المؤلفات --> البحوث الفقهية
مسائل في الرَّضَاع
مسائل في
الرَّضَاع
بحث كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان ونشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها الثالث من عام 1396هـ/ 1976م وطبع بكراس منفصل في نهاية السبعينيات.
تمهيد
1) من شروط انعقاد النكاح وصحته ان تكون المرأة محلاً له بان لا تكون محرمة على الرجل حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة وهذه الحرمة لا تزال قائمة. وأسباب التحريم على التأبيد ثلاثة: القرابة, والمصاهرة, والرضاعة, وكلامي في هذا البحث الموجز هو عن الرضاع دون غيره من أسباب التحريم المؤبد.
2) والرضاع عند الفقهاء وصول لبن المرأة الى جوف الطفل بالتقامه ثدي المرأة وامتصاصه اللبن منه او ما يقوم مقام الارتضاع بشروط معينة سنذكرها فيما بعد, قاذا ارتضع الطفل من امرأة صار ابنا لها وصارت اما له من الرضاعة وحرم عليه نكاحها كما يحرم عليه نكاح امه من النسب.
3) والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة واجماع الفقهاء, اما الكتاب فقد جاء فيه قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ).
فالأمهات والاخوات من الرضاعة محرمات كالأمهات والاخوات من النسب. وفي السنة النبوية الشريفة ورد قوله ﷺ (يحرم من
الرَّضَاعِ ما يحرم من النسب).
وقد اجمع الفقهاء على التحريم بالرضاع ولم يخالف احد في اصل هذا التحريم وان اختلفوا في بعض مسائله وجزيئاته.
4) واذا كان الرضاع من اسباب التحريم فمن الضروري للمسلم او من المفيد له ان يعرف شروطه ومتى تقع الحرمة به ليكون على بينة من ذلك فلا يقع في المحظور, ولهذا رأيت من النافع ان شاء الله تعالى أن اذكر بعض مسائل الرضاع البارزة على وجه الايجاز دون التفصيل ولا الاحاطة بجميع جزيئات هذا الموضوع.
المسألة الاولى: الرضاع المحرم
5) واذا كان الرضاع محرما أي سببا للتحريم فما مقدار هذا الرضاع المحرم؟ اختلف الفقهاء في ذلك ويمكن رد اختلافهم الى قولين:
القول الاول:
ويقول اصحاب هذا القول الاول ان
قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم وقد روي هذا القول عن علي بن ابي طالب وعبدالله بن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم, وبه قال الامام ابو حنيفة واصحابه, والامام مالك واصحابه, والثوري والاوزاعي والليث وهو احدى الروايات عن احمد ابن حنبل رحمهم الله تعالى.
والحجة بهذا القول قول الله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ). وقول الرسول الكريم ﷺ (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) وجه الاستدلال بالآية والحديث ان الرضاعة وردت فيه مطلقة غير مقيدة بقدر محدود ولا بكثرة ولا قلة فيستوي قليل الرضاع وكثيره في التحريم.
القول الثاني:
6) لا يثبت التحريم باي رضاع بل
لا بد من قدر محدود منه, واصحاب هذا القول اختلفوا في هذا المقدار المحدود.
فذهب داود وابن المنذر وابو ثور رحمهم الله تعالى الى ان المحرم من الرضاع هو ثلاث رضعات اما ما دون ذلك فلا يحرم, والحجة لهذا المذهب الحديث الشريف (لا تحرم الرضعة او الرضعتان او المصة أو المصتان) واحاديث اخرى وردت بهذا المعنى, وجه الاستدلال بهذه الاحاديث الشريفة انها دلت على ان الرضعات الثلاث فما فوق يحرمن, وهذا الاستدلال تعلق بدليل الخطاب أي بمفهوم المخالفة.
