المؤلفات --> البحوث الفقهية
النية المجردة في الشريعة الاسلامية
النية المجردة في الشريعة الاسلامية
بحث كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان في سبعينيات القرن الماضي ونشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها العاشر الصادر في جمادي الاولى 1396هـ / نيسان 1976م وقد طبع هذا البحث ايضا بكراس مستقل.
مقدمة وتمهيد
1)النية هي القصد او الارادة, وقد قالوا في تعريفها الاصطلاحي انها:
قصد الشيء مقترنا بفعله. ولكن استقراء النصوص الشرعية واستعمال العلماء لكلمة النية, يدل على ان
هذه الكلمة يراد بها معنيان (الاول) ارادة ايجاد فعل معين او تركه
(الثاني) ارادة غاية او غرض معين من ايجاد الفعل او تركه. والنية بهذا المعنى الثاني تسمى (الباعث).
2) وقد تطلق النية ويراد بها المعنيان في وقت واحد, كما قد تطلق ويراد بها المعنى الثاني أي الباعث وهذا كثير في استعمالها. وقد تطلق ويراد بها المعنى الاول فقط وهذا قليل في استعمالها بل ولا يصح الا على سبيل التجوز والمسامحة, لان الانسان العاقل لا يقصد عمل شيء الا لغرض معين لكن لعدم وضوح هذا الغرض او لأن ما قام به من عمل كان بدافع الغريزة المحضة, قيل ان عمله بلا غرض وان ارادته انصبت على ايجاد الفعل فقط دون ملاحظة أي غرض.
3) ومن الثابت المقرر في الشريعة الاسلامية ان العبادة في الاسلام حق خالص لله جل جلاله, وانها لا تكون مقبولة الا بشرطين (الاول) ان تكون بالكيفية المشروعة و (الثاني) ان تكون خالصة لله تعالى, أي يقصد صاحبها بها طاعة الله ومرضاته, قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
4) وعلى هذا فلا يكفي لتحصيل الثواب وقبول الاعمال ان تكون هذه الاعمال وفق الكيفيات الشرعية حسب الظاهر بل لا بد ايضا ان تكون وراءها نيات مستترة وقصود متجهة الى التقرب الى الله تعالى بهذه الاعمال. قال نبينا ﷺ (انما الاعمال بالنيات وانما لكل أمرئ ما نوى ...) فصحة الاعمال ومقدار قيمتها عند الله تعالى ومدى استحقاقها للثواب او للعقاب كل ذلك مرهون بالنيات ومنوط بها, فان كانت موصولة بالله وحده وطلب رضوانه, فالأعمال مقبولة ومرضية ومثاب عليها, وان كانت موصولة بما سوى الله تعالى كانت مرفوضة ولا يترتب عليها ثواب بل وقد يتعلق بها العقاب حتى لو انتفع بهذه الاعمال المسلمون يدل على ذلك حديث رسول الله ﷺ الذي رواه ابو موسى الاشعري رضي الله عنه, قال: سُئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله ﷺ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ومن المعلوم ان القتال في سبيل الله هو المقصود به رضوان الله المتأتي عن نصرة دين الله, اما القتال لغير ذلك فلا يدخل في مفهوم (سبيل الله) وبالتالي لا ثواب فيه وان ادى الى موت المقاتل وانتفاع المسلمين بقتاله. وهذا في الحقيقة شيء مخيف يجعل المسلم دائم الفحص لنياته وقصوده حتى يجعلها خالصة لله وحده, وليس هنا محل تفصيل هذه المسألة.
5) ولا يكفي في الباعث على العمل ان يكون فيه شيء من قصد مرضاة الله بل لا بد ان يكون كل الباعث مرضاة الله فاذا اشرك في نيته طلب غير الله أياً كان هذا الغير كان العمل غير مقبول, جاء في الحديث الشريف ان رسول الله ﷺ قال: ( قال الله تبارك وتعالى أنا اغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً اشرك فيه معي غيري تركته وشركه) والمعنى – كما قال الامام النووي تعالى في شرح هذا الحديث – ان من عمل شيء لله ولغيره لم يقبله الله تعالى وتركه لذلك الغير, فعمل المرائي وهو من يقصد بعمله غير الله تعالى باطل لا ثواب فيه ويأثم به.
