المؤلفات --> مقالات
مقال القانون الرهيب
القانون الرهيب مقال كتبه الشيخ عبد الكريم زيدان في عام 1383هـ - 1963م وكان حينها مدرس في كلية الحقوق بجامعة بغداد, ونشر في مجلة التربية الاسلامية بعددها السادس من نفس العام. بقلم: الدكتور عبدالكريم زيدان كثيراً ما يقول الناس إن الشيء الفلاني حدث صدفة، وتمر هذه الكلمة على الأسماع كأنه نطق صحيح .. والواقع ‏أن هذا اللفظ غير صحيح، وليس له المدلول الذي يتبادر إلى الأذهان .. فليس في الكون مكان (للصدفة) وإنما ‏هناك أسباب ومسببات ونتائج تسبقها مقدمات .. وما يسمى بالصدفة ما هو في الحقيقة إلا حدث يجهل الناس ‏أسبابه .. ولكن الجهل بالشيء لا يعني عدم وجود ذلك الشيء .. وتوضيح هذه الجملة أنَّ هذا الكون الواسع ‏العجيب المدهش الذي خلقه الله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ), يجري وفق أسباب و مُسَبِّبات  تكوّن قانوناً عاماً هو في غاية الدّقة والإحكام والشمول, بحيث لا ‏يخرج عنه شيء ولا يفلت منه مخلوق .. يحكم كل شيء في الوجود بلا استثناء من أصغر ذرّة إلى أكبر ‏جرم، ومن الجماد بأنواعه إلى ذي الروح بأنواعه، ومن حركة الذّرة في مادتها التي لا نشعر بها إلى ‏حركة الريح العاصف التي تقلع الأشجار وتخرب البيوت .. فالكل خاضع له منقاد لا يستطيع ‏منه تفلتاً ولا خلاصاً. وهذا الخضوع الكامل من الكل, ما هو في الحقيقة إلا خضوع للملك القوي الجبار واضع ‏هذا القانون, وخالق هذا الكون، وعلى هذا دلّ القرآن الكريم، قال تعالى في سورة يس (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ), وقال تعالى في سورة آل عمران: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ). ‏وهذا القانون الإلهي العام المسمى في القرآن بـ (سنّة الله) لا يقبل التبديل ولا التغيير, قال رب العباد: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا). وقد ذُكرت (سنّة الله) وأنها لا تتبدل، في القرآن الكريم في مواضع كثيرة حتى يرسخ هذا المعنى في النفوس ‏وتنحسر الأوهام عن العقول. (وسنة الله) أو هذا القانون الإلهي العام يقوم على الأسباب والمسببات وربط ‏النتائج بالمقدمات على نحو هو غاية في الدّقة والصرامة والاطراد .. والإنسان وهو جزء من هذا الكون، ‏ولكنه جزء ممتاز فيه, يخضع لهذا القانون في جميع حركاته وسكناته وتقلبات أحواله .. كما تخضع له أيضاً الأمم ‏في علوها وانخفاضها , وسعادتها وشقائها , وعزها وذلها, وبقائها وهلاكها .. وهذا الخضوع من الأفراد والأمم في ‏جميع أحوالهم لهذا القانون الرهيب يساوي بالضبط خضوع الأحداث الكونية المادية له، فكما أنّ ‏سقوط تفاحة من الشجرة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدّت إلى هذا السقوط، فكذلك يعتبر سقوط دولة أو هلاك ‏أمة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدّت إلى هذا السقوط, وهذا ما تقضي به سنّة الله العامة التي لا تقبل التخلف ولا التبديل قال تعالى في سورة الفتح: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)، وكل الفرق بين الأحداث الكونية المادية وبين الأحداث الاجتماعية, هو أن أسباب الأولى واضحة بيّنة ‏مضبوطة إذا أدركناها أمكننا الحكم بدقة على نتائجها وميقات هذه النتائج، فالماء مثلاً ينجمد إذا بلغت درجة ‏حرارته كذا درجة، ويصل إلى الغليان إذا وصلت حرارته إلى كذا درجة وبعد كذا من الوقت، وهكذا. بينما ‏أسباب الأحداث البشرية الاجتماعية بمختلف أنواعها من سياسية واقتصادية وحضارية وعمرانية, وغلبة ونصر ‏وهزيمة وخذلان ... الخ، أسباب دقيقة وكثيرة ومتشابكة وقد يعسر على الكثيرين الإحاطة بها تفصيلاً ‏‏. ولكن مع هذا العسر يمكن للمتأمل الفاحص الدقيق أن يعرفها ويحيط بها علماً، كما يمكن الجزم بحصول ‏نتائج معينة بناء على أسباب معينة وإن لم يكن الجزم بميعاد حصول هذه النتائج، فنستطيع, مثلاً, أن نحكم على ‏وجه الجزم واليقين بزوال حكم إذا وجدناه قائماً على الظلم والإرهاب, وإن كنا لا نستطيع تحديد وقت ‏زواله على وجه الدقة والضبط كما نحدد ميعاد غروب الشمس أو شروقها ..