المؤلفات --> مقالات
مقال بعض خصائص الشّريعة الاسلامية (الحلقة الاولى)
بعض خصائص الشّريعة الاسلامية (الحلقة الاولى) مقال كتبه الشيخ عبدالكريم زيدان عام 1338هـ - 1963م تحت عنوان (بعض خصائص الشّريعة الاسلامية) ونُشر في مجلة التربية الاسلامية على ثلاث حلقات في عددها التاسع والعاشر والحادي عشر على التوالي من ذلك العام. أدناه هو الحلقة الاولى والتي نشرت في العدد التاسع من عام 1338هـ- 1963م, وتحقيقاً للفائدة يُنصح بعد قراءتها بقراءة الحلقة الثانية والثالثة لترابط هذه الحلقات فيما بينها بموضوع واحد. بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان مدرس الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق تمهيد: الشّريعة الاسلامية – في اصطلاح الفقهاء – الاحكام التي شرعها الله لعباده وبلغها لهم على لسان رسوله ﷺ. والاساس في تدبير انزال الشّريعة الاسلامية وما قبلها من شرائع الهية يقوم على فكرة الخالقية, فالكون وما فيه ومن فيه مخلوق لخالق عظيم هو الله جل جلاله. وان من لوازم حكمة الله تعالى وربوبيته ورحمته ان يهيئ لكل مخلوق ما يحتاج اليه ويلائم طبيعته ويصلح حاله ويحقق الغرض الذي من اجله خلق . والانسان – وهو المخلوق الممتاز – يحتاج الى هداية من خالقه وتعريف بعلاقته بالكون وبالغرض الذي خلق من اجله, كما يحتاج الى بيان لمعالم السير في الحياة وقواعد السلوك في المجتمع. فحكمة الله تأبى ان يترك الانسان سدى بلا ارشاد لطريق الحق ولا بيان لقواعد السلوك في المجتمع , ومن ظن خلاف ذلك فقد اخطأ, قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) أي لا يؤمر ولا ينهى كما قال الامام الشافعي وغيره. وما الامر والنهي الا بيان مناهج السلوك في الحياة وقواعد التنظيم لشؤون الانسان المختلفة, وهذا ما تضمنته احكام الشّريعة الاسلامية. وقد كان لهذه الشّريعة السيادة القانونية المطلقة في المجتمع الاسلامي, فقامت الدولة على اساسها ونظمت شؤون المجتمع على مقتضى قواعدها وتحددت حقوق الافراد وواجباتهم بموجب احكامها وانظمتها, ولم يخرج عن احكامها اي شأن من شؤون الحياة. وقد سعد الناس بها ما شاء الله ان يسعدوا ووجدوا في احكامها الخير والعدل وحفظ حقوقهم ومصالحهم المشروعة. ثم اصاب الشّريعة انكماش في التطبيق وهجرها المسلمون هجراً غير جميل وعزلوها عن واقع الحياة حتى آل الامر الى عدم تطبيقها في معظم البلاد الاسلامية الا في روابط الاسرة (الاحوال الشخصية). ومع هذا كله فنحن نعتقد ان المستقبل للشريعة الاسلامية وان السيادة القانونية ستكون لها في يوم قريب غير بعيد لجملة اسباب منها: اولا: ان تطبيق الشّريعة الاسلامية في نظر المسلمين واجب شرعي ولهذا فهم يحرصون على تطبيق احكام شريعتهم ويدعون الى ذلك على السنة علمائهم , وقد اخذ يشاركهم في هذه الدعوة بعض أولي الراي , واكبر الظن ان الحكومات في البلاد الاسلامية ستلبي هذه الدعوة وتستجيب لها اذا ما كثر الداعون اليها. ثانيا: ان القانون في كل امة يعتبر جزءً من ضميرها ومراه لآمالها وضمانا لعقيدتها ومستقرا لتقاليدها ومثلها العليا وأفكارها في الحياة واهدافها التي تصبو اليها. والقانون الذي يكتب له البقاء وترضى عليه الامة هو الذي تتحقق فيه هذه المعاني ونحوها. والشّريعة الاسلامية هي وحدها التي تتحقق فيها هذه المعاني ونحوها. و الشّريعة الاسلامية هي وحدها التي تتحقق فيها هذه المعاني بالنسبة للبلاد الاسلامية , ومن ثم فان من الطبيعي والموافق لمقتضيات الامور ومصلحة الامة ان تكون الشّريعة الاسلامية هي القانون الواجب التطبيق في هذه البلاد والاساس لكل تقنين فيها. ثالثا: ان الشّريعة الاسلامية – بغض النظر عن كونها دينا – صالحة لكل زمان ومكان, لا تضيق بحاجات الناس وما يستجد من امورهم واحوالهم. وقد تفطن لهذه الحقيقة المعنيون بدراسة القانون وأعلنتها المؤتمرات الدولية كمؤتمر لاهاي للقانون الدولي المنعقد في سنة 1938م حيث قرر المجتمعون ان الشّريعة الاسلامية تعتبر مصدرا من مصادر التشريع العام وانها شريعة حية مرنة وانها قائمة بذاتها ليست مأخوذة من غيرها. ونحن اذ نذكر هذه الشهادة من علماء الغرب لا يعني اننا في شك من صلاح شريعتنا أو اننا بحاجة الى شهادة من الغير على هذا الصلاح وانما نذكره على سبيل الاستئناس لان صلاح القانون مستمد من ذاته وطبيعة احكامه لا من ثناء المادحين. ومما يعجل في تحقيق ما نتوقعه ونأمله من عودة الشّريعة الى سابق سيادتها القانونية قيام نهضة فقهية لدراسة الشّريعة الاسلامية وبيان مبادئها وقواعدها واحكامها ووفائها بحاجات المجتمع بأسلوب جديد ونهج حديث ولغة مستساغة. ونحن نلمح تباشير هذه النهضة تلوح في الافق وتتسع يوما بعد يوم ومن مظاهرها هذا الانتاج الذي يقدمه العلماء في البلاد الاسلامية في مختلف ابحاث الشّريعة. خصائص الشّريعة الاسلامية: للشريعة الاسلامية خصائص تُميزها عن غيرها , ونحن لا نريد ان نذكرها حصراً ثم نأتي عليها تفصيلا وانما نريد أن نذكر اهمها مع بيان موجز لها, واهم هذه الخصائص – في رأينا – كونها من عند الله وان الجزاء فيها دنيوي وأخروي وانها عامة في المكان والزمان, باقية لا يلحقها نسخ ولا تغيير , شاملة لجميع شؤون الحياة. أولا: الشّريعة الاسلامية من عند الله مصدر الشّريعة الاسلامية هو الله تعالى فهو وحيه الى رسوله ﷺ باللفظ والمعنى وهو القران, أو بالمعنى دون اللفظ وهو السنة النبوية, فهي بهذا الاعتبار تختلف اختلافا جوهريا عن جميع الشرائع الوضعية, لان مصدر هذه الشرائع البشر ومصدر الشّريعة الاسلامية رب البشر. وقد ترتب على هذا الخلاف الجوهري نتائج مهمة منها: أ) ان مبادئ الشّريعة واحكامها خالية من معاني الجور والنقص والهوى لان صانعها هو الله جل جلاله, والله تعالى له الكمال المطلق الذي هو من لوازم ذاته , بخلاف القوانين الوضعية التي لا تنفك عن هذه المعاني لأنها من صنع الانسان , والانسان لا يخلو من معاني الجهل والجور والنقص والهوى ... وحسبنا ان نذكر هنا مثالا واحدا يدل على صدق ما نقول. جاءت الشّريعة الاسلامية بمبدأ المساواة بين الناس بغض النظر عن اختلافهم في اللون او الجنس او اللغة. وجعلت اساس التفاضل فيما بينهم العمل الصالح ومقدار ما يقدمه الفرد من خير, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وهذا المبدأ جاءت به الشّريعة الاسلامية في وقت كانت العصبية للجنس والقبيلة هي الاساس في بناء المجتمع وتمايز الناس وتفاضلهم. وقد طبق هذا المبدأ العادل تطبيقاً دقيقا واجتثت جذور العصبية ولم يعد هناك امتياز لجنس او لون, فلا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى, كما جاء في الحديث الشريف عن النبي ﷺ. والجميع سواء امام القانون حتى ان الرسول ﷺ قال لما استشفع لامرأة من بني مخزوم سرقت: (وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وفي القرن العشرين لم تستطع كثير من الدول تحقيق هذا المبدأ القويم, ففي الولايات المتحدة الامريكية لا تزال الفروق قائمة بين المواطنين على اساس اللون والجنس, فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلة واعلى قدرا من صاحب البشرة السوداء ولا مساواة بين الاثنين امام القانون ولا في التمتع بالحقوق وان كان الاثنان يحملان الجنسية الامريكية. والقانون يحمي هذا التمايز ويقره, بل ان بعض الولايات تنص قوانينها على احكام غريبة لا يستسيغها الضمير الحي ولا يقرها العقل السليم, فمن ذلك النص على ان النكاح بين شخص ابيض واخر زنجي يعتبر نكاحا باطلا. والنص على ان كل من يطبع او ينشر أو يوزع ما فيه حث للجمهور على اقرار المساواة الاجتماعية والنكاح بين البيض والسود او تقديم حجج للجمهور او مجرد اقتراح في هذا السبيل يعتبر عمله جريمة يعاقب عليها القانون بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار أو بالسجن لمدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بالعقوبتين. ب) لأحكام الشّريعة هيبة واحترام في نفوس المؤمنين بها لأنها صادرة من عند الله ومن ثم فلها صفة الدين , وما له هذه الصفة من حقه ان يحترم ويطاع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الايمان ولا يُقسر عليها الانسان قسرا. وفي هذا كله اعظم ضمان لحسن تطبيق القانون الاسلامي من الجميع وعدم الخروج عليه. والقوانين الوضعية لا تبلغ مبلغ الشّريعة الاسلامية في هذه الناحية اذ ليس لها مثل سلطانها على النفوس ومن ثم فان النفوس تجرأ على مخالفة القانون الوضعي كلما استطاعت الافلات من رقابة القانون وسلطة القضاء ورأت في هذه المخالفة اشباعا لأهوائها وتحقيقاً لمصالحها الخاصة . ولا ريب ان قيمة القانون تقدر بصلاحه اولا وبمقدار احترام الناس له ومدى سلطانه على نفوسهم وطاعتهم لأحكامه ثانيا. وحسبنا هنا ان نضرب مثلا واحدا لتوضيح هذا المعنى: كان العرب في الجاهلية مولعين بشرب الخمر, معتادين عليها ,ولا يرون في ذلك بأسا ولا منقصة . فلما جاء الاسلام تدرج معهم في تحريمها حتى نزل حكم الله القاطع في تحريمها بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ), فكان لكلمة (فَاجْتَنِبُوهُ) من الهيبة والاحترام والتأثير في النفوس أن انطلق المسلمون الى زقاق خمورهم يشقونها بالمدي والسكاكين ويريقون ما فيها ويفتشون في زوايا بيوتهم لعلهم يجدون بقية من خمر فاتهم أن يريقوها. هذا هو القانون الاسلامي ومدى ما يتمتع به من احترام وسلطان من قبل المسلمين. وفي القرن العشرين ارادت الولايات المتحدة الامريكية ان تخلص شعبها من مضار الخمر وتجرب ما جاء به القانون الاسلامي فشرعت في سنة 1920م قانون تحريم الخمر, وبموجبه حُرم على الناس بيع الخمور او شرائها او صنعها او تصديرها او استيرادها. وقد مهدت الحكومة لهذا القانون بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والاذاعة ونشر الكتب والرسائل وكلها تبين مضار الخمر مدعومة بالإحصائيات الدقيقة والبحوث العلمية والطبية, وقد قدر ما انفق على هذه الدعاية (65) مليونا من الدولارات, وسودت تسعة الاف مليون صفحة في بيان مضار الخمر والزجر عنها. وانفق ما قدر مجموعه اربعة ملاين ونصف من الجنيهات لأجل تنفيذ هذا القانون, ودلت الاحصائيات للفترة الواقعة بين تاريخ تشريعه وبين تشرين الاول لسنة 1933م,انه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة وحبس نصف مليون نسمة وغرم المخالفون له غرامات تبلغ مليونا ونصف المليون من الجنيهات وصودرت اموال بسبب مخالفته قيمتها اربعمائة مليون جنيه, وكان اخر المطاف ان اضطرت الحكومة الامريكية الى الغاء هذا القانون في اواخر سنة 1933م. ولم تنفعها تلك الاموال الطائلة والتضحيات الجسيمة لحمل اناس على ترك الخمر لان القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته, ولكن كلمة (فاجتنبوه) التي جاءت بها الشّريعة الاسلامية في جزيرة العرب وبين اناس اعتادوا شرب الخمور, دون ان يسبق ذلك دعاية واسعة ولا نشر كتب ورسائل, اقول ان كلمة (فاجتنبوه) الجمت الافواه عن تذوق الخمر ودفعت اولئك المسلمين الى اراقة خمورهم بأيديهم لا بأيدي رجال الشرطة والجيش , فهل بعد هذا من حاجة الى دليل على صحة ما قلناه؟ <<<<<يتبع>>>>>
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
https://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
https://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=154