المؤلفات --> مقالات
مقال رعاية المصلحة في الشريعة الاسلامية
رعاية المصلحة في الشريعة الاسلامية
مقال نشر في مجلة الوعي الاسلامي بعددها الثاني لسنتها الاولى- وكان ذلك في شهر صفر 1385 هـ الموافق حزيران 1965م.
بقلم: الدكتور عبدالكريم زيدان
تمهيد
1) من خصائص الشريعة الاسلامية انها عامة في المكان والزمان, بمعنى انها عامة لجميع البشر في كل مكان وزمان, وبهذا نطق القران الكريم, (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) وقال :( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا). وعموم الشريعة الاسلامية غير مقصورة على عصر النبيﷺ ,بل هو يمتد الى يوم القيامة, لان الرسول النبي ﷺ خاتم النبيين والمرسلين, قال تعالى (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وبختم الرسالة والنبوة انقطع الوحي, وبانقطاع الوحي امتنع نسخ الشريعة, لان الشريعة الاسلامية وهي وحي الله لا ينسخها الا وحي الهي, وحيث لا وحي بعد رسول الله فلا يتصور نسخها ولا تبديلها ...
واذا كان ما قدمت يعتبر من الامور الواضحات, فان من لوازم ذلك ان تكون الشريعة الاسلامية ذات قابلية للبقاء والعموم, محققة مصالح الناس في كل زمان ومكان, اذ لا يجوز في العقل ان تكون الشريعة كما وصفنا وهي عاجزة عن مصالح العباد ...
ابتناء الشريعة على رعاية مصالح العباد
2) يقول الفقيه الشجاع العز بن عبد السلام (ان الشريعة كلها مصالح اما درء مفاسد او جلب مصالح) ويقول الامام الكبير ناصر السنة النبوية شيخ الاسلام ابن تيمية: (ومعلوم ان الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الاماكن ) ويقول ايضا: (فان الله تعالى بعث رسولهﷺ بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها). ويقول الفقيه المحقق ابن قيم الجوزية: (ان الشريعة مبناها واساسها على الحكم , ومصالح العباد في المعاش والمعاد), ويقول الامام الشاطبي( والشريعة ما وضعت الا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم).
فهذا المنقول من هؤلاء الائمة الاعلام, صريحة في ان الشريعة بنيت على اساس رعاية مصالح العباد في الدنيا والاخرة, وسواء اكانت هذه المصالح جلب منافع, ام درء مفاسد, لان درء المفاسد وجه من وجوه المصلحة.
ادلة ابتناء الشريعة غلى رعاية المصالح
3) وما ذهب اليه هؤلاء العلماء هو الحق , وعليه يدل استقراء النصوص ونهج المشرع في تشريعه الاحكام, وتشهد له اصول الشريعة المقطوع بصحتها ونذكر من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:
أ – جاء في القران الكريم في تعليل رسالة محمدﷺ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ومن الواضح ان الرحمة هذه تتضمن رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.
ب – تعليل الاحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة إعلام للمكلفين بان تحصيل المصالح هو مقصود الشارع الحكيم, وان الاحكام ما شُرعت الا لهذا الغرض فمن ذلك قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فتشريع القصاص مصلحة مؤكدة للناس, لان فيه زجرا وردعا لمن تسول نفسه الاعتداء على ارواح الناس, فتحفظ حياتهم بذلك, وقول الله تعالى في تعليل النهي عن الخمر والميسر (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) فالنهي عن الخمر والميسر يحقق مصلحة مؤكدة هي دفع ما يريد الشيطان إيقاعه بين المسلمين من عداوة وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة .....
ج – من اصول الشريعة المقطوع بصحتها رفع الحرج عن الناس وارادة اليسر بهم ودفع العسر عنهم, قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) وقال عز وجل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ولا شك ان رفع الحرج عن الناس وارادة اليسر بالعباد والتخفيف عنهم كل ذلك من مظاهر رعاية المصلحة في التشريع الاسلامي.
د – تشريع الرخص بالنسبة لذوي الاعذار كالمرضى والمسافرين والمضطرين والمكرهين, على وجه بارز من وجوه رعاية المصلحة وعدم ارهاق الناس, فالمريض يفطر في رمضان, وكذا المسافر والمكره على كلمة الكفر لا يكفر بقولها, والمضطر يباح له تناول المحرمات من مطعوم او مشروب لان الضرورات تبيح المحظورات.
هـ - وتشريع الاحكام في عصر النبي ﷺ اخذ بنهج التدرج فلم تأت احكامه دفعة واحدة وانما جاءت متدرجة من حيث زمان تشريعها, ومن حيث انواعها رعاية لمصالح العباد ورفع المشقة عنهم, وترويضهم على تقبل الاحكام شيئا فشيئا.