6) والنية بعد هذا تعمل في المباحات فَتُصيرها قربات ما دامت تلك النية متجهة الى الله تعالى وطلب مرضاته, فمن يتعلم فنون القتال ناوياً بذلك تهيئة نفسه للجهاد في سبيل الله اثيب على تعلمه, وكذا من تعلم الفروسية او علما معيتا, وهكذا سائر المباحات من الاكل والشرب والنوم اذا قصد بها ابقاء نفسه ليقوم بعبادة ربه اثيب على افعاله هذه.
7)
والفعل الواحد تتغير صفته فيصير حلالاً او حراما تبعا لصفة نيته واتجاهها. كالذبح يكون بنية الانتفاع بلحمه فيصير حلالاً, ويكون بنية التقرب الى الله تعالى بإراقة الدم فيكون قربة كما في الاضحية, ويكون بنية التصدق بلحم الذبيحة فيكون صدقة, ويكون بنية تعظيم وثن او ما سوى الله تعالى فيكون الذبح حراما, والنظر الى المرأة الاجنبية بنية نكاحها يكون مباحا, والنظر اليها بنية التلذذ بمحاسنها يكون حراما. وامساك الزوجة بنية ابقاء الرابطة الزوجية أمر مرغوب فيه من الشرع, وامساكها للأضرار بها حرام في الشرع قال تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
8) ومن جميع ما تقدم يتبين لنا المكانة العظيمة للنية في الشريعة الاسلامية وأثرها البالغ في قبول الاعمال ورفضها وفي تحصيل الثواب ونزول العقاب, وما على المسلم الا ان يصحح نيته ويجعلها خالصة لله تعالى في عبادته وجميع افعاله حتى يظفر برضوان الله تعالى ان شاء الله.
موضوع البحث
9)
وموضوع بحثنا ليس النية المقترنة بالعمل كما بينت في المقدمة والتمهيد, وانما موضوعنا النية المجردة من العمل ( أي ارادة القيام بفعل معين لغرض معين دون ان يقترن بهذه الارادة هذا الفعل. وبكلام اخر المقصود بالنية المجردة هو ان ينوي الانسان القيام بعمل ويعزم عليه في قلبه سواء كان هذا العمل من اعمال الخير او الشر, من اعمال الطاعات او المعاصي, ولا ينفذ نبته أي لا يقوم بإيجاد العمل الذي عزم عليه, فهل يثاب هذا الشخص على نيته الخيرة التي تتجه الى فعل الخير وتعزم على ايجاده, ويعاقب هذا الشخص على نيته الفاسدة الخبيثة التي تتجه الى فعل الشر وتعزم على ايجاده وان لم يتحقق العمل في الخارج؟ هذا هو موضوع بحثنا.
منهج البحث وخطته
10)
وتسهيلا للبحث وتبسيطا له وتقريبا لمعانيه واجزائه, نجعله قسمين: (الاول) في تعلق الثواب بالنية المجردة من العمل اذا كانت تلك النية طيبة صالحة و (الثاني) في تعلق العقاب بالنية المجردة من العمل اذا كانت تلك النية فاسدة خبيثة تتجه الى عمل الشر.
11) ومنهجنا في تناول القسمين الرجوع الى كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ
+++++++القواعد التي تحكم القسمين حسبما يبدو لنا والله الموفق
اولا: مدى تعلق الثواب بالنية المجردة
12)
من القران الكريم
قال تعالى (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
جاء في تفسير القرطبي بصدد هذه الآية الكريمة (أن أهل الضرر هم أهل الاعذار المانعة من الجهاد) ثم قال القرطبي رحمه الله تعالى (فهذا يقتضي ان صاحب العذر يُعطى اجر الغازي. وقال الرازي في تفسيره بصدد هذه الآية (حاصل الآية لا يستوي القاعدون المؤمنون الاصحاء والمجاهدون في سبيل الله, واختلفوا في ان قوله تعالى (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) هل يدل على ان المؤمنين القاعدين الاضرار يساوون المجاهدين أم لا؟) ثم قال الرازي رحمه الله تعالى بعد ان ساق الاقوال ( واعلم ان القول بهذه المساواة غير مستبعد ويدل عليه النقل والعقل اما النقل .... الخ).
وقال شيخ الاسلام الامام ابن تيمية رحمه الله تعالى بصدد هذه الآية الكريمة مبينا سبب مساواة العاجز عن الجهاد بالمجاهد فعلاً (لان هذا القاعد عنده ارادة جازمة على الجهاد ولكن منعه عجزه عنه.
13) وقال ربنا تبارك وتعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).
