المؤلفات --> البحوث الفقهية
مسائل في الرَّضَاع
مسائل في  الرَّضَاع بحث كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان ونشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية ‏بعددها الثالث من عام 1396هـ/ 1976م وطبع بكراس منفصل في نهاية ‏السبعينيات.‏ تمهيد 1) من شروط انعقاد النكاح وصحته ان تكون المرأة محلاً له بان لا تكون محرمة ‏على الرجل حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة وهذه الحرمة لا تزال قائمة. وأسباب ‏التحريم على التأبيد ثلاثة: القرابة, والمصاهرة, والرضاعة, وكلامي في هذا ‏البحث الموجز هو عن الرضاع دون غيره من أسباب التحريم المؤبد.‏ 2) والرضاع عند الفقهاء وصول لبن المرأة الى جوف الطفل بالتقامه ثدي المرأة ‏وامتصاصه اللبن منه او ما يقوم مقام الارتضاع بشروط معينة سنذكرها فيما ‏بعد, قاذا ارتضع الطفل من امرأة صار ابنا لها وصارت اما له من الرضاعة وحرم ‏عليه نكاحها كما يحرم عليه نكاح امه من النسب.‏ 3) والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة واجماع الفقهاء, ‏اما الكتاب فقد جاء فيه قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ‏وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم ‏مِّنَ الرَّضَاعَةِ).‏ فالأمهات والاخوات من الرضاعة محرمات كالأمهات والاخوات من النسب. وفي ‏السنة النبوية الشريفة ورد قوله ﷺ (يحرم من  الرَّضَاعِ ما يحرم من النسب).‏ وقد اجمع الفقهاء على التحريم بالرضاع ولم يخالف احد في اصل هذا التحريم ‏وان اختلفوا في بعض مسائله وجزيئاته.‏ 4) واذا كان الرضاع من اسباب التحريم فمن الضروري للمسلم او من المفيد له ان ‏يعرف شروطه ومتى تقع الحرمة به ليكون على بينة من ذلك فلا يقع في ‏المحظور, ولهذا رأيت من النافع ان شاء الله تعالى أن اذكر بعض مسائل الرضاع ‏البارزة على وجه الايجاز دون التفصيل ولا الاحاطة بجميع جزيئات هذا الموضوع.‏ المسألة الاولى: الرضاع المحرم 5) واذا كان الرضاع محرما أي سببا للتحريم فما مقدار هذا الرضاع المحرم؟ اختلف ‏الفقهاء في ذلك ويمكن رد اختلافهم الى قولين:‏ القول الاول:‏ ويقول اصحاب هذا القول الاول ان قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم وقد ‏روي هذا القول عن علي بن ابي طالب وعبدالله بن مسعود وابن عمر وابن ‏عباس رضي الله عنهم, وبه قال الامام ابو حنيفة واصحابه, والامام مالك ‏واصحابه, والثوري والاوزاعي والليث وهو احدى الروايات عن احمد ابن حنبل ‏رحمهم الله تعالى.‏ والحجة بهذا القول قول الله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ ‏الرَّضَاعَةِ)‏. وقول الرسول الكريم ﷺ (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ‏وجه الاستدلال بالآية والحديث ان الرضاعة وردت فيه مطلقة غير مقيدة بقدر ‏محدود ولا بكثرة ولا قلة فيستوي قليل الرضاع وكثيره في التحريم.‏ القول الثاني:‏ 6) لا يثبت التحريم باي رضاع بل لا بد من قدر محدود منه, واصحاب هذا القول ‏اختلفوا في هذا المقدار المحدود.