4) بين الشريعة والقوانين الوضعية
واذا كانت الشريعة الاسلامية قد راعت بجميع احكامها مصالح العباد وان القوانين الوضعية من اسس وضعها مراعاة مصالح الناس, فان بين الاثنين مع ذلك فرقين جوهريين لا يجوز اغفالهما
الاول: ان القوانين الوضعية لا تهتم الا بمصالح الناس في الدنيا ولا يمتد نظرها الى ما وراء هذه الحياة. اما الشريعة الاسلامية فهي تنظر الى مصالح العباد في الاخرة – وهي الظفر بنعيم الجنة والنجاة من عذاب النار – هي الاهم والاكثر رعاية في السريعة الاسلامية لأنها هي الباقية اما مصالح الدنيا فهي الفانية وشتان بين ما يفنى وما يبقى.
الثاني: ان القوانين الوضعية قاصرة عن تحقيق المصالح على الوجه الاكمل المطلوب لان واضعها بشر والبشر لا ينفك عن الجهل والهوى ونقص الادراك, فقد يرى ما هو مفسدة مصلحة وما هو مصلحة مفسدة فيشرع من الاحكام ما يفوت المصلحة وبجلب المفسدة, وقد يدرك المصلحة ولكن ما يشرعه من احكام يقصر عن تحصيلها, وسر المسالة ان صفات الصانع تظهر على صنعته ومصنوعه, وحيث ان الانسان مهما يكمل فهو ناقص ومهما يصف فهو لا يخلو من هوى ومهما يؤت من علم فهو قليل فان هذه الصفات تنعكس على ما يشرعه .... اما شريعة الاسلام فهي من صنع الله جل جلاله مبرأ من كل نقص فله الكمال المطلق, فما يشرعه من احكام يأتي مبرأ من النقص والهوى , صالحا للعباد, محققا لهم الخير والفلاح, لأنه من صنع الله العظيم بما يصلح لعباده (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ).
المصلحة دليل من ادلة الاحكام
5) والشريعة في منهجها في التشريع وبناء الاحكام على المصلحة, قد دلت على ان رعاية مصالح الناس دليل من ادلة استنباط الاحكام, وهذا ما فهمه علماء الاسلام فجعلوا المصلحة اصلا من اصول استنباط الاحكام فكل مصلحة تظهر وليس لها حكم في الشريعة فان الشريعة الاسلامية تأذن للمجتهدين بتشريع الحكم الملائم لتحقيقها وعلى هذا الاساس سار فقهاء الصحابة الكرام في استنباط الاحكام دون انكار فيكون ما ذهبوا اليه اجماعا سكوتيا والاجماع حجة ... فأبو بكر رضي الله عنه جمع القران لما رأى المصلحة في ذلك, وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى قتل الجماعة بالواحد, واتخذ السجن, ودون الدواوين, وقاسم الولاة في اموالهم التي اكتسبوها بجاه السلطة وجعلها لبيت المال, وعلي رضي الله عنه قال في تضمين الصناع ما يهلك في ايديهم من اموال الناس (لا يصلح الناس الا ذاك) الى غير ذلك من اجتهادات الصحابة المبينة على المصلحة.
6) ولا يعكر ما قلناه من اعتبار المصلحة اساسا للاستنباط اختلاف الفقهاء في حجة المصلحة وصلاحيتها لاستنباط الاحكام , فان هذا الخلاف يحكى في كتب اصول الفقه على نحو واسع, ولكن لا نجد اثاره بهذه السعة في كتب الفقه. فالفقهاء المنسوب الهم انكار حجة المصلحة وجدت لهم اجتهادات قامت على اساس المصلحة كما سنذكره بعد قليل ولكم مما لا ريب فيه ان هناك فريقا من الفقهاء انكر على المصلحة صلاحيتها لابتناء الاحكام عليها, ولكن هذا الفريق من الفقهاء محجوج بنهج الصحابة القويم في رعاية المصلحة وبما قلناه عن ابتناء الشريعة على رعاية المصلحة واما ما احتجوا به في انكارهم حجية المصلحة في استنباط الاحكام من ان الشارع الحكيم شرع لعباده ما يحقق مصالحهم , وانه لم يترك مصلحة بلا تشريع والا كان ذلك قدحا بالشريعة ومناقضا لقول الله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى).
فان هذه الحجة ضعيفة لا تنهض دليلا لأنكارها, فالشريعة حقا قد راعت مصالح العباد وشرعت من الاحكام ما يوصل اليها, ولكنها لم تنص على جميع جزيئات المصالح الى يوم الدين وانما نصت على بعضها ودلت بمجموع احكامها على ان المصلحة هي مقصود الشارع وغرضه من الاحكام, وان للمجتهدين – بناء على ذلك ان يستنبطوا الاحكام لتحقيق المصالح المستجدة والمسكوت عنها. وهذا المسلك من الشريعة في عدم النص على جميع جزيئيات المصالح من محاسن الشريعة لا من مثالبها ومن دلائل صلاحيتها للبقاء والعموم لان جزيئات المصالح تتغير وتتبدل, وان كان اصل رعاية المصالح قائما ثابتا لا يتغير, فليس اذن من الضروري عد جزيئات المصالح مقدما وتشريع حكم خاص لكل واحدة منها على حدة. وعلى هذا فاستنباط الاحكام على اساس المصلحة لا يكون افتئاتا على حق الشارع العظيم في التشريع ولا يدل على ترك الخالق لعباده سدى, لأنه هو الذي ارشدنا الى رعاية المصلحة والاخذ بها.