جاء في تفسير القرطبي بصدد هذه الآية الكريمة انها نزلت في رجل من المسلمين أراد الهجرة من مكة الى رسول الله ﷺ في المدينة المنورة فادركه الموت في الطريق فقال بعض اصحاب النبي ﷺ: لو بلغ الينا لتمّ اجره فجاء ينو الرجل الى النبي ﷺ واخبروه بالقصة فنزلت هذه الآية. ويفهم من قول القرطبي ومن سبب نزول الآية الكريمة ان ثواب الهجرة حصل لذلك الرجل وان لم يتم هجرته لان قصده كان خالصاً لله وعزمه على الهجرة كان تاما وأتى من أفعال الهجرة ما قدر عليه فأُثيب ثواب المهاجر الكامل.
وهذا ما صرح به الامام الرازي في تفسيره حيث قال بصدد هذه الآية الكريمة ( قال بعظهم: المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن اتمامها, كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة, فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله ﷺ. وقال آخرون ثبت له أجر قصده واجر القدر الذي اتى به من ذلك العمل, واما اجر تمام العمل فذلك محال. ثم قال الرازي: واعلم ان القول الاول اولى .. ثم ساق الادلة على هذه الاولوية ومن هذه الادلة سبب نزول الآية الذي ذكرناه عن القرطبي.
14)
من الحديث النبوي الشريف
1. روى الامام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن انس رضي الله عنه ان النبي ﷺ كان في غزاة – هي غزوة تبوك – فقال ﷺ (ان اقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا الا وهم معنا فيه – أي في ثوابه – ثم قال: وفيه – أي هذا الحديث – ان المؤمن يبلغ بنيته أجر العامل اذا منعه العذر عن العمل كمن غلبه النوم عن صلاة الليل فانه يكتب له اجر صلاته ويكون نومه صدقة عليه من ربه).
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية بصدد هذا الحديث الشريف ( ومعلوم ان الذي مع النبي ﷺ في الغزوة – أي غزوة تبوك – يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته وارادته فكذلك القاعدون في المدينة الذين لم يحبسهم الا العذر).
15) 2. روى امام المحدثين الامام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله ﷺ (اذا مرض العبد او سافر كتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا) ويقول الامام القسطلاني في شرحه لهذا الحديث (اذا مرض العبد المؤمن وكان يعمل عملا قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع مداومته عليه او سافر سفر طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيته المداومة كتب له مثل ما كان يعمل حال كونه مقيما وحال كونه صحيحا).
ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله بصدد هذا الحديث الشريف (لان ما تركه في مرضه وسفره تركه بسبب عجزه أو مشقته لا لضعف نيته وقصور ارادته فكان له من الاجر ما كان يعمله وهو صحيح مقيم).
16) 3. روى الامام الترمذي في جامعه عن ابي كبشة الانماري انه سمع النبي ﷺ يقول (انما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصِلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) ويقول صاحب تحفة الاحوذي الامام الحافظ المباركفوري في شرحه لهذا الحديث الشريف: (وعبد رزقه الله علما أي شرعيا نافعا ولم يرزقه مالاً ينفق منه في وجوه القرب يقول فيما بينه وبين الله لعملت فيه بعمل فلان أي الذي له مال ينفق منه في البر فهو بنيته أي يؤجر على حسبها فاجرهما سواء أي فأجر من عقد عزمه على انه لو كان له مال انفق منه في الخير وأجر من له مال ينفق منه سواء ويكون أجر العلم زيادة له).
17) 4. روى الامامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة).
18) والمقصود بالهم في الحديث الشريف
ارادة الفعل وترجيحه, جاء في دليل الفاتحين بصدد هذا الحديث وشرحه: ( فمن همَّ بحسنة أي ارادها وترجح فعلها عنده, فعلم منه بالاولى العزم وهي الجزم بفعلها والتصميم عليه, فلم يعملها كتب الله عنده حسنة, لأن الهم بالحسنة سبب الى عملها وسيي الخير خير). وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: ( اذا همَّ بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة).
فالمهم هنا هو ارادة غير جازمة لفعل الحسنة او السيئة ممن هو قادر على الفعل بدلالة السياق وما ورد في الحديث الشريف من كلمة (فعملها) (فلم يعملها) كما انه قد يستدل على ان هذا الهمّ ممن هو قادر على الفعل بما قاله الامام الخطابي على ما ذكره الكرماني عنه, اذ قال الخطابي ان من هم بالسيئة فلم يعملها انما تكتب له حسنة اذا تركها مع القدرة عليها اذ لا يمسي الانسان تاركا للشيء الذي لا يقدر عليه. وعلى هذا فمن نوى فعل الطاعة او عمل الخير ولم تكن نيته تامة وكان قادرا على الفعل ولم يفعل أثابه الله تعالى على نيته هذه وكتب له بها حسنة, لان ارادة الخير خير وطاعة وسبب يفضي الى عمل الطاعة. فاذا عمل ما نواه ضاعف الله تعالى له الاجر وجعل الحسنة بعشر امثالها الى اضعاف كثيرة.