‏ فذهب داود وابن المنذر وابو ثور رحمهم الله تعالى الى ان المحرم من الرضاع ‏هو ثلاث رضعات اما ما دون ذلك فلا يحرم, والحجة لهذا المذهب الحديث ‏الشريف (لا تحرم الرضعة او الرضعتان او المصة أو المصتان)‏ ‏ واحاديث اخرى ‏وردت بهذا المعنى‏, وجه الاستدلال بهذه الاحاديث الشريفة انها دلت على ‏ان الرضعات الثلاث فما فوق يحرمن, وهذا الاستدلال تعلق بدليل الخطاب أي ‏بمفهوم المخالفة.‏ 7) وقال اخرون لا يثبت التحريم الا بخمس رضعات متفرقات. وروى هذا عن ‏الصديقة عائشة وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم. وعطاء ‏وطاووس والشافعي واحمد ابن حنبل رحمهم الله تعالى هو المعتمد من ‏مذهب الحنابلة كما ذكر ابن قدامة في المغني. والحجة لهذا القول حديث ‏عائشة رضي الله عنها الذي دل على ان الرضاع هو خمس رضعات.‏ الراجح من القولين 8) والذي اميل الى ترجيحه هو قول القائلين بأن المحرم هو خمس رضعات فما ‏فوق لان الحديث – حديث عائشة رضي الله عنها – نص على ان المحرم ‏خمس رضعات فهو أولى بالأخذ من حديث (لا تحرم الرضعة او الرضعتان...) ‏لأنه دلّ على التحريم بثلاث رضعات بدليل الخطاب وحديث عائشة دلّ على ان ‏المحرم هو خمس رضعات, والنص مقدم على دليل الخطاب كما هو مقرر في ‏اصول الفقه. كما ان ما احتج به للقول الاول لا يدفع ما رجحناه لان السنة ‏النبوية تقيد مطلق القرآن الكريم وتبين المراد منه وقد بينت ان المقصود ‏بالرضاع المحرم هو خمس رضعات. والحنفية انفسهم – رحمهم الله – وهم ‏القائلون بان قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم, قالوا (ان الشرع علق ‏الحرمة في باب الرضاعة بمعنى التغذي على ما نطقت به الاحاديث)‏ ‏ فكيف ‏يتحقق التغذي بالقطرة او القطرات من اللبن يمتصها الرضيع حتى يتحقق ‏التحريم بها؟ مقدار الرضعة 9) واذا كان الرضاع المحرم خمس رضعات فما فوق, فما مقدار الرضاعة الواحدة؟ ‏الواقع ان الرضعة وردت مطلقة في الاحاديث الشريفة ولم تحدها بمقدار معين ‏فدل ذلك على ان الشرع ترك تحديدها للعرف كما هو الشأن فيما لا يحدده ‏الشرع, والعرف يقضي – كما الشافعية رحمهم الله تعالى – بأن الطفل اذا ‏أرتضع من ثدي المرأة ثم قطع الرضاع باختياره دون عارض كان ذلك رضعة ‏واحدة, فاذا عاد الى الرضاع مرة اخرى كان رضعة أخرى. وكذلك اذا قطع ‏الرضاع لضيق نفس او للانتقال من ثدي الى ثدي أو لشيء يلهيه ثم رجع الى ‏الارتضاع كان الجميع رضعوا واحدة ايضاً, اما اذا قطعت المرضعة عليه الرضاع ‏فعند الشافعي وجهان (الاول) ان ذلك ليس برضعة لأنه قطع عن الرضاع بغير ‏اختياره (والثاني) انه يعتبر رضعة. وقال الحنابلة في مقدار الرضعة بنحو ما قاله الشافعية. السَّعُوطُ و الوَجُورُ 10) السَّعُوطُ عند الفقهاء صبّ اللبن في انف الطفل من أناء او غيره, و الوَجُورُ صب ‏اللبن في حلق الطفل من دون امتصاصه لثدي المرأة. فهل يعتبر السعوط ‏والوجور بمنزلة الارتضاع من ثدي المرأة؟ 11) ذهب بعض الفقهاء الى انهما ليسا كالارتضاع لان التحريم يقع بالرضاع وهو ‏امتصاص الطفل لثدي المرأة ووصول لبنها الى جوفه من هذا الطريق, ولا ‏يسمى السَّعُوطُ و الوَجُورُ , رضاعا فيما يتعلق به التحريم.