‏ ومن أجل هذا الفرق بين الأحداث الكونية المادية الشيئية وبين الأحداث البشرية يغفل الناس كثيراً عن سنة الله في ‏الاجتماع البشري وفي تصرفات الأفراد ، ويظنون أن أمورهم لا تخضع لما تخضع اليه المظاهر ‏الكونية من ارتباط الأسباب بالمسببات. ويقوي هذا الظن الخاطئ في نفوسهم أنهم يرون ـ في الظاهر ـ أسباباً ‏متوافرة في مجتمعين أو أمتين، ولكن أحوالهما مختلفة، فيقولون: أين هو القانون العام الذي تزعمون؟ وهذه ‏الأسباب الواحدة لم تؤد إلى نتائج واحدة في هذين المجتمعين او هاتين الامتين؟ وفاتهم أن الأسباب تؤدي حتماً إلى مسبباتها إلا لمانع، وأن ‏المقدمات تؤدي حتماً إلى نتائجها إلا لعارض، وهم لم يبصروا الموانع والعوارض، كما لم يبصروا كل النتائج و الأسباب ‏فتراكم الخطأ عليهم فلم يعودوا يبصرون. وسنّة الله بيّنتها آيات كثيرة في القرآن الكريم، فنحن نجدها ‏في القصص القرآني, وفي سيرة الأنبياء وما جرى لهم، وفي أخبار الأمم السابقة وفي صراع أهل ‏الحق مع المبطلين . ولو ذهبنا نعدّ هذه الآيات لألفيناها أكثر من آيات الأحكام ، فعلى ماذا يدل هذا؟ نحن نعتقد جازمين أن ‏هذه الكثرة من آيات القرآن التي جاء فيها ذكر (سنّة الله) ومعناها، تدل دلالة قاطعة على أهمية ‏تبيان سنّة الله في الكون ووجوب تفهمها من قبل المسلمين، كما يتفهمون أمور العبادات, لأن الله عزّ وجلّ لا يخص بالذكر في القرآن الكريم إلا ما يلزم ذكره ويحتاج الناس إلى معرفته. ولهذا جاء في هذه الآيات ما يدعو الى التأمل والاتعاظ والافتكار ‏في سنن الله، كما جاء فيها دعوة صريحة إلى وجوب تفهم سنن الله في الاجتماع البشري. فمن النوع الأول ‏قوله تعالى في سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ). ومن النوع الثاني قوله تعالى في سورة آل عمران: (قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). ولهذا فنحن نرى أن من الضروري جداً للمسلمين ‏عموماً الحكام منهم, والمحكومين أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري لينجوا من الهلكة أو ليتخلصوا منها إذا ‏وقعوا فيها وقد وقعوا فعلاً فيها، وأن يعلموا بأن هذا الفهم من لوازم الإيمان و تفهم أحكام الإسلام, ولا يجوز مطلقاً ان يغفلوا عن هذا, أو يعدوا هذه المعرفة خارج نطاق الاسلام ,أو انها تعرف من غير معاني القرآن والسنة النبوية, كما ان على العلماء والوعاظ والمرشدين وكل المعنيين بالآمور الاسلامية ان يشيعوا هذه المعرفة في الناس ويسهبوا في تبيان سنن الله في الكون. فاذا ما عمت هذه المعرفة واقترن بها ايمان عميق وتوجه الى الله خالص, فانهم, بلا شك, بالغون ما قدره الله للامة الاسلامية من رفعة في الحياة, وقيادة للعالم, وسعادة في الآخرة, ورضوان من الله أكبر . ونحن في هذه الكلمة, نبين بعض القوانين الجزئية والقواعد الكلية المتفرعة من القانون الإلهي العام, أي من سنة الله العامة في الكون, على سبيل التمثيل لا الحصر, فان هذا الموضوع الذي نتكلم عنه, موضوع خطير, جليل القدر , عظيم الفائدة, مترامي الاطراف, متشعب المسالك, لا تقوم به مقالة واحدة. أولا: قانون التمائل ونعني به ان النظير يأخذ حكم نظيره, وأن ما يجري على الشيء يجري على مثيله, ويستحيل ان يفترق المتساويان في الحكم, كما يستحيل ان يتساوى المختلفان في الحكم. وهذا القانون يسري حكمه على الافراد والامم على حد سواء, وفي احوال الدنيا والاخرة, وعلى هذا دلّ القرآن الكريم, فمن ذلك: أ – قوله تعالى في سورة