19) اما اذا
همَّ بالسيئة ولم يعملها وهو قادر على فعلها فان الله تعالى لا يكتبها عليه ولا يؤاخذه بها لان ارادته غير جازمة بدليل عدم عمله ما همّ به وهذا يوافق ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الامام مسلم في صحيحه عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ( ان الله تجاوز لامتي عما حدثت به انفسها ما لم تعمل او تكلم به). فحديث النفس يشبه الهم من جهة عدم الجزم وعدم الاستقرار في النفس فلا يوآخذ به المسلم.
20)
فاذا همَّ بالسيئة ولم يعملها فأما أن يتركها خشية الله تعالى أو حياء منه وأما أن يتركها لغير ذلك, فان كان تركه لله تعالى أثابه الله على هذا الترك وكتب له عنده حسنة كاملة كما جاء في الحديث الشريف الذي جاء برواية اخرى ورد فيها وان تركها – اي السيئة – فاكتبوها له حسنة انما تركها من جراي, أي من اجلي, اما اذا ترك السيئة لغير الله تعالى لم تكتب عليه سيئة ولم يكتب له به حسنة يدل على ذلك الحديث الذي رواه الامام مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ وفيه (واذا هم بسيئة ولم يعملها لم اكتب عليه).
21) ويلاحظ هنا ان الهمَّ بالحسنة او بالسيئة اتما هو من اعمال القلوب التي يتعلق بها الجزاء, ولكن الحديث الشريف بيّن ان الهم بالحسنة يتعلق به الثواب بينما الهم بالسيئة لا يتعلق به الاثم والعقاب. ووجه الفرق هو محض فضل الله حيث عفا عن عباده اذا همّوا بالسيئة اذا تركها لله كتب له بهذا الترك حسنة لان الكف عن الشر خير وهو متأخر عن ذلك الهم السابق فيكون ناسخا له (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
القواعد العامة في تعلق الثواب بالنية المجردة
22)
ومما ذكرنه من نصوص القران الكريم والسنة النبوية المطهرة واقوال العلماء رحمهم الله تعالى يمكننا استخلاص القواعد العامة في مسالة تعلق الثواب بالنية الصالحة المجردة من العمل الصالح. وهذه القواعد هي:
القاعدة الاولى
23)
يتعلق الثواب بالنية الصالحة متى كانت جازمة وأتى صاحبها ببعض ما تقتضيه نيته الصالحة هذه بقدر استطاعته ويكون ثوابه عليها ثواب الفاعل الكامل. ودليل هذه القاعدة ما ذكرناه في الفقرة (13) التي فيها قوله تعالى(وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الى آخر الآية الكريمة.
القاعدة الثانية
24)
يتعلق الثواب بالنية الصالحة اذا كانت جازمة وعجز صاحبها ان يأتي بالعمل الصالح الذي تقتضيه هذه النية ويكون ثوابه عليها ثواب الفاعل الكامل.
ودليل هذه القاعدة ما ذكرناه في الفقرات (12 , 14 , 15 , 16) وفي هذه الفقرات قوله تعالى (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... الى آخر الآية الكريمة, وحديث ان اقواما بالمدينة .... الخ, وحديث اذا مرض العبد .... الخ, وحديث انما الدنيا لأربعة نفر .... الخ.
القاعدة الثالثة
25)
يتعلق الثواب بالنية الصالحة المجردة اذا لم تكن جازمة ويكتب لها حسنة كاملة ولو لم تقترن بعمل صالح.
ودليل هذه القاعدة الحديث الشريف الذي فيه: فمن همَّ بحسنة فلم يعملها .... الخ الوارد في الفقرة (17).
القاعدة الرابعة
26)
يتعلق الثواب بنية الكف عن الهمّ بالسيئة, ويكتب لصاحب هذه النية حسنة كاملة. ودليل هذه القاعدة ما ذكرناه في الفقرة (17) من حديث رسول الله ﷺ وفيه: وان همَّ بسيئة فلم يعملها .... الخ وما ذكره العلماء بصدد هذا الحديث الشريف وما يفهم منه.
ثانيا: مدى تعلق العقاب بالنية المجردة
27)
جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ان النبي ﷺ قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. فقيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه).
ويقول الامام القسطلاني في شرحه لهذا الحديث الشريف وتفسيره لعبارة (انه كان حريصاً على قتل صاحبه) قال رحمه الله: مفهومه ان من عزم على المعصية بقلبه ووطّن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه. ولا تنافي بين هذا وبين قوله في الحديث الآخر: اذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها فلا تكتبوها عليه, لان المراد انه لم يوطن نفسه عليها بل مرت بفكره من غير استقرار, ومعنى ذلك ان المقتول كان عنده ارادة جازمة متجهة الى قتل صاحبه وأتى بقدر بما يقدر عليه من القتال ولكنه عجز عن تحقيق ارادته وهي قتل صاحبه, وهذا ما صرح به شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بصدد هذا الحديث فقال (فهذه الارادة هي الحرص وهي الارادة الجازمة وقد وجد معها المغدور وهو القتال ولكنه عجز عن القتل) وهذا يعاقب عقوبة الفاعل. ومما يزيد هذا المعنى وضوحا وهو وجود الارادة الجازمة عند المقتول لقتل صاحبه واتيانه بما يقدر عليه, ان هذا الحديث الشريف روي بلفظ آخر هو (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار قيل فهذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه) ومعنى (تواجه) أي ضرب كل واحد منهما وجه الآخر أي ذاته. فالمقتول كان مريداً قتل صاحبه ارادة جازمة واتى بما قدر عليه وهو ضرب وجه صاحبه ولكن لم يتحقق مطلوبه لعجزه عنه. هذا وان الحديث الشريف يتعلق بالمقاتلين بلا تأويل سائغ ولا اجتهاد مقبول.
28) حديث ابي كبشة الانماري الذي رواه الامام الترمذي في جامعه وذكرناه في الفقرة 16 السابقة, وقد جاء فيه: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) فهذا الحديث الشريف صحيح في ان من كانت لديه نية وارادة فعل السوء كالذي تمنى ان يكون له مال مثل مال فلان ليعمل فيه عمله, وكانت ارادته جازمة فانه والذي ينفق في الباطل في الوزر سواء, أي فان عقابهما واحد.
القاعدة في تعلق العقاب بالنية المجردة
29)
وبناء على ما تقدم في الفقرتين السابقتين (27, 28) يمكننا ان نستخلص القاعدة التالية في مسألة مدى تعلق العقاب بالنية المجردة, فأقول:
يتعلق العقاب بالنية الخبيثة المجردة اذا كانت تامة جازمة ولم يأت صاحبها بما تعلقت به من عمل لعجزه عنه, أو اتى بما يقدر عليه منه وعجز عن الباقي, ويكون العقاب بقدر عقاب الفاعل الكامل.
تعليق تعلق الجزاء بالنية المجردة
30)
النية من اعمال القلوب, واعمال القلوب يتعلق بها الثواب والعقاب, فالمحبة, محبة الله ورسوله والاخلاص له والتوكل عليه والثقة به ونحو ذلك من الاعمال القلبية هي من أهم واجبات الدين بل ان محبة الله ورسوله واخلاص العمل لله اكبر اصول الايمان, وما كان من الايمان وواجبات الدين تعلق به الثواب لا محالة.
أما اعمال القلوب الرديئة المذمومة التي نهى الشرع عنها فيتعلق بها العقاب مثل الحسد والرياء وارادة السوء ونحو ذلك, قال الامام النووي ( وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقوله تعالى (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) والآيات في هذه كثيرة. وقد تظاهرت نصوص الشرع واجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وارادة المكروه بهم وغير ذلك من اعمال القلوب وعزمها.
وقد افاض شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان اهمية الاعمال القلبية ومنها النيات وتعلق الثواب والعقاب بهذه الاعمال وأفرد بها رسالة خاصة هي المسماة ب (التحفة العراقية في الاعمال القلبية) وهي رسالة نفيسة يحسن بالمسلم قراءتها.
الخاتمة
31)
وبعد فهذا ما يسره الله تعالى في بحث النية المجردة ومدى تعلق الثواب والعقاب, والمطلوب من كل مسلم الاقبال على نفسه وفحص نواياه واراداته وقصوده في كل ما يأخذ ويترك ويعطي ويمنع حتى تكون نيته خالصة لله رب العالمين وبالتالي يثاب على جميع افكاره وتروكه ان شاء الله تعالى والله هو الموفق والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبدالكريم
زيدان |