‏ 12) وذهب الاكثرون الى انهما كالارتضاع من ثدي المرأة فيتعلق بهما التحريم, ‏وهذا مذهب الحنفية والشافعية واصح الروايتين في مذهب الحنابلة وهو قول ‏الشعبي والثوري, وبه قال الامام مالك في الوجور دون السعوط. واحتج اصحاب ‏هذا القول بما رواه عبدالله بن مسعود عن النبي ﷺ (لا رضاع إلا ما أنشر ‏العظم وأنبت اللحم) فدل هذا الحديث الشريف على ان المؤثر التحريم هو ‏حصول الغذاء باللبن وانبات اللحم وانشاز العظم وهذا كله يحصل بالسعوط ‏والوجور كما يحصل بالارتضاع المباشر من ثدي المرأة فيجب ان يتساووا جميعا ‏في الحكم أي التحريم.‏ 13) واذا كان السَّعُوطُ و الوَجُورُ كالرضاع في الحكم فما مقدارهما الذي يتعلق به ‏التحريم؟ القائلون بان قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم يقولون ذلك ايضا ‏في السعوط والوجور لان المنظور اليه وصول اللبن الى جوف الطفل عن طريق ‏مباشر بالامتصاص من ثدي المرأة او بصب اللبن فب انف الطفل او حلقه, فإذا ‏وصل اللبن الى جوف الطفل ولو كان قليلاً وقع التحريم به.‏ 14) أما المشترطون خمس رضعات, فأنهم يشترطون نفس هذا العدد في السعوط ‏والوجور, والمنظور اليه في ضبط هذا العدد وهو صب اللبن في فم الطفل او ‏انفه في خمس اوقات متفرقة دون نظر الى كيفية حلب لبن المرأة او اوقاته ‏عند الحنابلة, ولهذا لو حلب لبن المرأة في أناء دفعة واحدة ثم صب في فم ‏الطفل دفعة واحدة كان ذلك رضعة واحدة, وكذلك لو سقى الطفل هذا اللبن ‏المجموع جرعة جرعة فانه يعتبر رضعة واحدة. عند الشافعية المنظور اليه في ‏ضبط عدد الرضعات الاعتيادية في السعوط والوجور هو خروج اللبن من ثدي ‏المرأة وليس صبه في فم الطفل او انفه, وعلى هذا لو جلب لبن المرأة في ‏اناء دفعة واحدة ثم سقى الطفل هذا اللبن في خمسة اوقات فانه يعتبر رضعة ‏واحدة فقط وليس خمس رضعات خلافا للحنابلة. والراجح هو قول الحنابلة لات ‏الاعتبار ينبغي ان يكون بشرب الطفل او ما يدخل في جوفه من لبن المرأة لا ‏بما يخرج من ثديها, فلو شرب الطفل اللبن دفع واحدة او بجرعات متتالية, او ‏مصه من قارورة يمكن امتصاص اللبن منها كالتي تستعملها بعض الامهات ‏لأطفالهن, فان ذلك كله يعتبر رضعة واحدة عرفا وان كان ذلك اللبن حلب من ‏ثدي المرأة في خمسة اوقات.‏ المسألة الثانية: اختلاط اللبن بغيره 15) واذا خلط لبن المرأة بماء او دواء وصب في فم الطفل فهل يكون هذا اللبن ‏المشوب كاللبن المحض في التحريم؟ يُنظر: فان كان اللبن هو الغالب وبقيت صفاته ظاهرة كان اللبن المحض في ‏التحريم لان ما اختلط به ماء او دواء لم يخل بصبغة اللبن وصيرورته غذاء وانما ‏يسهل وصوله الى انحاء الجسم, ثم ان اللبن بانفراده يحرم فمنع هذه الاشياء ‏مع بقاء اللبن غالبا ظاهر الصفات اولى.‏ ‏ أما اذا كان الماء او الدواء هو الغالب وكان اللبن هو المغلوب بأن ذهبت اوصافه ‏لم تثبت الحرمة بهذا الخليط اذا شربه الطفل لان اللبن اذا صار مغلوبا صار ‏مستهلكا فلا يقع به التغذي فلا تثبت به الحرمة, وما قلناه هو مذهب الحنفية ‏والحنابلة.‏ وقال الشافعية اللبن المشوب بغيره كاللبن المحض الذي لا يخالطه سواه, ‏حتى لو صب في ماء كثير لم يتغير به ولم تبق معه صفات اللبن فأن التحريم ‏يثبت اذا شربه الطفل ويحتجون بأن اجزاء اللبن حصلت في بطن الطفل فأشبه ‏ما لو كان ظاهرا, ولان ما تعلق به التحريم ان كان غالبا تعلق به ان كان مغلوبا.