7) وقال اخرون لا يثبت التحريم الا بخمس رضعات متفرقات. وروى هذا عن الصديقة عائشة وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم. وعطاء وطاووس والشافعي واحمد ابن حنبل رحمهم الله تعالى هو المعتمد من مذهب الحنابلة كما ذكر ابن قدامة في المغني. والحجة لهذا القول حديث عائشة رضي الله عنها الذي دل على ان الرضاع هو خمس رضعات.
الراجح من القولين
8) والذي اميل الى ترجيحه هو قول القائلين بأن المحرم هو خمس رضعات فما فوق لان الحديث – حديث عائشة رضي الله عنها – نص على ان المحرم خمس رضعات فهو أولى بالأخذ من حديث (لا تحرم الرضعة او الرضعتان...) لأنه دلّ على التحريم بثلاث رضعات بدليل الخطاب وحديث عائشة دلّ على ان المحرم هو خمس رضعات, والنص مقدم على دليل الخطاب كما هو مقرر في اصول الفقه. كما ان ما احتج به للقول الاول لا يدفع ما رجحناه لان السنة النبوية تقيد مطلق القرآن الكريم وتبين المراد منه وقد بينت ان المقصود بالرضاع المحرم هو خمس رضعات. والحنفية انفسهم – رحمهم الله – وهم القائلون بان قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم, قالوا (ان الشرع علق الحرمة في باب الرضاعة بمعنى التغذي على ما نطقت به الاحاديث) فكيف يتحقق التغذي بالقطرة او القطرات من اللبن يمتصها الرضيع حتى يتحقق التحريم بها؟
مقدار الرضعة
9) واذا كان الرضاع المحرم خمس رضعات فما فوق, فما مقدار الرضاعة الواحدة؟ الواقع ان الرضعة وردت مطلقة في الاحاديث الشريفة ولم تحدها بمقدار معين فدل ذلك على ان الشرع ترك تحديدها للعرف كما هو الشأن فيما لا يحدده الشرع, والعرف يقضي – كما الشافعية رحمهم الله تعالى – بأن الطفل اذا أرتضع من ثدي المرأة ثم قطع الرضاع باختياره دون عارض كان ذلك رضعة واحدة, فاذا عاد الى الرضاع مرة اخرى كان رضعة أخرى. وكذلك اذا قطع الرضاع لضيق نفس او للانتقال من ثدي الى ثدي أو لشيء يلهيه ثم رجع الى الارتضاع كان الجميع رضعوا واحدة ايضاً, اما اذا قطعت المرضعة عليه الرضاع فعند الشافعي وجهان (الاول) ان ذلك ليس برضعة لأنه قطع عن الرضاع بغير اختياره (والثاني) انه يعتبر رضعة.
وقال الحنابلة في مقدار الرضعة بنحو ما قاله الشافعية.
السَّعُوطُ و الوَجُورُ
10) السَّعُوطُ عند الفقهاء صبّ اللبن في انف الطفل من أناء او غيره, و
الوَجُورُ صب اللبن في حلق الطفل من دون امتصاصه لثدي المرأة. فهل يعتبر السعوط والوجور بمنزلة الارتضاع من ثدي المرأة؟
11) ذهب بعض الفقهاء الى انهما ليسا كالارتضاع لان التحريم يقع بالرضاع وهو امتصاص الطفل لثدي المرأة ووصول لبنها الى جوفه من هذا الطريق, ولا يسمى السَّعُوطُ و الوَجُورُ , رضاعا فيما يتعلق به التحريم.
12) وذهب الاكثرون الى انهما كالارتضاع من ثدي المرأة فيتعلق بهما التحريم, وهذا مذهب الحنفية والشافعية واصح الروايتين في مذهب الحنابلة وهو قول الشعبي والثوري, وبه قال الامام مالك في الوجور دون السعوط. واحتج اصحاب هذا القول بما رواه عبدالله بن مسعود عن النبي ﷺ (لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم) فدل هذا الحديث الشريف على ان المؤثر التحريم هو حصول الغذاء باللبن وانبات اللحم وانشاز العظم وهذا كله يحصل بالسعوط والوجور كما يحصل بالارتضاع المباشر من ثدي المرأة فيجب ان يتساووا جميعا في الحكم أي التحريم.
