئي والذي تضمن تعليق الدكتور احمد حسن الطه على فصول من حياة الشيخ عبدالكريم زيدان خلال عشرات السنين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الانبياء والمرسلين وعلى اله واصحابه وازواجه وذريته ومن اهتدى بهديه الى يوم الدين.
اما بعدُ
فان خبر وفاة الاستاذ الإمام الشيخ عبدالكريم زيدان خبر محزن ومفزع مع ان قدر الله تعالى نافذ وهو على الراس والعين والله جلَّ وعلى ما كتب الخلود لمخلوق, فقال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) مع ان هذا الحقَ عندما يقع امر الله وينفذ قدره, قال الحق تتلقاه النفوس بشيء من الحزن والالم في وقت عزّ فيه الافذاذ من امثال هذا الاستاذ عليه رحمة الله تعالى ورضوانه.
هذا الرجل عُرف في الاوساط العلمية منذ ما يزيد على نصف قرن أنه رجل شغل نفسه بالعلم والعمل ونشر الفضيلة وتنقيح الافكار مما يشوبها, وكان صاحب دعوة خصوصاً في الشباب ... دعوةٍ هادئة هادفة, بل انه كان منظراً في هذا العصر, ولم يكن صاحب دعوى او دعاية, إنما هو صامت قليل الكلام كثير العمل كثير التأليف بعيد عن الشبهات, بل إنه يتحقق فيه قول الرسول ﷺ (لا حسد إلا في اثنتين, رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها).
الرجل منذ أن عرفته رجل يحمل الحكمة ويهذبها ويعرضها عرضاً جميلا معقولاً مقبولاً. منذ اكثر من خمسين عاماً, كتبه متنوعة كلها تنور الاذهان, كلها تبني الشخصية لطالب العلم, هو طبعاً استاذ في الاصل في كلية القانون في العراق وكان رئيس قسم في كلية الحقوق في الخمسينيات, وكان يوكل اليه تدريس اصول القانون في الشريعة الاسلامية وكتابه في هذا الشأن رغم أنه كان مختصراً يناسب عقول طلاب الحقوق المتخرجين من الثانويات العامة الا انه فيما بعد وسّعه وجعله مصدراً من مصادر اصول الفقه... استطيع القول بانه في العالم العربي وربما في العالم الاسلامي. فكتاب (الوجيز في اصول الفقه) قرأه عموم طلاب العصر, وهو كتاب قديم حديث يتحاشى العبارة القوية المُستغلِقة ويوضحه بالأمثلة المعاصرة, فكان كتاباً قليل المثيل, وكتب اخرى في التربية الروحية, واخرى في القضايا الدعوية. كتابه (اصول الدعوة) تجده كتاب كانه يصوغ الفرد المسلم لأن يتحمل المسؤولية التي بَعث الله بها الرسل وامر بها اتباعهم, حيث قال المولى جلّ وعلى مخاطباً رسوله ﷺ (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فكان يُفهم الفرد المسلم أنه مأمور بنص هذه الآية أن يدعو الى الله وأن يوضح شرع الله للناس بعد ان يفهمه ويعمل به. ولذلك تجد الكتاب يقترب من خمسمئة صحيفة يوجه ماذا يجب على الفرد المثقف المسلم في هذا الزمان, ولكنه في الحقيقة كأنه معمل لصياغة الدُعاة.
يكتب في القضايا القواعد... في قواعد الاصول, قواعد الفقه والقواعد العامة في الفقه الاسلامي ويتناول موضوعات مما يشعرك بأن الرجل رحمه الله تعالى كان موسوعة علمية.
ثم هناك له لفتات عجيبة وعظيمة من القران الكريم ومقتبسات من الحِكم يُشير بها الى كل ذهنٍ بان هذا الكتاب يدعو الى التي هي اقوم, كتاب حوى المعارف كلها ودعا الى السعادة وركز على اسس سعادة المجتمعات في تحقيق العدل والاحسان وايتاء ذي القربى, وحذر من معاول الدمار واسباب الفشل للمجتمعات قال الله تعالى (يَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ).
كان هذا الرجل في غايةٍ من البساطة وعدم التكلف ... لا تتصور انه العميد مثلاً او رئيس قسم او أنه الاستاذ المُفَوَّهٌ او أنه مُنشأ المؤسسة. احيانا هناك له نشاط, اسس منشأة وسماها (كلية الدراسات الاسلامية) خَّرجت وجباتٍ كثيرة وانقذت كثيراً مِن مَن كانت يقتلهم الفراغ وتؤرقهم الحَيرة, لهم كفاءات ولكن العمر حال دون استمرار الدراسة, فتحها كليةً شرعيةً, قانونية, مسائية, فانخرط فيها كثير من اصحاب الكفاءات الذين لم يحصلوا على الشهادة منهم المعلم ومنهم المدرس ومنهم الموظف ومنهم الجندي ومنهم التاجر, فخَّرج اجيالاً.