‏ 16) والراجح قول الحنفية والحنابلة لما احتجوا به ولان اعتبار الغالب والحاق ‏المغلوب بالعدم أصل في الشرع فيجب اعتباره في مسألة اختلاط أو خلط ‏اللبن بالماء او الدواء, ولان الشرع – كما يقول الحنفية – علق الحرمة في باب ‏الرضاع بمعنى التغذي كما ورد في الاحاديث الشريفة, واللبن المشوب بالماء ‏اذا كان – أي اللبن- مغلوبا لا يحصل التغذي به لزوال قوته لهذا لا يقع الاكتفاء ‏به في تغذية الطفل فلا يقع به التحريم.‏ المسألة الثالثة: وقت الرضاع 17) ذهب جماهير الفقهاء من السلف والخلف الى ان الرضاع المحرم هو الذي يقع ‏في دور الطفولة و وقدر ذلك بالعامين الاوليين من عمر الطفل ‎ ‎ و فاذا وقع ‏الرضاع بعد العاميين لم يكن محرما. وممن قال هذا القول الشافعية والحنابلة ‏وابو يوسف ومحمد صاحبا ابي حنيفة والشعبي والاوزاعي, وروي هذا القول ‏عن الصحابة الكرام منهم عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ‏وغيرهم.‏ والحجة لهذا القول من وجوه كثيرة, (منها) قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ ‏أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) , وجه الاستدلال بهذه الآية ‏الكريمة انها دلت على ان تمام الرضاعة يكون بتمام الحولين فلا حكم للرضاعة ‏بعد الحولين. (ومنها) الحديث الشريف (انما الرضاعة من المجاعة) وهذا يدل ‏على ان الرضاع في الصغر هو المحرم اذ هو الذي يدفع الجوع, وقد دلت الآية ‏الكريمة على ان الصغر في الرضاعة ينتهي بانتهاء العامين كما دل على ذلك ‏الحديث الشريف (لا  رَضَاعَ الا ما كان في الحولين).‏ 18) ويبقى الاعتبار بالعامين, وهما وقت الرضاع المحرم, حتى لو فطن الطفل قبل ‏مضيهما أو مضي الحولين ثبت التحريم بهذا الرضاع لوقوعه في وقته, ولو لم ‏يفطم حتى لو تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم, ‏فالاعتبار اذن للوقت لا للفطام لان دلائل الشرع دلت على ان الرضاع المحرم ‏ما كان في الصغر الذي حدد بالسنتين من غير قصل بين ما اذا فطم او لم ‏يفطم.‏ المسالة الرابعة: الشك في الرضاع 19) اذا حصل شك في وقوع الرضاع او في عدد الرضعات, اخذنا باليقين وطرحنا ‏الشك لان اليقين لا يزول بالشك, وهو ان اليقين بالنسبة لوقوع اصل الرضاع ‏عدم وقوعه, وبالنسبة لعدد الرضعات هل هي اربع او خمس مثلا باليقين وهو ‏اربع وطرحنا الخامسة المشكوك فيها.‏ المسالة الخامسة: الشهادة على الرضاع 20) ويثبت الرضاع بالشهادة بلا خلاف بين الفقهاء ولكنهم اختلفوا في نصابها ‏المعتبر, فعند الحنفية لا يثبت الرضاع بالشهادة الا اذا تم نصابها وهو في هذا ‏الباب رجلان او رجل وامرأتان, ولا يقبل اقل من ذلك ولا شهادة النساء ‏بانفرادهن, وعند الشافعي تقبل شهادة اربع نسوة لأنها شهادة على عورة اذ ‏لا يمكن تحمل الشهادة الا بعد النظر الى الثدي وهو عورة فيقبل فيه الشهادة ‏على الانفراد أي شهادة النسوة وحدهن وحدّه بأربع نسوة.‏ ويرد الحنفية على حجة الشافعية بأن الرضاع مما يمكن ان يطلع عليه الرجال ‏من حيث الجهة اذ يمكن لمحارم المرضعة ان يروا ثديها, وحيث امكن ذلك من ‏حيث الجهة انتفت الضرورة التي دعت الى قبول شهادة النساء وحدهن لان ‏قبول شهادتهن منفردات للضرورة والضرورات تقدر بقدرها وهذا بخلاف الولادة ‏فانه لا يجوز لاحد فيها من الرجال الاطلاع عليها فدعت الضرورة الى قبول ‏شهادة النساء منفردات أي لا يكون معهن رجل.‏ 21) وذهب جمع من الفقهاء الى ان شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع اذا ‏كانت الشاهدة مرضية, وممن قال بهذا القول طاووس والزهري والاوزاعي وهو ‏ظاهر مذهب الحنابلة, وهناك رواية اخرى عن الامام احمد بن حنبل ان ‏الشاهدة ان كانت مرضية استحلفت.‏ والحجة لقبول شهادة المرأة الواحدة ما رواه عقبة بن الحارث انه تزوج ام يحيى ‏بنت ابي اهاب فجاءت امة سوداء فقالت: قد ارضعتكما, قال فذكرت ذلك للنبي ‏ﷺ فأعرض عني, قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: وكيف وقد زعمت عنها ‏قد ارضعتكما فنه اخ عنها, وفي رواية: دعها عنك.‏ واحتجوا ايضا بما رواه الزهري والاوزاعي من ان عثمان بن عفان رضي الله عنه ‏اخذ بشهادة أمرأه واحدة على الرضاع وحكم بموجبها فقضى التفريق بين اربع ‏الرجال وبين نسائهم بهذه الشهادة. ويبدو ان الاخذ بشهادة امرأة واحدة على ‏الرضاع كان اتجاها سائداً عند القضاة فقد قال الامام الشعبي: كانت القضاة ‏تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع.‏ 22) والذي اميل الى ترجيحه هو القول بقبول شهادة امرأة واحدة على الرضاع اذا ‏كانت مرضية للحديث الشريف الذي ذكرناه وللأثار الواردة في ذلك, ولكن لو لم ‏يأخذ الحاكم او المفتي بهذا القول ورأى ان الشرط في قبول الشهادة على ‏الرضاع ان تكون رجلين او رجلاً وامرأتين او ارع نسوة, او امرأتين كما روي عن ‏الامام احمد بن حنبل, فان ذلك سائغ ان شاء الله تعالى لان المسالة فيها ‏متسع للاجتهاد السائغ ولا اجماع فيها, والحديث الشريف, حديث عقبة بن ‏الحارث الذي ذكرناه حجة لقبول شهادة المرأة الواحدة, هذا الحديث الشريف ‏غير قاطع في الدلالة على وجوب الاخذ بشهادة المرأة ووقوع التحريم بالرضاع ‏شهادة فقد حمله بعض الفقهاء كالحنفية على الاحتياط والندب لا على سبيل ‏الالزام ووجوب الحكم به, ويدل على ان هذا التأويل من الحنفية سائغ وله وجه ‏ما جاء في الحديث الشريف (فأعرض عني) فقد يقال ان هذا الاعراض من ‏النبي ﷺ في اول الامر يدل على ان الاخذ بشهادة الامرأة الواحدة ليس لازما ‏وانما هو على سبيل الاحتياط, كما ان قول النبي ﷺ (دعها) أي اتركها يحمل ‏على الاحتياط والورع لا الحكم كما قال القسطلاني في شرحه لصحيح ‏البخاري.‏ والخلاصة فان الاخذ بشهادة المرأة الواحدة على وجه اللزوم في الافتاء ‏والقضاء  هو الذي اميل الى ترجيحه لظاهر الحديث الشريف مع اعتبار الآراء ‏الاخرى اراء سائغة يجوز الافتاء والقضاء بها ان شاء الله تعالى.‏ 23) ويجب ان تكون الشهادة على الرضاع مفسرة, كما يقولون الحنابلة. لان الرضاع ‏المحرم يختلف الناس فيه, فمنهم من يحرم بالقليل ومنهم لا يحرم الا بالكثير ‏القدر بخمس رضعات او بثلاث, ومنهم من يحرم بعد مضي الحولين من عمر ‏الطفل ومنهم من لا يحرم بعد مضي الحولين, فلزم الشهاد بتبين كيفية وقوع ‏الرضاع وزمانه ليحكم الحاكم باجتهاده.‏ المسألة السادسة: مدى انتشار الحرمة 24) قلنا ان الرضاع سبب للتحريم المؤبد, ولكن هل تقتصر الحرمة على الرضيع ‏والمرضعة, ام تتعداهما فتسري الى الاخرين من اقاربهما وممن له صلة بهما؟ ‏الجواب على ذلك ان الحديث الشريف يبيّن (ان الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) ‏وفي ضوء هذا الحديث وامثاله يبيّن الفقهاء مدى انتشار الحرمة بين الرضيع ‏وغيره, ونوجز ذلك بما يلي:‏ اولا: يصير الرضيع ابنا للمرضعة ولزوجها وهي امه من الرضاعة وهو ابوه من ‏الرضاعة , فيحرم عليه الزواج بها لأنه امه من الرضاعة, ويحل له النظر اليها بعد ‏صيرورته رجلاً والسفر بها والخلوة بها لأنها امه, ولكن لا تثبت جميع احكام ‏الامومة او الابوة الثانية بطريق النسب. فلا يجري التوارث بينهما مثلا, ولا تجب ‏النفقة الشرعية بينهما, أي بين الرضيع وبين ابويه من الرضاعة. ثانيا: اولاده – أي اولاد الرضيع – من البنين والبنات يعتبرون اولاد واولادهما – ‏أي اولاد اولاد المرضعة وزوجها – وان نزلت درجتهم.‏ ثالثا: جميع اولاد المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع اولاد زوجها منها ومن ‏غيرها يعتبرون اخوة الرضيع اخواته.‏ رابعا: اولاد اولاد المرضعة يعتبرون اولاد اخوته واخواته وان نزلت درجتهم.‏ خامسا: ام المرضعة تعتبر جدته, وابوها يعتبر جده, واخوتها يعتبرون اخواله, ‏واخواتها خالاته.‏ سادسا: ابو زوج المرضعة يعتبر جد الرضيع, وامه – أي ام ابي زوج المرضعة ‏جدته, واخوته اعمامه واخواته عماته.‏ سابعا: جميع اقارب المرضعة وزوجها ينتسبون الى الرضيع كما ينتسبون الى ‏ولدها من النسب, ثم ينظر ما يحرم من النسب يحرم نظيره من الرضاعة.‏ ثامنا: بالنسبة للرضيع قلنا ان الحرمة تنتشر اليه والى اولاده وان نزلوا, ولكن لا ‏تنتشر الى من في درجته من اخواته واخوته ولا الى اعلى منه كأبيه وأمه ‏وأعمامه وعماته واخواله وخالاته واجداده وجداته فلا يحرم على المرضعة نكاح ‏ابي الطفل النسبي, ولا يحرم على زوج المرضعة ان ينكح ام الرضيع من ‏النسبة ولا عمته ولا خالته ولا اخته من النسب.‏ تاسعا: يجوز لأولاد المرضعة واولاد زوجها ان يتزوجوا اخوة الرضيع واخواته من ‏النسب لأنه ليس منهم رضاع ولا نسب.‏ 25) وفي ضوء ما تقدم يعرف ما يحرم سبب الرضاع, وما لا يحرم به وان ظن انه ‏يحرم لأول وهلة.‏ الحكمة في التحريم بسبب الرضاع 26) والحكمة في التحريم بسبب الرضاع ان الرضيع يكون بدمه او بعضه بلبن ‏المرضعة. واللبن جزء منها, فكأنه بهذا الارتضاع صار كولدها النسبي جزء منها, ‏ولهذا جاءت الاحاديث الشريفة تشير الى ان الرضاع المحرم هو الذي يكون ‏في الصغر ولتحقيق الاحكام وبسد جوعة الطفل ويثبت به لحمه وينشز عظمه. ‏هذه من الناحية المادية التي اشارت اليها الاحاديث, وهناك شيء معنوي دعا ‏الى التحريم ذلك ان الرضاع من اعظم مظاهر الامومة والام حقها التكريم ‏والتبجيل. فاذا وجد هذا المظهر وهو ارضاع لطفل ليس طفل المرضعة النسبي ‏فان هذا يستحق ان يجعل الرضيع كالابن النسبي للمرضعة من حيث التكريم ‏والتبجيل وحرمة النكاح بها, ثم ينسحب ذلك الى من لهم صلة بها وبه على ‏النحو الذي ذكرناه.‏ ومما يدل على هذا الشيء المعنوي ما ذهب اليه بعض الفقهاء من ان رضاع ‏الكبير يحرم كرضاع الصغير ومن المعلوم ان رضاع الكبير لا يثبت به لحمه ولا ‏تنشز عظامه لأنه يجد كفايته بغير الرضاع والله تعالى اعلم.‏   وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.‏ الدكتور عبدالكريم زيدان
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
https://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
https://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=135