13) واذا كان السَّعُوطُ و الوَجُورُ كالرضاع في الحكم فما مقدارهما الذي يتعلق به التحريم؟ القائلون بان قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم يقولون ذلك ايضا في السعوط والوجور لان المنظور اليه وصول اللبن الى جوف الطفل عن طريق مباشر بالامتصاص من ثدي المرأة او بصب اللبن فب انف الطفل او حلقه, فإذا وصل اللبن الى جوف الطفل ولو كان قليلاً وقع التحريم به.
14) أما المشترطون خمس رضعات, فأنهم يشترطون نفس هذا العدد في السعوط والوجور, والمنظور اليه في ضبط هذا العدد وهو صب اللبن في فم الطفل او انفه في خمس اوقات متفرقة دون نظر الى كيفية حلب لبن المرأة او اوقاته عند الحنابلة, ولهذا لو حلب لبن المرأة في أناء دفعة واحدة ثم صب في فم الطفل دفعة واحدة كان ذلك رضعة واحدة, وكذلك لو سقى الطفل هذا اللبن المجموع جرعة جرعة فانه يعتبر رضعة واحدة. عند الشافعية المنظور اليه في ضبط عدد الرضعات الاعتيادية في السعوط والوجور هو خروج اللبن من ثدي المرأة وليس صبه في فم الطفل او انفه, وعلى هذا لو جلب لبن المرأة في اناء دفعة واحدة ثم سقى الطفل هذا اللبن في خمسة اوقات فانه يعتبر رضعة واحدة فقط وليس خمس رضعات خلافا للحنابلة. والراجح هو قول الحنابلة لات الاعتبار ينبغي ان يكون بشرب الطفل او ما يدخل في جوفه من لبن المرأة لا بما يخرج من ثديها, فلو شرب الطفل اللبن دفع واحدة او بجرعات متتالية, او مصه من قارورة يمكن امتصاص اللبن منها كالتي تستعملها بعض الامهات لأطفالهن, فان ذلك كله يعتبر رضعة واحدة عرفا وان كان ذلك اللبن حلب من ثدي المرأة في خمسة اوقات.
المسألة الثانية: اختلاط اللبن بغيره
15) واذا خلط لبن المرأة بماء او دواء وصب في فم الطفل فهل يكون هذا اللبن المشوب كاللبن المحض في التحريم؟
يُنظر: فان كان اللبن هو الغالب وبقيت صفاته ظاهرة كان اللبن المحض في التحريم لان ما اختلط به ماء او دواء لم يخل بصبغة اللبن وصيرورته غذاء وانما يسهل وصوله الى انحاء الجسم, ثم ان اللبن بانفراده يحرم فمنع هذه الاشياء مع بقاء اللبن غالبا ظاهر الصفات اولى.
أما اذا كان الماء او الدواء هو الغالب وكان اللبن هو المغلوب بأن ذهبت اوصافه لم تثبت الحرمة بهذا الخليط اذا شربه الطفل لان اللبن اذا صار مغلوبا صار مستهلكا فلا يقع به التغذي فلا تثبت به الحرمة, وما قلناه هو مذهب الحنفية والحنابلة.
وقال الشافعية اللبن المشوب بغيره كاللبن المحض الذي لا يخالطه سواه, حتى لو صب في ماء كثير لم يتغير به ولم تبق معه صفات اللبن فأن التحريم يثبت اذا شربه الطفل ويحتجون بأن اجزاء اللبن حصلت في بطن الطفل فأشبه ما لو كان ظاهرا, ولان ما تعلق به التحريم ان كان غالبا تعلق به ان كان مغلوبا.