والحكم المستنبط على اساسها هو من احكام الشريعة وما عمل المجتهد في هذا النوع من الاجتهاد الا من قبيل الكشف عن حكم الشريعة لا من قبيل التشريع ابتداء.
ضوابط الاخذ بالمصلحة
7) والاخذ بالمصلحة والاعتداد بها واعتبارها من مصادر التشريع لا يكون خلوا من كل قيد, مطلقا من كل ضابط. فالواقع ان العلماء وضعوا ضوابط للمصلحة المعتبرة التي تكون اساسا للاستنباط, فاشترطوا لها ان تكون ملائمة لمقاصد الشارع فلا تخالف اصلا من اصوله , ولا نصا من نصوصه, بل يجب ان تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها او قريبة منها ليست غريبة عنها. كما اشترطوا لها ان تكون معقولة بذاتها بحيث لو عرضت على اصحاب العقول السليمة, لتلقتها بالقبول, وفضلا عن ذلك, اشترطوا ان تكون المصلحة مؤدية الى حفظ ما هو ضروري وهو حفظ الدين او النفس او العقل او العرض او المال, او تحقيق رفع الحرج عن الناس.
وبناء على هذه الضوابط فكل اجتهاد او قول او افتاء او راي بني غلى مصلحة متوهمة مخالفة لنص شرعي, لا يكون هذا الاجتهاد الا باطلا, لأنه اجتهاد في معرض النص والقاعدة الفقهية تقول (لا مساغ للاجتهاد في معرض النص).
ومن هذا النوع من الاجتهادات الباطلة القائمة على مصالح متوهمة ما ذهب اليه بعض الناس من جواز تحريم تعدد الزوجات او مساواة الذكر والانثى في الميراث او اشتراط اذن القاضي لصحة وقوع الطلاق ...
امثلة من اجتهادات الفقهاء المبنية على المصلحة
8) افتى المالكية بجواز فرض الضرائب على الافراد القادرين عند الحاجة وضعف بيت المال, فقد جاء في تهذيب الفروق (توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة, ولا شك عندنا في جوازه وظهور مصلحته في بلاد الاندلس وفي زماننا لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين سوى ما يحتاج اليه الناس وضعف بيت المال عنه ... الى اخر ما قال. واجازوا شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات لأنه لا يشهد لعبهم – عادة – غيرهم وان لم يتوفر البلوغ وهو من شروط قبول الشهادة . وقال الشافعية بجواز اتلاف الحيوانات التي بقاتل عليها الاعداء واتلاف اشجارهم اذا كانت مصلحة الظفر بالأعداء والغلبة عليه تستدعي ذلك. وعند الحنفية من ضروب الاستحسان, الاستحسان بالمصلحة ومنه تضمين الصناع ما يهلك تحت ايديهم من اموال الناس مع ان ايديهم ايدي امانة. ومن اخذهم بالمصلحة ما ذهب اليه ابو حنيفة , فقد قال ابو يوسف عنه, (قال ابو حنيفة رضي الله عنه: واذا اصاب المسلمون غنائم من متاع او غنم فعجزوا عن حمله ذبحوا الغنم وحرقوا المتاع, كراهية ان ينتفع بذلك اهل الشرك) وذهب الامام احمد ابن حنبل الى نفي اهل الفساد الى بلد يؤمن فيه من شرهم, كما افتى بجواز تخصيص احد الاولاد بالهبة لمصلحة معينة كان يكون مريضا, او صاحب عيال, او طالب علم او محتاجا, وقال الفقهاء الحنابلة ان لولي الامر ان يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند حاجات الناس اليه, وله ايضا ان يجبر اصحاب الحرف والصناعات التي يحتاجها الناس على العمل باجر المثل اذا امتنعوا عن العمل.
9) ومن هذا كله يتبين لنا عظيم مكانة المصلحة في الشريعة الاسلامية ومدى رعايتها, فقد قامت الشريعة على اساس تحقيق مصالح الناس وارشدت المكلفين الى اعتبارها وعدها من اصول الاستنباط الفقهي, وعلى هذا النهج سار فقهاؤها العظام فتركوا ثروة عظيمة من الفقه المبني على المصلحة ومهدوا الطريق لمن يأتي بعدهم للسير على نهجهم دون تهجم على الشريعة ولا تجاوز للحدود المرسومة للاجتهاد المصلحي, والله الموفق للصواب.
الدكتور عبدالكريم زيدان
صفر 1385 هـ الموافق حزيران 1965م |