المؤلفات --> مقالات
مقال من فلسفة المندوب
من فلسفة المندوب
مقال (من فلسفة المندوب)كتبه الشيخ عبد الكريم زيدان في عام 1383هـ - 1963م وكان حينها مدرس في كلية الحقوق بجامعة بغداد, ونشر في مجلة التربية الاسلامية بعددها الثاني عشر من نفس العام.
بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان
مدرس الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق
المندوب في الشريعة الاسلامية هو ما طلب الشارع فعله على وجه الاستحباب والترجيح لا على وجه الحتم والالزام, مثل سنن الصلاة والتصدق على الفقراء والزواج للقادر عليه وهو في حالة الاعتدال ونحو ذلك.
والمندوب كالواجب من جهة ان كلاً منهما طلب الشارع فعله من المكلف, ويختلفان في ان الواجب مطلوب فعله على وجه الالزام بينما المندوب مطلوب فعله على وجه التفضيل والترجيح. ومع هذا الاختلاف فان الشريعة الاسلامية ترغب في اداء المندوب وتنظر بعين الرضا لمن يقوم به وتثيب عليه وتحببه للمكلفين. والسؤال الذي نثيره هنا, هو: اذا كان المندوب ترغب الشريعة في وجوده وتدعو المكلفين الى فعله وتُحسنه في اعينهم وتثيب عليه فلماذا لم تلزم الناس به كما الزمتهم بالواجبات والفرائض؟ ان الجواب على هذا التساؤل نجده في طبيعة الشريعة وخصائصها , فمن خصائص الشريعة انها واقعية لا خيالية, بمعنى ان أحكامها مُلاحَظ فيها واقع النفس البشرية ونوازعها ومدى استعدادها لفعل الخير وترك الشر, فالنفوس ليست سواء في هذا الاستعداد, وهذه هي طبيعة النفوس البشرية, فمن النفوس نفوس مطواعة لفعل الخير تستجيب بيسر لنداء الشريعة بل ولإشارتها ولإيمائها ولا تجد في هذه الاستجابة كُلفة ولا مشقة, بل تجد فيها السعادة والحياة. ومن النفوس نفوس بطيئة في عمل الخير لا تستجيب لنداء الشريعة بسهل ويسر بل بمشقة وتكاسل وتثاقل. وبناء على هذا الواقع الملموس في النفوس البشرية المعلوم عند الله تعالى, بارئ هذه النفوس, (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) جاء تشريع المندوب في الشريعة الاسلامية . وهذه الجملة تحتاج الى شيء من البيان والتفصيل فأقول:
ان الشريعة الاسلامية تضع مستوى معين ترى من الضروري ان يصله الناس ولا يجوز ان يتخلفوا عنه لأنه هو الحد الادنى اللازم لصياغة الفرد الصياغة الاسلامية التي تمكن من انشاء مجتمع اسلامي فاضل. ان هذا المستوى يتكون من جملة معاني وضحتها الشريعة ومنها الفرائض, فيلزم كل فرد اداء هذه الفرائض اذا ما توافرت شروط هذا الاداء وقد جُعلت هذه الفرائض بحيث يستطيع القيام بها أقل الناس استعداداً لفعل الخير واستجابة لنداء الشريعة, ومن ثم يُعاقب تارك هذه الفرائض. ولكن أزاء هذا المستوى الالزامي الواجب بلوغه من كل انسان , ترسم الشريعة مستوى آخر ارفع من الاول وأوسع منه, وحَبَبَت للناس بلوغه والاستقرار فيه, ولكن لم تلزمهم بالارتفاع اليه لان النفوس ليست واحدة في القدرة على الوصول اليه, فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج , ومن اصول الشريعة رفع الحرج عن الناس, قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج}, وهذا المستوى العالي المُفتحة مسالكه للناس هو مجموعة من توجيهات الشريعة واحكامها, ومن هذه المجموعة المندوبات . وهذه بعض الامثلة لها:
أولا:الصلاة منها ما هو فرض, ومنها ما هو مندوب وهو سنن الصلاة , فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي ﷺ (ما من عبد مسلم يصلي لله - تعالى - في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة, أو الا بُني له بيت في الجنة).
ثانيا:وفي انفاق المال في سبيل الخير وعون المحتاجين , جاءت الشريعة الاسلامية بفريضة الزكاة , وحببت للناس الانفاق بما هو خارج عن واجب الزكاة , قال تعالى في الزكاة: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) {البقرة} وقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) {التوبة} , وفي صدقة التطوع يقول الله تعالى : (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) {البقرة}.
ثالثا:وفي الصيام فرض الله تعالى صيام رمضان كما جاء في القرآن الكريم, وندب الرسول ﷺ صيام ايام أُخر, منها ما جاء في الحديث الشريف عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وان أوتر قبل أن انام.
رابعاً:وفي جرائم القتل العمد ان شرع القصاص , قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) {البقرة} ,وندب الى العفو , قال تعالى في نفس الآية المتقدمة: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) وفي آية اخرى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) { النحل}.
خامسا:وفي البيوع والاشربة, حبّب الشارع للإنسان ان يكون سهلاً في بيعه وشرائه بل وسائر معاملاته, قال الرسول الكريم ﷺ: (رحم الله رجلاً سمحا اذا باع واذا اشترى واذا اقتضى).
سادسا:الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفائي يجب ان يكون في الامة, ولكن اذا كان الحاكم ظالما باغيا لا يتسع صدره لسماع النصيحة الى درجة انه يقتل من يأمره وينهاه, فان هذا الفرض يسع الفرد تركه, لا الامة, ولكن من المندوب اليه, بالنسبة للفرد, القيام بهذا الفرض ولو ادى ذلك الى موته, يدل على ذلك الحديث الشريف: (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ) فَيُفهم من هذا الحديث ان من المندوب اليه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو ادى ذلك الى قتل الامر. ولا يعترض علينا بأن القاء النفس في التهلكة لا يجوز, وهذه تهلكة, قال تعالى: ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) {البقرة}, وفي اية اخرى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) { النساء} , لان الاستشهاد في سبيل الله ليس بالتهلكة وانما هو ضرب من ضروب الجهاد وما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين وايقاف الظالمين عند حدهم, فحسُن لهذه المعاني وندب الشرع اليه.
فتشريع المندوب اذن يقوم على اساس من رعاية النفوس التي لا يسهل عليها أداء المأمورات, حتى اذا ما صقلت ورقت, بادرت من تلقاء ذاتها الى فعل المندوبات دون مشقة او كسل, فيعم خيرها ويستفيد المجتمع مما يصدر عنها, وبهذا يتحقق في المجتمع أكبر قدر ممكن من المصلحة, وتقل المفاسد الى أقل قدر ممكن , وهذا ما جاءت به الشريعة الاسلامية. |