16) والراجح قول الحنفية والحنابلة لما احتجوا به ولان اعتبار الغالب والحاق المغلوب بالعدم أصل في الشرع فيجب اعتباره في مسألة اختلاط أو خلط اللبن بالماء او الدواء, ولان الشرع – كما يقول الحنفية – علق الحرمة في باب الرضاع بمعنى التغذي كما ورد في الاحاديث الشريفة, واللبن المشوب بالماء اذا كان – أي اللبن- مغلوبا لا يحصل التغذي به لزوال قوته لهذا لا يقع الاكتفاء به في تغذية الطفل فلا يقع به التحريم.
المسألة الثالثة: وقت الرضاع
17) ذهب جماهير الفقهاء من السلف والخلف الى ان الرضاع المحرم هو الذي يقع في دور الطفولة و وقدر ذلك بالعامين الاوليين من عمر الطفل
و فاذا وقع الرضاع بعد العاميين لم يكن محرما. وممن قال هذا القول الشافعية والحنابلة وابو يوسف ومحمد صاحبا ابي حنيفة والشعبي والاوزاعي, وروي هذا القول عن الصحابة الكرام منهم عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم.
والحجة لهذا القول من وجوه كثيرة, (منها) قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) , وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة انها دلت على ان تمام الرضاعة يكون بتمام الحولين فلا حكم للرضاعة بعد الحولين. (ومنها) الحديث الشريف (انما الرضاعة من المجاعة) وهذا يدل على ان الرضاع في الصغر هو المحرم اذ هو الذي يدفع الجوع, وقد دلت الآية الكريمة على ان الصغر في الرضاعة ينتهي بانتهاء العامين كما دل على ذلك الحديث الشريف (لا
رَضَاعَ الا ما كان في الحولين).
18) ويبقى الاعتبار بالعامين, وهما وقت الرضاع المحرم, حتى لو فطن الطفل قبل مضيهما أو مضي الحولين ثبت التحريم بهذا الرضاع لوقوعه في وقته, ولو لم يفطم حتى لو تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم, فالاعتبار اذن للوقت لا للفطام لان دلائل الشرع دلت على ان الرضاع المحرم ما كان في الصغر الذي حدد بالسنتين من غير قصل بين ما اذا فطم او لم يفطم.
المسالة الرابعة: الشك في الرضاع
19) اذا حصل شك في وقوع الرضاع او في عدد الرضعات, اخذنا باليقين وطرحنا الشك لان اليقين لا يزول بالشك, وهو ان اليقين بالنسبة لوقوع اصل الرضاع عدم وقوعه, وبالنسبة لعدد الرضعات هل هي اربع او خمس مثلا باليقين وهو اربع وطرحنا الخامسة المشكوك فيها.
المسالة الخامسة: الشهادة على الرضاع
20) ويثبت الرضاع بالشهادة بلا خلاف بين الفقهاء ولكنهم اختلفوا في نصابها المعتبر, فعند الحنفية لا يثبت الرضاع بالشهادة الا اذا تم نصابها وهو في هذا الباب رجلان او رجل وامرأتان, ولا يقبل اقل من ذلك ولا شهادة النساء بانفرادهن, وعند الشافعي تقبل شهادة اربع نسوة لأنها شهادة على عورة اذ لا يمكن تحمل الشهادة الا بعد النظر الى الثدي وهو عورة فيقبل فيه الشهادة على الانفراد أي شهادة النسوة وحدهن وحدّه بأربع نسوة.
ويرد الحنفية على حجة الشافعية بأن الرضاع مما يمكن ان يطلع عليه الرجال من حيث الجهة اذ يمكن لمحارم المرضعة ان يروا ثديها, وحيث امكن ذلك من حيث الجهة انتفت الضرورة التي دعت الى قبول شهادة النساء وحدهن لان قبول شهادتهن منفردات للضرورة والضرورات تقدر بقدرها وهذا بخلاف الولادة فانه لا يجوز لاحد فيها من الرجال الاطلاع عليها فدعت الضرورة الى قبول شهادة النساء منفردات أي لا يكون معهن رجل.
21) وذهب جمع من الفقهاء الى ان شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع اذا كانت الشاهدة مرضية, وممن قال بهذا القول طاووس والزهري والاوزاعي وهو ظاهر مذهب الحنابلة, وهناك رواية اخرى عن الامام احمد بن حنبل ان الشاهدة ان كانت مرضية استحلفت.
والحجة لقبول شهادة المرأة الواحدة ما رواه عقبة بن الحارث انه تزوج ام يحيى بنت ابي اهاب فجاءت امة سوداء فقالت: قد ارضعتكما, قال فذكرت ذلك للنبي ﷺ فأعرض عني, قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: وكيف وقد زعمت عنها قد ارضعتكما فنه اخ عنها, وفي رواية: دعها عنك.
واحتجوا ايضا بما رواه الزهري والاوزاعي من ان عثمان بن عفان رضي الله عنه اخذ بشهادة أمرأه واحدة على الرضاع وحكم بموجبها فقضى التفريق بين اربع الرجال وبين نسائهم بهذه الشهادة. ويبدو ان الاخذ بشهادة امرأة واحدة على الرضاع كان اتجاها سائداً عند القضاة فقد قال الامام الشعبي: كانت القضاة تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع.
22) والذي
اميل الى ترجيحه هو القول بقبول شهادة امرأة واحدة على الرضاع اذا كانت مرضية للحديث الشريف الذي ذكرناه وللأثار الواردة في ذلك, ولكن لو لم يأخذ الحاكم او المفتي بهذا القول ورأى ان الشرط في قبول الشهادة على الرضاع ان تكون رجلين او رجلاً وامرأتين او ارع نسوة, او امرأتين كما روي عن الامام احمد بن حنبل, فان ذلك سائغ ان شاء الله تعالى لان المسالة فيها متسع للاجتهاد السائغ ولا اجماع فيها, والحديث الشريف, حديث عقبة بن الحارث الذي ذكرناه حجة لقبول شهادة المرأة الواحدة, هذا الحديث الشريف غير قاطع في الدلالة على وجوب الاخذ بشهادة المرأة ووقوع التحريم بالرضاع شهادة فقد حمله بعض الفقهاء كالحنفية على الاحتياط والندب لا على سبيل الالزام ووجوب الحكم به, ويدل على ان هذا التأويل من الحنفية سائغ وله وجه ما جاء في الحديث الشريف (فأعرض عني) فقد يقال ان هذا الاعراض من النبي ﷺ في اول الامر يدل على ان الاخذ بشهادة الامرأة الواحدة ليس لازما وانما هو على سبيل الاحتياط, كما ان قول النبي ﷺ (دعها) أي اتركها يحمل على الاحتياط والورع لا الحكم كما قال القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري.
والخلاصة فان الاخذ بشهادة المرأة الواحدة على وجه اللزوم في الافتاء والقضاء
هو الذي اميل الى ترجيحه لظاهر الحديث الشريف مع اعتبار الآراء الاخرى اراء سائغة يجوز الافتاء والقضاء بها ان شاء الله تعالى.
23) ويجب ان تكون الشهادة على الرضاع مفسرة, كما يقولون الحنابلة. لان الرضاع المحرم يختلف الناس فيه, فمنهم من يحرم بالقليل ومنهم لا يحرم الا بالكثير القدر بخمس رضعات او بثلاث, ومنهم من يحرم بعد مضي الحولين من عمر الطفل ومنهم من لا يحرم بعد مضي الحولين, فلزم الشهاد بتبين كيفية وقوع الرضاع وزمانه ليحكم الحاكم باجتهاده.
المسألة السادسة: مدى انتشار الحرمة
24) قلنا ان الرضاع سبب للتحريم المؤبد, ولكن هل تقتصر الحرمة على الرضيع والمرضعة, ام تتعداهما فتسري الى الاخرين من اقاربهما وممن له صلة بهما؟ الجواب على ذلك ان الحديث الشريف يبيّن (ان الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) وفي ضوء هذا الحديث وامثاله يبيّن الفقهاء مدى انتشار الحرمة بين الرضيع وغيره, ونوجز ذلك بما يلي:
اولا: يصير الرضيع ابنا للمرضعة ولزوجها وهي امه من الرضاعة وهو ابوه من الرضاعة , فيحرم عليه الزواج بها لأنه امه من الرضاعة, ويحل له النظر اليها بعد صيرورته رجلاً والسفر بها والخلوة بها لأنها امه, ولكن لا تثبت جميع احكام الامومة او الابوة الثانية بطريق النسب. فلا يجري التوارث بينهما مثلا, ولا تجب النفقة الشرعية بينهما, أي بين الرضيع وبين ابويه من الرضاعة.
ثانيا: اولاده – أي اولاد الرضيع – من البنين والبنات يعتبرون اولاد واولادهما – أي اولاد اولاد المرضعة وزوجها – وان نزلت درجتهم.
ثالثا: جميع اولاد المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع اولاد زوجها منها ومن غيرها يعتبرون اخوة الرضيع اخواته.
رابعا: اولاد اولاد المرضعة يعتبرون اولاد اخوته واخواته وان نزلت درجتهم.
خامسا: ام المرضعة تعتبر جدته, وابوها يعتبر جده, واخوتها يعتبرون اخواله, واخواتها خالاته.
سادسا: ابو زوج المرضعة يعتبر جد الرضيع, وامه – أي ام ابي زوج المرضعة جدته, واخوته اعمامه واخواته عماته.
سابعا: جميع اقارب المرضعة وزوجها ينتسبون الى الرضيع كما ينتسبون الى ولدها من النسب, ثم ينظر ما يحرم من النسب يحرم نظيره من الرضاعة.
ثامنا: بالنسبة للرضيع قلنا ان الحرمة تنتشر اليه والى اولاده وان نزلوا, ولكن لا تنتشر الى من في درجته من اخواته واخوته ولا الى اعلى منه كأبيه وأمه وأعمامه وعماته واخواله وخالاته واجداده وجداته فلا يحرم على المرضعة نكاح ابي الطفل النسبي, ولا يحرم على زوج المرضعة ان ينكح ام الرضيع من النسبة ولا عمته ولا خالته ولا اخته من النسب.
تاسعا: يجوز لأولاد المرضعة واولاد زوجها ان يتزوجوا اخوة الرضيع واخواته من النسب لأنه ليس منهم رضاع ولا نسب.
25) وفي ضوء ما تقدم يعرف ما يحرم سبب الرضاع, وما لا يحرم به وان ظن انه يحرم لأول وهلة.
الحكمة في التحريم بسبب الرضاع
26) والحكمة في التحريم بسبب الرضاع ان الرضيع يكون بدمه او بعضه بلبن المرضعة. واللبن جزء منها, فكأنه بهذا الارتضاع صار كولدها النسبي جزء منها, ولهذا جاءت الاحاديث الشريفة تشير الى ان الرضاع المحرم هو الذي يكون في الصغر ولتحقيق الاحكام وبسد جوعة الطفل ويثبت به لحمه وينشز عظمه. هذه من الناحية المادية التي اشارت اليها الاحاديث, وهناك شيء معنوي دعا الى التحريم ذلك ان الرضاع من اعظم مظاهر الامومة والام حقها التكريم والتبجيل. فاذا وجد هذا المظهر وهو ارضاع لطفل ليس طفل المرضعة النسبي فان هذا يستحق ان يجعل الرضيع كالابن النسبي للمرضعة من حيث التكريم والتبجيل وحرمة النكاح بها, ثم ينسحب ذلك الى من لهم صلة بها وبه على النحو الذي ذكرناه.
ومما يدل على هذا الشيء المعنوي ما ذهب اليه بعض الفقهاء من ان رضاع الكبير يحرم كرضاع الصغير ومن المعلوم ان رضاع الكبير لا يثبت به لحمه ولا تنشز عظامه لأنه يجد كفايته بغير الرضاع والله تعالى اعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
الدكتور عبدالكريم زيدان |