الحشر, مبيناً ما جرى لليهود من بني النضير من نكال في الدنيا بسبب كفرهم ونقضهم العهد , وكيدهم للرسول  ﷺ  وللمؤمنين (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ), فقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) صريح في الدلالة على قانون التماثل, اذ ان من معناها: تأملوا با أصحاب العقول السليمة بما وقع لهم, واحذروا ان يصيبكم مثل ما اصابهم اذا فعلتم مثل فعلهم , فأن سنة الله واحدة تجري على الجميع, وان ما يجري على شيء يجري على نظيره. يوضحه ان الاعتبار لا يتأتى مطلقاً ولا يكون للأمر به فائدة الا اذا كان المثيل يأخذ حكم مثيله. ب – قال تعالى في سورة يونس: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ), فقول الله تعالى (كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) دليل على ان ما جرى للمجرمين السالفين يجري على المجرمين اللاحقين, فالنظير يأخذ حكم نظيره, وان سنة الله واحدة تجري على جميع المجرمين, والله المستعان. ج – قال تعالى في سورة محمد: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا), دليل واضح على ان الدمار الذي حلّ بالكافرين الغابرين يحلّ بساحة الكافرين اللاحقين, لانهم متساوون في وصف المنكر والعناد والتكذيب فيتساويان في العاقبة. د – قال تعالى في سورة النساء: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ), فالجزاء يلحق فاعل السوء أياً كان, دون محاباة ولا تمييز ولا تخلف. هـ - قوله تعالى في سورة القلم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ), وقوله تعالى في سورة الجاثية:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ), وقوله تعالى في سورة ص:(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). فالقرآن شاهد على صحة قانون التماثل بشقيه, أي التساوي في الحكم والعاقبة بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين . فاذا فهم المسلمون مدلول هذه الآيات القرآنية التي ذكرناها للتدليل على صحة قانون التماثل وامثالها من الآيات الاخرى, والتي فيها ذم الاقوام السابقة كاليهود وغيرهم لتلبسهم بالأفعال القبيحة والاوصاف الذميمة, عرفوا ان الذم كان لهذه المعاني وان الذم يلحقهم لا محالة اذا فعلوا فعالهم, وان العاقبة السيئة تصيبهم كما اصابتهم. فلا يغرهم مجرد انتسابهم للإسلام من دون عمل وانصباغ بمقتضاه , قال الامام ابن تيمية وهو يفسر قوله تعالى في سورة التوبة:(كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا), قال ابن تيمية, ثم قوله (فَاسْتَمْتَعْتُم) و (وَخُضْتُمْ) خبر عن وقوع ذلك في الماضي , وهو ذم لمن يفعله الى يوم القيامة كسائر ما اخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند مبعث عبده ورسوله محمد  ﷺ  فانه ذم لمن يكون حاله كحالهم الى يوم القيامة . ثانيا : قانون العدل والظلم   الظلم وضع الشيء في غير موضعه, أو أضرار غير المستحق, أو نقص الحق وبخسه , أو عدم الحكم بين الناس بالقسط , وكل ما نهى الله عنه راجع الى الظلم, وكل ما أمر الله به راجع الى العدل, ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء وعلى كل احد , والظلم محرما في كل شيء ولكل أحد, فلا يحل ظلم أحد أصلا سواء كان مسلما أو كافرا أو ظالما . وقد قضت سنة الله تعالى بان الظلم سبب لهلاك الامم وان العدل سبب لبقائها, حتى ان الامام ابن تيمية قال في بعض كتبه, ما معناه: ان الدولة العادلة تبقى ولو كانت كافرة, وان الدولة الظالمة تفنى وان كانت مسلم . فالظلم, اذن, سبب حتمي لهلاك الامة وسقوط الدولة وزوال حكم الظالمين, وعلى هذا دلت نصوص القرآن الكريم ومنها: قوله تعالى في سورة الكهف: (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا). وقوله تعالى في سورة النمل: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا). وقوله تعالى في سورة يونس: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا). فهذه الآيات وامثالها كثير في القرآن تدل بوضوح على ان شيوع الظلم في الامة سبب لهلاكها وزوال حكم الظالمين فيها. ووقائع التاريخ البعيدة والقريبة, وهي كثيرة, تشهد بان الظلم اذا دام دمرّ وانه يؤدي لا محالة الى هلاك وفناء الحكم الظالم. كما تشهد وقائع التاريخ ان العدل سبب لبقاء الامة وبقاء الحكم فيها ولو كانت كافرة, قال تعالى في سورة هود:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ), وقد جاء في تفسير القرطبي بصدد هذه الآية ما يلي: (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق, اي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى يضاف اليه الفساد , كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان, وقوم لوط باالواط. ودلّ على هذا على ان المعاصي أقرب الى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك وان كان عذاب الشرك في الآخرة اصعب. ثالثا – قانون العقاب الجماعي ومن سنة الله تعالى, ان الامة اذا فشا فيها المنكر, وانتهكت حرمات الله, وسكت الحكام والعلماء والعامة, فلم يغيروا المنكر ويبدلوه, فأن الله تعالى يعمهم بمحن غلاظ قاسية تعم الجميع وتصيب الصالح والطالح والمفسد والمصلح , وهذا في الحقيقة قانون رهيب مخيف يدفع كل ذي علم وفقه , وكل ذي حكم وسلطان, الى المسارعة والمبادرة فورا لتغيير المنكر, دفعا للعذاب عن الكل والله المستعان, والدليل على ما قلناه من وجوه, منها: قال تعالى في سورة الانفال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). قال ابن عباس في هذه الآية: أمر الله المؤمنين ان لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب . فمقصود الآية , واتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح, كما قال الامام القرطبي. وفي تفسير ابن كثير , بصدد هذه الآية: (يحذر الله تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبار ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمها). وجاءت السنة النبوية مؤيدة ومؤكدة معنى هذه الآية الشريفة, ففي صحيح البخاري عن النبي  ﷺ: ( مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا). ففي هذا الحديث دلالة على تعذيب العامة بذنوب الخاصة وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير, وانه اذا لم تُغير المنكرات وتُرجع الامور الى حكم الشرع وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد. وعن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله ﷺيقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ). ومن هذا العرض الذي قدمناه , والادلة التي سقناها, وغيرها كثير, يلزم على الامة ان تغير المنكر لئلا يعمها العذاب والهلاك وهذا اللزوم اشد بالنسبة للحكام لان بأيديهم السلطة والامر والنهي, (وان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) فاذا اصلحوا الاحوال حسب أحكام الشرع وأزالوا المنكر , وأقاموا العدل, وقضوا على أسباب المعصيات, أثابهم الله تعالى حسن ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ومكن لهم في الارض, وان هم تقاعسوا عن ذلك انطبق عليهم حكم الله وجرت عليهم سنته, وخسروا الدنيا والآخرة , نعوذ بالله من الخذلان , وهو المستعان. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين والحمد لله رب العالمين ،،،
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
https://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
https://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=156