المؤلفات --> مقالات
مقال مفاهيم اسلامية
مفاهيم اسلامية
مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان في ستينيات القرن الماضي ونشر في مجلة المسلمون التي كانت تصدر في سويسرا بأشراف الدكتور سعيد رمضان, ثم اعيد نشر هذا المقال بعد ان قام الدكتور عبد الكريم ببعض التعديلات والإضافات عليه ونشره بمجلة التربية الاسلامية العراقية في سنتها الثامنة عشر بعددها الثاني عشر الصادر في رجب 1396هـ/حزيران 1976م.
بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان
مقدمة وتمهيد
1) للإسلام مناهجه الخاصة عن الكون والحياة والانسان. وهذه المفاهيم كلها تدور حول اصل واحد كبير او مفهوم واحد كبير هو الايمان بالله تعالى وما يتفرع عنه من اصول وفروع. فالإيمان بالله يعني الايمان بانه هو الخالق لكل شيء المدبر له, وان من مخلوقاته ذلك المخلوق العجيب الممتاز: الانسان. وان من حق الله على هذا الانسان ان يعبد الله وحده, وان الانسان بهذه العبادة ينال الكمال المقدور له, وان الله تعالى ارسل رسوله ليبينوا للناس كيفية عبادة الله تعالى وطرق سلوكهم في الحياة, وان الناس مجزيون على اعمالهم, وان هذا الجزاء الكامل سيظهر في اليوم الآخر فاما نعيم دائم واما عذاب مقيم, ومن ثم فأن السعادة الحقة للإنسان أن يسلك في حياته السبيل التي وضعها الله تعالى وبينها رسوله الكريم
ﷺ
وان الشقاوة في انحرافه عن هذا السبيل.
2) وتأسيسا على هذا المفهوم الكبير وما تفرع عنه من مفاهيم استعمل الاسلام الفاظا ذات مفاهيم لغوية معروفة ولكن ليس في نطاق هذه المفاهيم الضيقة التي يعرفها الناس او تعارفوا عليها وقد يخلطون بها غيرها, وانما استعملها الاسلام في معاني اخرى تتفق ومفاهيمه الخاصة التي اشرنا اليها مع صدق انطباق الالفاظ اللغوية عليها بل هي حق بهذا الانطباق من المعاني التي يفهمها الناس من هذه الالفاظ.
3) وهذه المفاهيم الاسلامية لهذه الالفاظ تسهم اسهاما كبيرا في تصحيح مفاهيم الانسان وتعديل موازينه في الحياة ومن ثم وضعه على الطريق الموصل الى الله ورضوانه. ومن اجل ذلك نجد الاسلام يعتني بذلك عناية كبيرة جدا تظهر واضحة في كثير من نصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة, ولا غرابة ولا اسراف في هذه العناية من الاسلام , لان صحة اعمال الانسان واستقامة تصرفاته وقبولها وانتفاعه بها, كل ذلك منوط بصحة مفاهيمه واستقامة موازينه, ومن المستحيل ان يكون ما صدر من الانسان صحيحا مقبولا عند الله تعالى موصلاً الى رضوانه اذا كان وراءه مفهوم فاسد او ميزان مختل.
4) والمفروض في المسلم – وقد انعم الله عليه بالإيمان – ان تكون مفاهيمه هي مفاهيم الاسلام التي بينها وارادها من الالفاظ التي استعملها, وان لا تكون موازينه غير الموازين التي نصبها الاسلام تأسيسا على هذه المفاهيم. ولكن هذا المفروض في المسلم لا نجده في واقع المسلمين اليوم, او نجده على نحو فاسد او مضطرب او مختلط بغيره. وهذا الواقع المرير هو احدى العلل الكبار المسؤولة عما نجده في المسلمين من تعثر في السير وخروج على مناهج الاسلام.
5) ولهذا كان لزاما على المهتمين بأمور المسلمين ان يولوا هذا الموضوع الخطير ما يستحق من عناية واهتمام, وان لا يكتفوا بالأسف والتحسر على احوال المسلمين وتعداد نقائصهم, لان ما يرونه من احوال المسلمين انما هو اعراض لعلل ابتلوا بها وليست هي اصل الداء, وانما ينفع العلاج ويؤمل الشفاء اذا تناول اصل العلة وليس اعراضها ولم يقف المعالج عند هذه الاعراض يخفيها بالطلاء والاصباغ.
6) ومن سبل العلاج الحكيمة – في نظرنا – عرض مفاهيم الاسلام بوضوح وجلاء ثم دعوة المسلمين اليها بعرض نفوسهم عليها ليروا مدى التوافق والاختلاف بين ما عندهم من مفاهيم وبين ما يعرضه الاسلام من مفاهيم, فاذا رأوا توافقا وتماثلا حمدوا الله وثبتوا على ما عندهم واستمروا في السير حتى يصلوا الى الله راضين مرضيين, وان رأوا غير ذلك حملوا نفوسهم على النهج الصحيح بتصحيح مفاهيمهم الفاسدة وتعديل موازينهم المعوجة حتى يسلم لهم دينهم من الزيغ والزلل,
وتصفو لهم اعمالهم من الكدر ويظلوا على الطريق المستقيم سائرين.
7) وانما يحسن هذا الاسلوب الذي قلنا عنه انه من سبل المعالجة الحكيمة لان المفروض في المسلم انه يؤمن بالله واليوم الاخر وما يترتب على هذا الايمان من نتائج وما يستلزمه من اعمال, وان من شأن كل انسان انه حريص على ما ينفعه ويسعده وبهرب مما يضره ويشقيه. فاذا انكشف للمسلم طريق منفعته وسعادته وطريق مضرته وشقاوته سلك الطريق الاول وهجر الطريق الثاني بدافع من ايمانه ورغبته المشروعة في النجاة من كل أذى وعذاب والظفر بالراحة والهناء. والذي يعينه بصورة اكيدة على سلوك طريق السعادة والنجاة هو تصحيح مفاهيمه اولاً واصباغ نفسه بها حتى يمكنه الانطلاق في ضوئها في دروب الحياة باستقامة وأمان.
8) ونحن من هذه البحث الموجز نعرض على سبيل التمثيل لا الحصر بعض المفاهيم الاسلامية المرادة شرعاً من الالفاظ التي استعملها الاسلام في القرآن والسنة والتي يظلمها الناس اذ يحصرونها في نطاق ضيق جدا لا يتجاوز متاع الدنيا وهو قليل, ويخلطونها مع معاني فاسدة حتى في هذا النطاق الضيق.
اولا – مفهوم الفوز والفلاح
9)
مفهوم الفوز والفلاح عند عموم الناس لا يتجاوز الظفر بمتع الحياة واغراض الدنيا وما يؤدي الى ذلك من وسائل واسباب كالحصول على شهادة أو وظيفة, أو منصب أو جاه, أو سلطان, أو ثناء, أو مال, أو ربح مادي, أو مسكن مريح أو امرأة جميلة أو طعام لذيذ وعيش رغيد وغير ذلك مما يتعلق بشهوات الجسد.
وهذه كلها من اغراض الدنيا ومتاعها القليل, وليس من المحظور ان يطلب المسلم هذه الاشياء بشرط ان يطلبها بالوسائل المشروعة وان لا يجعلها غاية فوزه وفلاحه, وانما المحظور ان يطلبها بكل وسيلة وان كانت غير مشروعة وان يجعلها غاية فوزه وفلاحه. وتأسيسها على هذا المفهوم الذي عند عموم الناس كان الفائز المفلح في ميزان الناس هو من ظفر بهذه الاشياء او نال منها قدرا اكبر من غيره. ولهذا المفهوم وما ترتب عليه من ميزان للفوز والفلاح أثارا خطيرة جدا في واقع المسلمين, ذلك ان معظم المسلمين انطلقوا الى تحصيل هذه الاشياء بأية وسيلة كانت وان كانت غير مشروعة أو ادت أو تؤدي بهم الى التفريط بحقوق المسلمين الثابتة او بحقوق المسلمين او ادت الى موالاة الاعداء وارتكاب الحرام ومخالفة احكام الاسلام الصريحة بالتأويل الفاسد او بالعصيان الصريح. ومن الواضح ان معظم المسلمين او أكثريتهم الساحقة لم يقدموا للإسلام شيئا ذا بال, لان همهم صار مقصورا على ما عددنا من اغراض التي تحقق الفوز والفلاح لصاحبه حسب مفهومهم للفلاح والفوز.
10) ان مفهوم الفوز والفلاح في الاسلام غير هذا الذي يراه عامة المسلمين ويتزاحمون عليه ... انه المفهوم الحق الذي يجب ان يسلّم به كل مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد
ﷺ
نبياً. انه النجاة من عذاب الله والظفر بالجنة حيث النعيم الدائم المقيم ... قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) وأي فوز أعظم من دخول الجنة وفيها النظر الى وجه الله الكريم والاحساس برضوان الله , وهذا وذاك اعظم نعيم على الاطلاق. وفي الجنة مع ذلك ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
11) ان هذا الفوز هو الفوز الحقيقي وصاحبه هو المفلح حقا في ميزان الاسلام وميزان العقل وميزان الحساب.
اما في ميزان الاسلام فهذا كلام الله تعالى الذي ذكرناه – ومثله في القرآن كثير – شاهد على صحة ما نقول, ومن اصدق من الله قيلا.
اما في ميزان العقل, فلا نحسب انَّ عاقلا يؤمن بالله واليوم الاخر يستطيع ان يكابر او يجادل في هذه الحقيقة, او يعتبر الفوز في اليوم الاخر ادنى رتبة من الفوز بنعيم الدنيا ... واما في ميزان الحساب, فأن الفائز بنعيم سنة اربح صفقة واكثر فلاحا واعظم فوزا من الفائز بساعة نعيم ... واذا كان هذا صحيحا في ميزان الحساب والارقام وهو صحيح فعلا, فما نسبة نعيم الدنيا المتناهي الى نعيم الاخرة غير المتناهي؟ وما قيمة ما يحوزه الانسان في عمره القصير من نعيم الدنيا القليل بالنسبة الى ما ينتظر الفائزين من نعيم دائم ؟ الا يحق لنا ان نقول ان الفوز في الاخرة هو الفوز الحقيقي وان الفوز بمتع الحياة فوز على وجه المجاز؟ لقد شبه رسول الله
ﷺ
الحياة ونعيمها بتشبيه رائع محسوس فقد جاء في الحديث الشريف (والله ما الحياة الدنيا في الاخرة الا كما يغمس احدكم اصبعه في اليم فلينظر ماذا يرجع اليه).
12) واذا تبين ان الفلاح والفوز الحقيقي هو الفلاح والفوز في الاخرة , وان هذا الفوز جدير بحرص المسلم عليه ورفع بصره اليه وبذل جهده في الوصول اليه , فما سبيل هذا الوصول , وما وسائل الظفر به؟ ان الاسلام بين هذه السبيل وكشف عن هذه الوسائل , قال تعالى:
(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
(لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
13) فالإيمان بحقائق الاسلام, والصبر بمعناه الواسع, وتقوى الله في السر والعلن, والامر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس, وعبادة الله وحده وعلى رأسها الصلاة, وفعل الخير بأنواعه, كل ذلك وأمثاله وسائل تؤدي الى الفلاح الحقيقي والفوز الحقيقي. فمن اخذ بهذه الوسائل فهو من المفلحين حقا وان اعتبره الناس من الخائبين, ومن هجرها واتبع هواه وركض وراء اللذات فهو من الاشقياء التعساء لان اهوائه ولذاته تدفعه الى الشقاء المؤكد وان اعتبره الناس من السعداء, قال تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ). ويقول الامام القرطبي في تفسير هذه الآية :( غلبت علينا لذاتنا واهواؤنا . فسمى اللذات والاهواء شقوة لانهما يؤديان اليها).
ثانيا – مفهوم التهلكة
14) المفهوم الشائع للتهلكة عند عموم الناس , هو تعرض الانسان لما يؤذيه او يفوت عليه راحته او حياته بغض النظر عن الدوافع والغايات. وقد سحبوا هذا المفهوم على من يصيبه اذى وهو يقوم بحق الاسلام في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق والدعوة الى الاسلام والجهاد في سبيل الله بالقول والعمل والمال والنفس, ويستشهدون بقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). لقد ظلم هؤلاء معنى هذه الآية الكريمة وانزلوها على غير مفهومها الحق. ان مفهومها الحق هو غير ما فهموه ... ان التهلكة في ميزان الاسلام ومفهوم هذه الآية ان تفر من الهلاك في سبيل الله مؤثرا العافية والاقامة بين الاهل والولد منشغلا في تثمير المال وتكثيره ... فقد روي عن ابي ايوب الانصاري رضي الله تعالى عنه انه قال في هذه الآية انما نزلت فينا معشر الانصار. لما نصر الله تعالى نبيه وأظهر الاسلام , قلنا: نقيم في اموالنا نصلحها, فانزل الله تعالى الآية (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فالألقاء بأيدينا الى التهلكة ان نقيم في اموالنا ونصلحها وندع الجهاد.
15) وتأسيساً على هذا المفهوم الحق للتهلكة لا يكون تهلكة في مفهوم الاسلام هلاك المسلم او لحوق الاذى به أو خسارة ماله او فقدان حريته أو زوال وظيفته , أو اضطهاده, اذا كان ذلك في سبيل الله وكان ذلك واجبا عليه او مستحبا. فالقيود في هذه المسالة ثلاثة: ان يكون الهلاك في سبيل الله فاذا كان في غير سبيله كما لو كان لطلب الثناء والمنصب والسمعة وما الى ذلك فالتعرض كان العلاك او التعرض له محرما. والقيد الثاني ان يكون ذلك عليه واجبا او مستحبا. والوجوب والاستحباب بعرفان بميزان الاسلام وما قرره الفقهاء.
والقيد الثالث ان لا يفوّت هلاكه على المسلمين مصلحة مؤكدة هي ارجح من المصلحة التي اراد تحصيلها بتعريض نقسه للهلاك, فاذا كان الفائت بهلاكه مصلحة بهذا المقدار كان محظورا عليه التعرض للهلاك لان نفس الانسان ليست ملكه وانما هي ملك خالقها وهو الله جل جلاله , فلا يجوز للإنسان ان يتصرف بنفسه الا على النحو الذي يأذن له به مالكها , فاذا اذن له بتعريضها للهلاك جاز له ذلك واذا أمره وجب عليه ذلك واذا منعه حرم عليه تعريض نفسه للهلاك وان كان هواه في هذا الهلاك.
ثالثا – مفهوم الربح
16)
المفهوم العام للربح ان تأخذ اكثر مما تعطي وتحصل اكثر مما تبذل وهذا المفهوم معروف في امور الدنيا كما في البيوع والاشربة والاجارات وسائر المعاوضات. وهذا المفهوم للربح وان كان صحيحا سليما الا انه يكون قاصرا اذا اقتصر الناس عليه دون سواه.
ان للربح مفهوم دقيقاً هو أولى بلفظ (الربح) وأجدر به واحق به من غيره... وقد اشار النبي ﷺ وبيّنه ليعرف المسلمون انه احق ما يحمل عليه لفظ (الربح) وانفعه للمسلم, ولكن قد يغفل عنه وينساه. هذا المفهوم الحق للربح هو ربح الحسنات لا ربح الجنيهات. ومن اجل هذا الربح الجسيم جادت نفوس العارفين ببذل اموالهم غير آسفين ولا نادمين. روي عن ابي عثمان عن صهيب الرومي, قال : لما اردت الهجرة من مكة الى النبي
ﷺ
قالت لي قريش: يا صهيب قدمت الينا ولا مال لك , وتخرج انت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك ابدا . فقلت لهم: أرأيتم ان دفعت اليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا نعم . فدفعت اليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ربح صهيب ربح صهيب) وصهيب رضي الله عنه لم يربح درهم ولا ديناراً بل خسر دراهمه ودنانيره, فهو الخاسر في ميزان الصيارفة والتجار عباد المال ... ولكنه في ميزان الاسلام ومفهومه للربح والخسران, رابح على وجه الحقيقة لا المجاز, اعظم ما يكون الربح, انه ربح الحسنات بهجرته الى الرسول الكريم
ﷺ
وظفره بالقرب منه, فليس في قول النبي
ﷺ
(ربح صهيب) الا الحقيقة التي لا مجاز فيها وان اعتبر الناس هذا الربح - ربح الحسنات – من مجاز القول ويجعلون ربح المال من الحقيقة لا المجاز.
17) فبذل المال في سبيل الله ربح مؤكد وهو اعظم من ربح التجار في البيع والشراء, لأنه ربح مضمون عند الغني القادر, يظهره ويقدمه لصاحبه احوج ما يكون اليه ويسلك به الى جنات النعيم. وكون هذا الربح مؤجلا لا يظهر أثره الا في الاخرة لا ينقص من قدره, فالتاجر الذكي يبذل المال الكثير بانتظار الربح الكثير في المستقبل وان كان في مقدوره أن يربح التافه القليل في الحال. ان الذي لا يرضى الا بالربح العاجل في الدنيا مثله مثل الطفل لا يدع ما في يده من احجار حتى ولو وعدته صادقاً – وانت القادر على العطاء – أن تعطيه غدا اضعاف ما في يده وزنا من الجواهر لا من الاحجار.
رابعا – الخيرية والتفاضل
18)
للإسلام مفهومه للخيرية والفضل وميزانه لمعرفة ما هو خير من غيره او افضل من غيره.
فالعمل الصالح في ميزان الاسلام خير ما يجب ان يحرص عليه الانسان وهو افضل ما يجد في دنياه . جاء في الحديث الشريف عن النبي
ﷺ
(لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها). والغدوة في سبيل الله ليست اصطيافا في مصايف الدنيا ولا متعة من متع النفس, ولا لذه من لذائذ الجسد, وانما هي جهاد وما في الجهاد من تعب ونصب واذى وجرح وتعرض لتلف النفس, ومع هذا كله يقول سيد العارفين ورسول رب العالمين: انها خير من الدنيا وما فيها ... والغدوة , بعد هذا, التي جاءت في الحديث تشير الى ان الاعمال الصالحة المراد بها وجه الله الكريم هي دائما خير من متاع الدنيا وهي دائما في مقام التقديم والتفضيل في ميزان الاسلام ومفاهيمه. وانما كان لهذه الاعمال الافضلية والتقديم لانها تثمر ثواب الله , وثواب الله خير ما يؤتاه الانسان, وأفضل ما يناله في دنياه, وهذا هو مفهوم الاسلام وميزانه, اقرأ ان شئت قول الله تعالى: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فما يؤتاه الانسان في هذه الدنيا من مال وولد وسلطان وعافية ونحو ذلك فهو شيء تافه حقير . وما عند الله من ثواب ونعيم للمؤمنين العاملين خير من هذا الذي يناله الانسان في هذه الدنيا.
19) أن هذا المعنى الجليل والميزان الدقيق للخيرية والافضلية كانا في حيز ادراك العارفين من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. اما طلاب الدنيا وأحبابها فانهم بعيدون عن هذا الادراك, ان نفوسهم تحوم حول متاع الدنيا الفاني وان لعابهم يسيل كلما تذكروا هذا المتاع الزائل القليل, بل ان طلاب الدنيا يعتبرون بميزانهم المختل ومفهومهم لما هو خير وافضل, يعتبرون السعيد من ظفر بالمال وولغ في لذائذ الحياة ... وفي قصة قارون مثل على ميزان هؤلاء . فقد اوتي قارون من المال ما اخبر الله عنه (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) ثم حصل ما قصه الله علينا: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ولكن العارفين بالله الماسكين بميزان الاسلام المدركين قدر ثواب الله , لم يرضهم قول اولئك فردوا عليهم بما اخبرنا الله به : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ) فثواب الله (خير) من المال الذ اوتيه قارون ولكن اكثر الناس لا يعلمون. ويتكرر هذا المشهد في كل عصر فهناك من يمثل قارون والمتمنين مكانته, وهناك من ينظر الى ما عند الله من ثواب فيستحقر ما عند امثال قارون ويرد على اولئك المتمنين (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ...).
20) وخير الناس وافضلهم في ميزان الاسلام , المجاهد في سبيل الله, فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله
ﷺ
: (مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) فهذا افضل الناس وان كان مغموراً بينهم مجهولاً عندهم او كان معروفاً لديهم ولكنهم يجهلون قدره.
21) وبنفس ميزان التفاضل في الاسلام يوزن استحقاق الانسان للتقدم عند ذوي السلطان ونوال العطاء من بيت المال ... ومن تطبيقات ذلك ان الخليفة الراشد الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذن لبلال بالدخول عليه قبل ابي سفيان ولما سئل عن ذلك قال: بلال اسبق اسلاما وهجرة من ابي سفيان وقوم ابي سفيان, وما قاله الامام عمر رضي الله عنه حق, فالأحساب والانساب لا قيمة لها في ميزان الاسلام, وانما يثقل وزن الرجل بهذا الميزان بالتقى والجهاد والسبق بالصالحات.
22) وروي ايضا عن هذا الخليفة الراشد انه قسم مروط بين نساء اهل المدينة فبقي منها مِرط جيد , فقيل له: يا امير المؤمنين اعط هذا المِرط [كساءٌ من خزٍّ أَو صوف أو كَتَّان تتلفَّعُ به المرأْة] ابنة رسول الله
ﷺ
التي عندك (يريدون زوجته ام كلثوم بنت سيدنا علي رضي الله تعالى عنه) فقال عمر رضي الله عنه: ام سليط احق به, فأنها من بايع رسول الله
ﷺ
وكانت تزفر لنا القرب يوم أحد.
فأم سليط سبقت ام كلثوم سبقت أم كلثوم في الجهاد والبيعة وان تأخرت عنها بالنسب الرفيع, وبالتالي فهي احق بالمرط من ام كلثوم بنت علي بن ابي طالب وزوجة امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم اجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |