المؤلفات --> مقالات
الجرأة المذمومة وموقف المسلم من العقوبات الشرعية
الجرأة المذمومة وموقف المسلم من العقوبات الشرعية مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان ردا على موضوع نشر في جريدة الراي العام الكويتية عام 1978 وتهجم فيه الكاتب على العقوبات المقررة شرعا على السارق والزاني, واستطرد الدكتور عبدالكريم زيدان في رده فبين الموقف الواجب اتخاذه من قبل المسلم حول العقوبات الشرعية. المقال نشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها التاسع (السنة الحادية والعشرون) الصادر في ربيع الثاني 1399هـ / 27 شباط 1979م  .   بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان تمهيد 1) اذا كانت الجرأة محمودة في مواطن عديدة فهي بالتأكيد مذمومة اذا كانت على شرع الله, وتكون اكثر قبحا اذا كانت على الاسلام في دار الاسلام وعلى وجه العلانية والشيوع والمسلمون كثيرون, ومثال هذه الجرأة الذميمة التي اتسعت في هذا العصر ما نشرته جريدة الرأي العام بعددها 5406 الصادرة في الكويت بتاريخ 23 ذي الحجة 1398/ 23 تشرين ثان 1978م في صفحتها العاشرة وتحت عنوان (ارفعوا الصوت واليد ايضا) اذكر منه ما يأتي: قال الكاتب (منذ ان طرح وزير الدولة للشؤون القانونية مشروع قانون العقوبات الجديدة امام الرأي العام, والناس يتداولون بعضا من مواده وخاصة تلك المتعلقة بتطبيق عقوبة قطع يد السارق وجلد الزاني مع ما تثيره مثل هذه العقوبات الجائرة في النفس البشرية من تقزّز قد يصل الى حد التجمد, والتجمد هو في الحقيقة فقدان الاحساس عن كل ما يجري في المحيط الخارجي وتعطل الحواس عن رؤية ضوء الحقيقة الساطعة مما يجعل الانسان الذي يدخل في مثل هذه الحالة حالة التجمد اشبه بالشيء الذي لا قيمة له ولا وزن, ولسنا نظن ان هناك من يقبل أن يوضع قسراً أو عن طيب خاطر في فريزرات أو قوالب ليست تنتمي لهذا العصر وتتفق مع معطياته...الخ). الحكم الشرعي في هذا الكلام وصاحبه 2) وهذا الكلام كفر صريح لا يحتمل التأويل لأنه يصف عقوبتي قطع يد السارق وجلد الزاني بالجور, والكاتب يعلم ان هاتين العقوبتين من العقوبات التي شرعها الله في القرآن, وان الله يستحيل عليه الجور. كما ان الكاتب يزعم في كلامه ان هذه العقوبات الجائرة تثير في النفس التقزز, ولا شك ان هذا التقزز المثار لا يثور الا في النفوس المظلمة الكافرة, اما في النفوس المؤمنة الطيبة فلا يثور الا السرور والبشر لأنها تتلقى شرع الله بالرضا والقبول, وتقول بلسان الحال والمقال (سمعنا واطعنا) كما ان في هذا الكلام دعوة سافرة الى التمرد على شرع الله ورفض تطبيق العقوبات الشرعية بدعوى انها لا تنتمي لهذا العصر. 3) واذا كان هذا الكلام كفراً صريحاً فان صاحبه يرتد به عن الاسلام ان كان مسلما, وينتقض عهده ان كان غير مسلم – ذمياً كان أو مستأمناً – ومع الردة انفساخ نكاحه ان كان ذا زوجة واستتابته فان تاب والا قتل. ومع انتقاض عهده ان كان ذمياً او مستأمناً زوال عصمة دمه وعدم تمكينه من البقاء في دار الاسلام. وهذه احكام مقررة في الفقه الاسلامي في حق المرتد وفي حق الذمي أو المستأمن اذا انتقض عهدهما. دفاع عن الكاتب 4) وقد يقال على سبيل الدفاع عن الكاتب:   أ- انه مجتهد فيما قال, والمجتهد مثاب اخطأ أم أصاب.   ب- او انه قد يكون جاهلاً بأن كلامه يؤدي به الى الردة, والجاهل معذور  حتى يعلم, ومع احتمال الجهل تقوم الشبهة, والحدود تدرأ بالشبهات.   ت- وان حرية الاعتقاد مصونة في الاسلام قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ومن لوازم هذه الحرية حرية الرأي وابدائه من المسلم وغير  المسلم فكيف يقتل المسلم او ينتقض عهد الذمي لرأي يبديه احدهما, وهل هذه الا مناقضة لحرية الاعتقاد في الاسلام؟ نقض هذا الدفاع 5) وهذا الدفاع ساقط مردود ونرده بنفس تسلسل فقراته, فنقول:   أ- ما قاله الكاتب لا يدخل في دائرة الاجتهاد, لأنه كفر كما قلت: ولأنه لا اجتهاد في معرض النص, والنصوص صريحة وكثيرة في عدل الله واستحالة الجور عليه وعلى شرعه, وهذه امور معلومة من الدين بالضرورة, وان التنصل منها أو الخروج عليها خروج عن الاسلام.   ب- التشبث بجهل الكاتب لدفع المسؤولية عنه, غير مفيد, لان القاعدة المقررة في الفقه الاسلامي هي: ( الدفع بالجهل بالأحكام الشرعية في دار الاسلام غير مقبول) ومعنى هذه القاعدة ان من يريد ان يدفع عن نفسه المسؤولية وعدم ترتيب الأحكام الشرعية عليه فيما قال أو فعله بحجة جهله بالأحكام الشرعية وهو يقيم في دار الاسلام, لا يقبل دفعه هذا وتبقى الاحكام الشرعية سارية عليه فيما يقوله ويفعله. واذا لم يُقبل الدفع بالجهل فلا يكون اذن شبهة لدرأ العقوبة الشرعية عنه.   ت- التشبث بحرية العقيدة, لا يفيد هنا, لان المسلم بإسلامه يكون قد التزم بأحكام الاسلام وعدم الخروج عليها فاذا نقض التزامه هذا  بالخروج على بديهيات الاسلام فانه يستحق العقوبة المقررة في القانون الاسلامي في حق من يخل وينقض التزامه هذا. وفي كل قوانين الدنيا جزاءات تصل الى الموت بالنسبة لكل مواطن يقترف بعض الافعال التي تعتبر من لوازم التزام كل مواطن بها كالتجسس مثلاً او لقيامه بالخيانة  العظمى لبلده ونحو ذلك. فالإسلام اذ يؤاخذ المسلم بما يقول ويعتبره مرتداً ويطبق عليه حكم الارتداد انما يؤاخذ المسلم لنقضه ما التزم به ولا يصح في العقول دفع المسؤولية بحجة حرية الرأي اذا كانت هذه الحرية او هذا الرأي ينقضُ التزام ما التزم به. واذا انضم الى الاخلال بالتزام المسلم الاستهزاء بعقيدة المسلمين وتسفيه التزامهم بالعقوبات الشرعية ودعوتهم الى الخروج عليها كما ورد في كلام الكاتب فان جرم المسلم الذي يصدر منه ذلك أعظم من مجرد الردة القولية التي تخلو من علانية النشر. أما غير المسلم, ذمياً كان مستأمناً, فلا يحق له الطعن والتشهير بشرع الاسلام فانه لم يُعط عهد الذمة او الامان ليطعن بالإسلام وانما اعطى ذلك بشرط صريح او ضمني بان لا يفعل ذلك ويكون له مقابل ذلك حرية الاقامة في دار الاسلام دائمة او مؤقتة ولا يكره على تبديل عقيدته. موقف المسلم من العقوبات الشرعية 6) واذ قد بينت حكم الشرع في كلام الكاتب اود ان أبين موقف المسلم من العقوبات الشرعية ليبقى ايمانه محفوظا فأقول: ان المسلم وقد آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ نبيا ورسولا عليه ان ينطوي قلبه على الرضا الكامل والقبول التام والتسليم المطلق لكل ما شرعه الله تعالى وأن يؤمن به ايمانا لا ريب فيه بأنه الحق والصواب وان ما خالفه الباطل قطعا وان لا يعلق رضاه وقبوله وايمانه به على معرفة حكمه وفائدته فان مثل هذا الايمان المعلق لا يفيد ولا يجعل المسلم مسلما. العقوبات الشرعية وبيان مزاياها 7) ومع ان موقف المسلم من العقوبات الشرعية ومن جميع ما شرعه الله هو ما ذكرته, فان هذا لا يمنع من بيان حكمة العقوبات الشرعية وبيان خصائصها ومزاياها وان غيرها لا يداينها بهذه الخصائص والمزايا, لان هذا البيان من باب زيادة العلم بمعاني الاسلام واغواره, وزيادة العلم مما ندب اليه الاسلام, قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) كما ان هذا البيان رداً لشبهات المبطلين ودحضاً لها وتثبيتاً لضعاف المسلمين ووسيلة انقاذ لاولئك الذين أحاطت بهم شبهات المبطلين. وهذا البيان يستدعيني بيان ما يأتي: الرحمة اساس العقوبة الشرعية 8) العقوبات الشرعية جزء من الشرع الاسلامي, وهذا الشرع الكريم قام على اساس الرحمة, بدليل قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وانما ارسل الله سيدنا محمد ﷺ بالشرع الاسلامي, فيكون هذا الشرع رحمة للناس جميعاً, والعقوبات جزء منه فأساسها الرحمة اذن قطعاً, ولهذا قال الامام ابن تيمية رحمه الله عن العقوبات بانها شرعت رحمة من الله بعباده. والمقصود بالرحمة ايصال النفع للناس ودرء الضرر عنهم, ومن منفعتهم ومصلحتهم تيسير الحياة الهادئة التي تعينهم على تحقبق الغاية التي خلقوا من أجلها وهي عبادة الله بالمعنى الواسع للعبادة, وهذا يستلزم حق مصالحهم الضرورية المتفق عليها وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وهذا الحفظ يتيسر بإصلاح النفوس من الداخل على اساس الايمان والعقيدة الاسلامية اذ بهذا الاصلاح الداخلي تنصلح النفوس وينكشف شرها عن الآخرين ويقوم المجتمع الصالح السعيد الذي يسهل على المسلم عبادة ربه على النحو المقبول. ولكن مع ذلك تبقى النفوس لا يفيد معها هذا المنهج في الاصلاح فتجنح الى الجريمة والاعتداء على الاخرين, فكان لا بد من وسيلة لتقويمها ومنع اعتدائها على الاخرين, فكان تشريع العقاب في الاسلام. فالعقوبة الشرعية, اذن, شرعت لمصلحة من تسول له نفسه الاجرام بمنعه منه, ولمصلحة الاخرين يصد ومنع الاعتداء عنهم, ولهذا قال الفقيه الماوردي الشافعي وهو يتكلم عن عقوبة التعزير بانه (يوافق الحد من وجه وهو انه تأديب استصلاح وزجر) فالعقوبة اصلاح للمجرم أو لمن يريد الاجرام وزجر له عنه وبهذا ينجو الاخرون من اعتداء المعتدين عليهم. عدالة العقوبة الشرعية 9) والعقوبة الشرعية قامت على العدل والمساواة فليس فيها جور على الجاني ولا محاباة للمجني عليه, قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) اسم لما يسوء الانسان فيدخل في معنى السيئة العقوبة الشرعية, فهي اذن بقدر الجريمة قطعاً, وما قد يظن او يتوهمه الجاهلون من العقوبات الشرعية اكبر من موجباتها انما هو من قبيل النظر القاصر, لان المساواة بين الجريمة والعقوبة ليست من قبيل المساواة بين اوزان اشياء مادية محسوسة وانما هي مساواة بين كمية المعصية والضرر الذي تحمله الجريمة وبين العقوبة المقدرة لها, وقد تولى صاحب الشرع وهو الله جل جلاله هذا التقدير فجاءت عقوبات الحدود ومنها عقوبة السرقة والزنا فعلينا ان نكون مطمئنين لعدالة هذا التقدير والمساواة وان ما فيها من العقاب يكفي لردع الجاني وصيانة المجتمع من شرور الجناة. الشبهات حول عقوبة السرقة وعقوبة الزنا 10) قال بعضهم ان العقوبات الشرعية عموماً ومنها عقوبة السرقة وهي قطع يد السارق وعقوبة الزنا وهي جلده او رجمه تتسم بالقسوة والشدة, وبتر الاعضاء واهدار آدمية الانسان بجلده او رجمه ومصادرة حريته اذ يعاقب على فعل الزنا وكل هذه الامور لم تعد ملاءمة للعصر الحديث ومتطلباته وقد آن الاوان لنحيتها جانباً ولا سيما وان في بتر الاعضاء اضرارا بالمجتمع بتعطيل بعض افراده عن العمل والانتاج... الى آخر ما قالوه ويقولونه. ونحن في هذه الكلمة لا نريد الاحاطة بكل ما حشدوه من كلام مزخرف مموه لا يروج على ذي البصيرة, وانما ذكرنا بعض ما يقولون وهو بعض ما اشار اليه الكاتب ونرد الان على هذه الشبهات. القسوة والشدة في العقوبات الشرعية 11) العقوبة ليست جائزة او مكافأة على عمل طيب حتى تخلو من الايلام والشدة, وانما هي جزاء على عمل ضار صدر من صاحبه عصياناً لخالقه فلا بد ان يكون هذا الجزاء مؤلماً بقدر كاف بحيث يمكن ان يردع من تسول له نفسه الوقوع في جريمة السرقة. ولا شك ان هذا متحقق في عقوبة السرقة وعلى الذين يرون خلاف ذلك عليهم ان يستحضروا في اذهانهم صورة السارق وهو يسير في جنح الظلام مستخفيا عن الناس ينقب الجدار ويكسر القفل ويشهر السلاح في وجه من يقف امامه هاتكا حرمة البيوت عازماً على قتل من يقاومه, وعليهم ايضا ان يتصوروا المرأة وقد استيقظت فرات وجه السارق الكالح وبيده السلاح وما قد يصيب تلك البائسة من فزع واضطراب قد يؤدي بحياتها, وان يتصوروا الاطفال وقد استيقظوا مذعورين على صوت امهم ورأوا هذا الوحش المخيف وهو يدوس عليهم او يدفعهم, وان يتصوروا ايضا ما يثيره فعل هذا السارق من قلق واضطراب في الناس لان السارق يبغي المال والمال موجود عندهم جميعا فهم معرضون لإجرامه دون تمييز, لو تصوروا هذا وغيره لعلموا يقينا ان قطع يد السارق عقوبة عادلة تماما ورادعة له ولامتثاله. 12) والواقع شاهد لما نقول فان عقوبة قطع يد السارق عندما طبقت في الماضي حفظت اموال وارواح الناس وعندما هجرت واستعيض عنها بالحبس ازداد عدد السراق وصار السجن منتدى يلتقي فيه السراق ويتبادلون خبراتهم في السرقات, وان الخط البياني للسرقات والسراق في صعود مستمر في جميع الاقطار التي هجرت هذه العقوبة. 13) اما الادعاء بان هذه العقوبة فيها قطع يد, وتر الاعضاء نهج في العقاب قديم, وانه يؤدي الى صيرورة المقطوع عالة على المجتمع, فهذا كلام متهافت, لان قطع اليد وهي جزء من الانسان أهون من قطع رأس الانسان, وقطع رأس الانسان موجود في قوانين العقاب, فلا غرابة من قطع اليد, لان قطع الجزء أيسر من قطع الكل اذا تحقق موجبه. جلد الزاني 14) اما جلد الزاني وكونه يهدر آدمية الانسان, ويتعرض له في حريته اذا باشر الزنا برضا الطرف الآخر, فهذا كلام من لا يهتم بالعرض ولا بالأخلاق ولا ببناء البيوت على الطهر والعفاف. والقول الجامع في عقوبة جلد الزاني ورد الاعتراض على هذه العقوبة هو ان الاسلام يحرص على نظافة المجتمع وطهارته وسلامة الاعراض وصيانة الاخلاق, فاذا كانت هذه الامور مطلوبة ومرضية وتستحق العناية والحرص فوسائلها ومنها عقوبة الزاني تكون مطلوبة ومرضية, وهذا ما قررته الشريعة الاسلامية وتقول به. واذا كانت هذه الامور غير مطلوبة ولا مرغوب فيها فوسائلها غير مطلوبة ولا مرغوب فيها وهذا ما تنطوي عليه قلوب المعترضين او يتضمنه اعتراضهم وهم لا يشعرون. 15) ثم ان الزاني بفعله المشين قد اهدر أدميته ونزل الى مستوى واطي جدا فاستحق ان يحسه السوط بعد ان لم يحسسه صوت الاخلاق ونداء الاسلام. اما الادعاء بمصادرة حرية الانسان بمعاقبته على فعل الزنا اذا تم بالرضا والاختيار, فهو ادعاء ساقط, لان العرض مما لا يجوز فيه البذل والعطاء كما يجري في السلع والمواد. كما ان فعل الزنا اضرارا تمتد الى غير الجاني والمجني عليه والضرر مدفوع والحرية الشخصية تقف عندما تكون اداة للإضرار بالآخرين. واضرار الزنا اكثر من ان نحصيها في هذا المقال ومنها خراب البيوت والشك في الانساب وضياع الصغار والعزوف عن الزواج الى غير ذلك من المآسي والفواجع. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين,,.
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
https://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
https://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=169