هذا الرجل عليه رحمة الله تعالى... أنا والله اعتقد أنه هذا هو السعيد الذي خيره لا يُحصى الا اذا انسان امسك سجل. الانتفاع بكتبه لا ينحصر بفن من الفنون, فهو فقيه وهو مفتي وهو داعية وهو مدرس مربي, تلاحظ ان العراق رزي بوفاته واصيب بمصيبة وحصول ثلمة في الحقيقة لا تجبر, لكن الله جلّ وعلى يفعل ما يريد, نساله جلت قدرته ان يعوض هذا البلد بمثل ما اصابهم وان يملأ الفراغ الذي تركه أستاذنا وفقيه العصر الشيخ عبدالكريم زيدان عليه رحمة الله تعالى.
كان الرجل لا تأخذه في الله لومةُ لائم, لم يكن متهوراً ولم يكن معروفاً بأنه خطيب يخطب في الجمهور إنما يُلقي المحاضرة بهدوء ولا يخدش ولكن كلمة الحق تؤرق اهل الباطل, تُزعج اهل الباطل وبالتالي شعر بانه يؤذى اينما ذهب.
اذكر في بداية السبعينات دُعينا مرةً عند احد الاعزاء وحضر الاستاذ عبدالكريم زيدان ... جلسنا نحو ساعتين بعد العشاء , ولما اراد الناس ان يخرجوا هو كان له وجهة نظر ... ولم يكن هو اسّنَ القوم, كثير كان اكبر منه, لكن الرجل كان واعياً, كان هادئا هادفاً ذكياً قانونياً ... قال أرجو من الجماعة – قالها بشيء من البشاشة او المزحة الخفيفة – للاحتياط اخرجوا كل اثنين على حدة او كل ثلاثة ... لا تخرجوا بهذا الشكل فتلفتوا النظر من يتصيد المظاهر, فالجماعة منهم من مبتسم ومنهم من يضحك ومنهم من قال جزاك الله خيراً, فكان الرجل بعيد النظر... كان بعيد النظر جداً, وبالتالي في بداية التسعينيات شعر بأن وجوده محاط بالإزعاج وقد يكون لا يطاق او ربما بالإهانة ... هو كان يقول لنا دائما عندما نسأله: اذا كانت هناك مناسبة نتكلم بقوة؟ فيقول: (لا يا اخي ما مأمورين بهذا, نحن مأمورون بأن نقول كلمة الحق وان نلطف الاسلوب, لان غير هذا يدعو الى الاهانة وقد نهانا رسول الله ﷺ وبين بأنه لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه لان الذي لا يتورع في الخطاب يُذل نفسه), فكان رحمه الله تعالى حكيما.
درسنا في عام 1970/1971 في الدراسات العليا في جامعة بغداد وكانت الدراسة مسائية, كان اثناء المحاضرة – محاضرته طبعا – تزيد على ساعة ونصف لان عادة عندنا مناهج الدراسات العليا يجمعون ساعتين فتكون بنحو ساعة واربعين دقيقة أو ساعتين الا عشر, فأحيانا يكون وقت المغرب اثنائها فاذا مضى على الاذان دقائق ينظر الى الاخوة الطلاب – كنا اذكر في ذلك الوقت نحو عشرة– فيفكر... ثم قال: كل واحد يترك - مرة كان امتحان - فقال كل واحد يترك ورقته ودفتره على الرحلة ويقوم... فقمنا, قال: تفضلوا – خرجنا ورد الباب ثم ذهب الى غرقة ثانية, ثم قال لواحد من عندنا: تفضل فصلي بنا امام, هو كان لا يلبس عمامة والطالب كان لابس عمامة, في وقتها قلت له: عفوا استاذ... قال لا هم الجماعة يريدون – يعني زملائك يريدون انت تصلي, فصلينا المغرب فقط على قدر الفرض ولما انتهينا عدنا رأسا الى الغرفة وكل واحد عاد الى مكانه. فتلاحظ هنا انه يطبق القانون, يطبق الشرع, يحذر من الانتقاد, يحذر من المآخذ القانونية والمآخذ الشرعية ونحن بحاجة حقيقة الى مثل هذه النماذج من المربين, وهكذا ينبغي ان نكون وان يكون المربي. نسأل الله جل وعلى ان يعوض الامة بفقده.
شعر بأن هناك امتداد يد على بعض الدعاة والاساتذة حينما بدأت اعتقالات البعض منهم, ففكر ثم خرج. وخروجه هذا لم يكن بُغية الشهرة لان هو الرجل معروف ولا يحتاجها ولا يطلبها ولم يكن بُغية جمع المال لان الله متفضل عليه ولكنه كان حامل دعوة, واختار واحسن الاختيار فذهب الى اليمن, وكان آنذاك الرجل المفكر عبدالمجيد الزنداني وفقه الله ورعاه واكثر من أمثاله, ايضا استقبلوه استقبال يليق بمقامه, فقاد الناس هناك واصيح مجمع الطلاب هناك يترددون اليه في الكلية وفي داره وتلفونه لا يفتُر, واجاباته لا تردد فيها او لا انقطاع, واذا جئته بسؤال يحتاج الى أربع او خمس صفحات يقول لك: أمهلني ان شاء الله الى غد, واحيانا لا يقول غد, يقول: امهلني ان شاء الله نجاوبك, في غالب الاحيان ثاني يوم يأتيك الجواب في ثلاث صفحات, اربع صفحات, خمس صفحات, وحينما تقرأها تتصور انها كانت مركونة على رف ثم جاء وطبعها.
رجل الله جل وعلى اعطاه موهبة وعبارة سلسة وبارك في وقته رحمه الله سبحانه وتعالى.
وبالتالي لما تنظر كتبه– أنا لما انظر كتابه هذا الذي طبع قبل نحو عشر سنين او خمسة عشر سنة (البيت المسلم واحكام المرأة) كتاب بهذا الحجم يحتاج الى - الله اعلم - على اقل تقدير يحتاج عشرين سنة ولكنه في الحقيقة موهبة من الله. ورجل كان جاداً لا يعرف اللهو او العبث اليه سبيلاً, حتى لما نظرت الحكومة في بلاد الحجاز نظرت كانوا يعقدون مؤتمر سنويا ويختارون كتاب العام او كتاب العصر فوقع اختيارهم على كتاب عبدالكريم زيدان المفصل بانه هو الذي يستحق ان يكافأ... فأعطي اكرامية جائزة الملك فيصل في ذلك الوقت والرجل ليس بحالها.
طبعا استُدعي الى مؤتمرات لا يعلمها الى الله, وكان وقوفه في كل مؤتمر يدل على نور البصيرة وعدم الالتفات الى الخلق, انما التجائه والتفاته الى الخالق حيث يرضى الله وهو مُقبل, غير هَياب ولا مُجامل, وحيث لا يرضى الله تعالى المشروع تراه ينغلق, ويقول: لا يا أخي... هذا لا يخصنا أو خارج عن الشرع او هذا غير مأذون به شرعاً او غير محبذ شرعاً فتراه صريح بدون – حاشاه - بدون وقاحة.
ختم الله جل وعلى له بنفائس المُكرَمْات
نحن من ما نعلمه انه من مات وهو يطلب العلم مات شهيداً, جاءت بهذا الاحاديث والاثار فهو الى ان مات الرجل يُعلم ويطلب العلم, ولا يستحي ان يقول لطالبه - والله أنا اكثر من مرة اسمعه ونحن نخجل- يقول: (أحمد ماهي معلوماتك انت تقرأ عن الكتب الفلانين او كذا, الزكاة فيما اذا كان طال المدى في الدين أنت رأيت راي انه يُعفى الا عن عام او يعطي الزكاة كل عام؟) يعني يسأل وانا من اصغر الطلاب, لكنه هو يعرف انه نحن طلاب الدراسات العليا معظمنا أئمة مساجد كنا في تلك الدورات. فكان متواضع وامام الناس يسأل, قال: (من منكم يحفظ في هذا الموضوع). فكان متواضع يطلب العلم. في الحديث الشريف أن من مات يطلب العلم-يعلم ويطلب العلم- هذا يموت شهيد, ومن مات في الغربة فهو شهيد. فجمع الله له كثيراً من المُكرَمْات. وكان يتمنى ان يعود الى العراق وقد كلمني قبل صلاة الفجر لهذا اليوم ابنه الاستاذ محمد وفقه الله ورعاه ...خابرني وقال موضوع الطائرة ونزولها وسيأتي اليوم الجثمان, قلت له لا اعرف اذا كان هناك عندكم خصوصيات فأنتوا آرائكم اما من الناحية الشرعية الانسان يدفن حيث توفي لكن رايكم, قال والله انه كان يحب ان يدفن في العراق, قلت: خلاص لا باس. فتلاحظ بانه كان يحب ان يدفن في العراق لأنه مكلوم الفؤاد انه ابُعد عن مقره ودار اقامته وعن مسقط راسه وربوع طفولته وشبابه وذكرياته, لما يُزعج ويخرج كارهاً غير راغب, هذا له أجر عند الله فاذا مات فهو شهيد (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
نسال الله تعالى ان يُعظم اجره وان يجبر الامة في مصابه ووفاته بأن يعوضها بأهل علمٍ وصدقٍ وخشية لله من يملأ الفراغ وان يبارك في امة محمد ﷺ وان يَجبر العراق واهله وان يحقن دمائهم وان يؤلف بين قلوبهم وان يصرف مكائد الاشرار عنهم.
ربنا امّنا بآوطاننا ولا تُسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم من اراد بنا سوءاً فاجعل دائرة السوء عليه وصلي وسلم وبارك على محمد اله وصحبه وسّلمْ والحمد لله رب العالمين,,, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |