المؤلفات --> مقالات
رد على مقال (العودة الى الشريعة الاسلامية مسالة تشغل البال)
رد على مقال (العودة الى الشريعة الاسلامية مسالة تشغل البال)
في سبعينيات القرن الماضي نشر الدكتور محمد احمد خلف الله (اديب مصري) مقالاً بعنوان (العودة الى الشريعة الاسلامية مسالة تشغل البال) انكر فيه اعتبار السنة النبوية الشريفة مصدرا من مصادر التشريع وبين كذلك رفضه لمطالب الداعين الى عودة الشريعة الاسلامية للصدارة. وقد اثار هذا المقال الغيرة الاسلامية للدكتور عبدالكريم زيدان فكتب ردا عليه نُشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية.
بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان
تمهيد
1) الملاحظ في الوقت الحاضر كثرة الكتابة عن الشريعة الاسلامية ممن لا خبرة لهم بها ولا معرفة بأصولها, وكل معلوماتهم عنها هو ما تلقفوه من هنا وهناك وما استحسنوه بعقولهم أو ما تخيلوه وتوهموه عن الشريعة الاسلامية. والواقع ان الكتابة عن الشريعة الاسلامية اصبحت من الامور السهلة الميسورة لهؤلاء. فترى احدهم يخوض في امور الشريعة وكأنه ابو حنيفة, حتى
بلغت الجرأة او الجهالة او الاثنان ببعضهم الى حد القول بان الشريعة الاسلامية يجب ان تكون محل مراجعة جديدة وجدية من جهة مدى ضرورة الالتزام بها وتطبيق احكامها في الوقت الحاضر. واذا انكر عليهم منكر قالوا: ليست الشريعة الاسلامية ولا الكتابة فيها حكراً على طائفة معينة من الناس وانما هي مباحة للجميع لأنها جاءت للجميع. وهذا الجواب فيه ايهام وتلبيس, صحيح ان الكلام مباح للجميع ولكن
بشرط ضروري هو توفر العلم بها فيمن يريد الكلام عنها والبحث فيها, وليس هذا الشرط شرطاً تعجيزيا وانما هو شرط يعترف به الجميع ويقضي به العقل السليم ويلتزم به الكتاب والباحثون في العلوم الاجتماعية, فمن يبحث في اللغة العربية يجب ان يكون على علم كاف بها يمكنه من البحث فيها, ومن يتكلم عن القانون ويبحث فيه يجب ان يكون على دراية ومعرفة كافية به وهكذا في علوم الطب والهندسة والفيزياء وغيرها.
2) واذا كان
العلم المسبق شرطا ضروريا للبحث في أي علم او موضوع فهو اشد ضرورة بالنسبة للبحث في الشريعة الاسلامية والكلام عنها, لان الكلام عن الشريعة الاسلامية دين يحاسب عليه المسلم امام الله تعالى, فاذا كان بغير علم حقت على صاحبه المسؤولية وناله الجزاء العادل.
3) ولا نعلم احداً يعتد به سوغ لنفسه البحث في علم من العلوم وهو جاهل بهذا العلم أو أدعى ان له الحق في الكتابة عنه بحجة انه مباح للجميع وليس حكرا على طائفة معينة. ولكن شرط العلم يهمل ولا يراعى عند البحث في الشريعة الاسلامية, فنرى الكثير ممن لا علم لهم بها يخوضون في مواضيعها وأحكامها ويعطون القرارات الحاسمة بشأنها دون ان يجدوا غضاضة في ذلك ولا تجاوزاً لحدودهم. فهل اصبحت الشريعة الاسلامية كالجدار الواطئ يقفز عليه البارعون في القفز ويصعد عليه الراغبون في الصعود والظهور؟
موضوع الرد
4) وموضوع الرد يتعلق بمقالة اطلعت عليها للدكتور محمد احمد خلف الله وهو كاتب مصري عنوانها
(العودة الى الشريعة الاسلامية مسألة تشغل البال)
, وقد حشر الكاتب فيها أشباء كثيرة هي من قبيل القول الجزاف الذي لا يتفق ومقتضيات البحث العلمي الرصين ولا يقوم على اساس سليم.
5) وانا في هذا الرد لا اقف - للمناقشة والرد – عند كل كلمة او عبارة وردت في مقالته وتستحق الرد, لان هذا أمر يطول ولا تتسع له المجلة, وانما ارد على النقاط البارزة في مقالة الكاتب التي جعلها اصولا لبحثه ومنطلقا للوصول الى ما توهمه عن الشريعة الاسلامية.
المناقشة والرد
6)
(اولا) المسألة الاولى:
قال الكاتب:
(والداعون الى العودة – أي الى الشريعة الاسلامية – يبينون لنا الاسباب التي تدفع بهم الى ذلك ويكاد يحصرونها في سببين:
الاول منهما: ان هذه الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ولكل مكان.
الثاني منهما: ان هذه الشريعة وقد حققت السعادة للأولين لا تزال قادرة على ان تحقق لنا السعادة وتنقذنا مما نحن فيه من التخلف.
ثم قال الكاتب
(ولست أقبل هذه الدعاوي على علاتها وانها عندي في حاجة الى حوار هادئ رزين يكشف عما فيها من حقيقة وعما يتعلق بهذه الحقيقة من زيف...
الرد
7) ان حصر اسباب الدعوة الى العودة الى الشريعة الاسلامية بهذين السببين غير دقيق بل وغير واضح وان ذكره الداعون الى الشريعة او الى العودة اليها.
والصحيح ان يقال ان الشريعة الاسلامية وان كانت صالحة لكل زمان ومكان وتسعد الملتزمين بها, الا ان ذلك ليس هو سبب الدعوة الى العودة اليها, وانما
السبب هو كونها من عند الله ودينه الذي ارتضاه لعباده, والتزم بها المسلم بمقتضى اسلامه التزاما مطلقا كاملا شاملا غير معلق على شرط ولا مقيد بقيد. وهذا لا يمنع من بيان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان وبيان فوائدها وما تقدمه من خير للآخذين بها. ولكن السبب للدعوة اليها هو كونها دين الله كما قلت, والسبب لقبولها او العودة اليها هو هذا السبب نفسه وهو انها دين الله. فأنا اصلي واصوم لان الله امر بذلك وشرعه لا لأن في الصلاة والصيام تزكية للنفس وفوائد صحية واجتماعية وان كان هذا حاصل فعلا واثراً من اثار الصلاة والصيام. وهكذا الأمر في دعوتي للتاركين للصلاة والصيام, أدعوهم الى العودة الى هذه العبادة لأنها شرع الله ومقتضى اسلام المسلم
لا لأن في الصلاة والصيام فوائد صحية واجتماعية. وكذلك ادعو غير المسلم الى الشريعة الاسلامية لأنها دين الله وخطاب الله الى الناس اجمعين ومن واجب المخلوق ان يسمع خطاب الخالق سماع قبول وطاعة ولا أدعوهم الى الشريعة الاسلامية لان فوائدها كذا وكذا وان كانت هذه الفوائد موجودة فعلا ومترتبة على الاخذ بهذه الشريعة.
8)
ان ما ذكرته اصل مهم للغاية وضروري لتصحيح اسلام المسلم ولتصحيح الدوافع التي تدفعه الى الدعوة الى العودة الى الشريعة الاسلامية او قبولها ابتداءً.
(ثانيا) المسالة الثانية:
9) وراح الكاتب يشكك في صلاحية الشريعة الاسلامية لكل زمان ومكان مستدلا بان مصادر الاحكام الشرعية هي القرآن والسنة والاجماع والقياس, وان الاجماع والقياس
(لم يقدما الا الاحكام الشرعية الصالحة لأمكنة وازمان المجتهدين الذين يقيسون ويجمعون ويقدمون لنا اجتهادات بشرية)
وان
(القرآن هو الذي يقدم لنا الاحكام الشرعية التي يمكن الادعاء بصلاحيتها لكل زمان ومكان من حيث انه من عند الله. والحديث النبوي قد يقدم لنا بعضا من ذلك حين يكون بيانا وتوضيحا لما جاء به القرآن الكريم من احكام ... وحتى هذه – أي الاحكام الشرعية الواردة في القران – نجد من الظواهر القرآنية ما يشير الى صحة القاعدة الاصولية التي تقول بتغير الاحكام تبعا لتغير الازمان والاماكن او تبعا لتغير المصالح والمصلحة العامة اساس من اساس التشريع).
المناقشة والرد
10) الاجماع بشروطه المعتبرة حجة شرعية, ولا بد له من مستند شرعي وهذا المستند يجب ان يكون نصاً من القرآن الكريم او حديثاً نبويا, عند جمهور العلماء, ويكون الحكم الذي انعقد عليه الاجماع حكما شرعيا ثابتا واجب الاتباع والبقاء ولا تجوز مخالفته. وجانب الاجتهاد في الاجتماع منصب على دلالة النص على الحكم الشرعي. ولا يقدح في حجية الاجماع مخالفة البعض في حجيته لعدم امكان انعقاده, فالواقع انه ممكن الوقوع وليس مستحيلاً, وقد وقعت اجماعات كثيرة في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
11) اما
القياس بشروطه المعتبرة فهو حجة شرعية وهو
كاشف لحكم الشرع وليس منشئا لحكم جديد فيكون الثابت بطريق القياس الصحيح حكما شرعيا واجب الاتباع والبقاء, ولا يقدح فيما قلناه مخافة البعض في حجية القياس لان الادلة الدالة على حجيته كثيرة وقوية وبها اخذ جمهور العلماء وليس هنا محل تفصيلها. كما لا يقدح في حجية القياس اعتماده على الاجتهاد لان الاجتهاد بشروطه المعتبرة مأذون فيه شرعا فيكون الحكم الذي يتوصل اليه المجتهد بالقياس الصحيح حكما شرعيا صحيحا واجب الاتباع والبقاء لأنه كما قلت كاشف لحكم الشرع لا مثبت لحكم جديد.
12) اما الادعاء بان الاحكام الشرعية الواردة في القرآن تخضع لـ
قاعدة تغير الاحكام بتغير الازمان... الخ فهذا غير صحيح من الكاتب لان نطاق هذه القاعدة هو ا
لاحكام المبينة على العرف والعادة لا الاحكام المبينة على النصوص, نصوص القرآن والسنة, قال الفقيه علي حيدر في شرحه لمجلة الاحكام العدلية وهو يتكلم عن هذه القاعدة (ان الاحكام التي تتغير بتغير الازمان هي الاحكام المستندة على العرف والعادة ... ثم قال ( ونختم قولنا مكررين ان الاحكام الثابتة بناء على النص لا تتغير احكامها لان النص اقوى من العرف).
13) كلام الكاتب عن الحديث النبوي, يرد عليه, ان ما صدر عن النبي ﷺ متعلقا بالتشريع يجب اتباعه سواء كان تأكيدا لما في القرآن او بيانا له او متضمنا حكما لم يرد في القرآن, لان
السنة النبوية وحي الهي بالمعنى فهي كالقرآن من جهة المصدر وتختلف عن القرآن من جهة ان القران لفظه ومعناه من الله تعالى, اما السنة فمعناها من الله واللفظ من الرسول
ﷺ, ولكن كلا من القران والسنة واجب الاتباع والادلة على وجوب اتباع السنة وانها كالقران من هذه الناحية كثيرة جداً منها قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).
14) ولا يجوز تقييد اتباع السنة النبوية بعدم ورود حكم جديد فيها لم يرد في القرآن لان الادلة الدالة على وجوب اتباع ما يصدر عن الرسول ﷺ لا نفرق بين ما يصدر عنه ﷺ
توكيدا لما في القران او بيانا له او انتشاءً لحكم جديد
لم يرد في القرآن, ولان ما يصدر عنه ﷺ مصدره الوحي الالهي كما قلت, وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ انه قال (ألا واني اوتيت القران ومثله معه) وهذا المثل هو السنة النبوية لان مصدرها الوحي كالقرآن.
15) اما ادعاء الكاتب بإمكان تغير احكام القران والسنة بناء على تغير المصلحة بحجة ان المصلحة اساس من اسس التشريع, فهنا الادعاء غير وارد, لان
المصلحة المعتبرة هي التي لا تخالف النصوص ولا تناقضها, لان النصوص بنيت على المصلحة التي قدرها الله تعالى فكيف نغير بناء على مصلحة متوهمة بتقدير الانسان؟ فالمصلحة محل اعتبار في الشريعة ولكن في خارج دائرة النصوص وبشروط مقررة في اصول الفقه ليس هنا محل تفصيلها.
(ثالثا) المسألة الثالثة:
16) ثم قال الكاتب
(القول بصلاحية الشريعة الاسلامية لكل زمان ومكان في حاجة الى مُراجعة. وعندي ان الاصح أن يقال ان المبادئ الاسلامية. مبادئ الحق والعدل والخير العام هي الصالحة لكل زمان ومكان).
ويرد على هذا الادعاء بما يأتي:
17)
أ- القول بحاجة الشريعة الى المراجعة يعني التعقيب عليها بالمناقشة والتصويب والتخطئة والقبول والرفض والاخذ والرد, وكل ذلك لا يجوز لأنه
يناقض اصل الاسلام وجوهره
, لان جوهر اسلام المسلم هو الاستسلام المطلق والخضوع الاختياري الكامل لله رب العالمين, ومظهر ذلك هو الخضوع المطلق للشريعة الاسلامية والسير وراءها لا امامها ولا التعقيب عليها.
18)
ب- المسلم بإسلامه يكون قد اعلن وكشف عن تصديقه التام بان الشريعة الاسلامية من عند الله وانه التزم بها التزاما كاملا فالقول بحاجة الشريعة الى المراجعة يعني التحلل من هذا الالتزام كلاً او بعضاً وهذا لا يجوز.
19)
ج-القول بحاجة الشريعة الى المراجعة
يعني اتهام الشريعة بالقصور والخطأ والنقص, وهذا باطل قطعاً, لان الشريعة من عند الله, والله له الكمال المطلق فما يشرعه يكون كاملاً قطعاً, وهذا واضح, لان كمال الصنعة بكمال الصانع, وحيث ان الله له الكمال المطلق فما شرعه يكون كاملا لا نقص فيه ولا خطأ ولا خللاً فلا يحتاج الى مراجعة.
20)
د- ارسل الله محمداً ﷺ رسولاً الى الناس كافة ورسالته هي الشريعة الاسلامية وهي خاتمة الشرائع السماوية كما انه ﷺ خاتم الرسل, وما شرعه الله للناس كافة في كل زمان ومكان يجب ان يكون صالحا وكافيا لهم في كل زمان ومكان, فالقول بحاجة الشريعة الى المراجعة قول ساقط لمناقضته لمقتضى عموم الشريعة في المكان والزمان.
21)
هـ- ومع ان المسلم يؤمن يقينا بصلاحية الشريعة في كل زمان ومكان, فهذا لا يمنع من بيان صلاحيتها فعلاً ليزداد المسلم ايمانا ويزول الشك عن الشاكين, فنقول على وجه الاختصار والايجاز, ان الاحكام الواردة في الشريعة الاسلامية يمكن ردها الى انواع:
النوع الاول – ما يتعلق بالعقيدة الاسلامية.
النوع الثاني – ما يتعلق بالأخلاق.
النوع الثالث – ما يتعلق بالعبادات.
النوع الرابع – ما يتعلق بالمعاملات.
22)
فيما يتعلق بالعقيدة الاسلامية كوجوب الايمان بالله تعالى وباليوم الاخر وبالحساب ونحو ذلك, هو في الحقيقة اخبارات عن حقائق ثابتة قام الدليل القاطع على صدقها,
والشأن بالمسلم ان يكون قد فرغ وانتهى من الايمان بها والا كيف صار مسلما؟ والحقائق الثابتة القاطعة هي اقوى من البديهيات, فلا يمكن ان تكون محل مراجعة او تصبح غير صالحة في زمان ما. فلا يتصور ان يأتي زمان يمكن ان يقول فيه عاقل ان الايمان بالله مسألة لم تعد صالحة او انه غير صحيحة او انها محل شك. بل ان تقدم العلوم والكشوف تزيد هذه الحقيقة – الايمان بالله – رسوخاً وثباتا ووضوحا.
23)
اما ما يتعلق بالأخلاق, فلا احسب احداً يريد الخير لنفسه ولمجتمعه يجادل في ضرورة الاخلاق للإنسان, قلا يزال الصدق والوفاء والعدل وتحريم الظلم ونحو ذلك معاني فاضلة وعالية وصالحة بل وضرورية لكل انسان سوي. ويكفي ان نقول هنا ان المتحللين من الاخلاق الفاضلة لا يجرؤن على الاعلان عن تحللهم هذا بل ينكرونه لما يعلمونه من استقرار حسن الاخلاق الفاضلة في النفوس.
فالإسلام في تأكيده على الاخلاق لم يكن مبالغا. ولا يتصور ان يأتي زمان يقال فيه بوجوب او ندب هذه الاخلاق. فصلاحية ما جاء في الشريعة الاسلامية بشأن الاخلاق له صفة البقاء والاستمرار قطعا.
24)
اما فيما يتعلق بالعبادات كالصلاة والصيام والحج والزكاة, فالقول الجامع فيها انها تنظم علاقة المخلوق بخالقه, فالأنسان بحكم انه مخلوق لله يكون عليه واجب العبادة لله ويكون لله عليه حق العبادة, وصاحب الحق وهو الله نظم صيغ واشكال هذه العبادة بالكيفيات الواردة في الشريعة الاسلامية, وما دام الانسان في أي زمان ومكان يبقى مخلوقا لله فيبقى عليه واجب العبادة لله على النحو الذي شرعه له. ثم ان هذه العبادات تحقق الخير والنفع للفرد العابد ولمجتمعه, اما بالنسية للعابد نفسه فبتزكية نفسه واطمئنانه وبوفائه بحق الله عليه وبظفره برضوانه, واما بالنسبة لمجتمعه فان العابد الذي زكت نفسه بالعبادة يصير اداة خير ونفع في المجتمع, لا يصدر منه شر ولا فساد, وفي هذا نفع اكيد للمجتمع, ويكفي ان اذكر هنا قول الله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) فالمصلي القائم بعبادة ربه تنقمع في نفسه نوازع الشر فلا تصدر عنه فحشاء ولا منكرات, وكم يكون المجتمع سعيداً اذا زادت فيه هذه النماذج البشرية التي لا يصدر عنها فساد ولا ظلم ولا شر, فهل يمكن لمنصف ان يقول ان احكام العبادات في الشريعة الاسلامية لم تعد صالحة في زماننا او تكون محل مراجعة؟
25)
اما فيما يتعلق بالمعاملات أي في علاقات الافراد والجماعات فيما بينهم أي في روابطهم التي تخضع لما يسمى اليوم بروابط القانون العام الخاص والعام, فان
هذه الاحكام جاءت بأشكال متنوعة:
أ- اما على شكل
مبادئ وقواعد عامة
مثل مبدأ العدل قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ومثل مبدأ الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) ومثل العقوبة بقدر الجريمة, قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا), ومثل تحريم الاضرار بالناس, قال ﷺ (لا ضرر ولا ضرار) ومثل مبدأ قصر المسؤولية على من قام فيه سببها قال تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) الى غير ذلك من المبادئ والقواعد العامة.
ب-او تأتي الاحكام الشرعية
مجملة وتفصلها السنة
النبوية كالأمر بالصلاة وجاءت السنة ففصلت وبينت كيفية الصلاة.
ج- او تأتي الاحكام الشرعية بشكل
تفصيلي
مثل الطلاق وانصبة الورثة وعقوبات الحدود ونحو ذلك.
د- وما لم ينص على حكمه صراحة فان حكمه يعرف عم طريق تفهم النصوص واشاراتها, او عن طريق
تفهم علل الاحكام والاخذ بالقياس شروطه, او بالاجتهاد الصحيح
حسب القواعد المرسومة له, او عن طريق الاستصحاب وغير ذلك مما هو معروف في اصول الفقه.
26) والاحكام التي ذكرناها والمنصوص عليها بأشكالها المختلفة كلها صالحة في كل زمان ومكان, فالمبادئ العامة التي جاءت بها الشريعة لا يمكن لاحد الجدال فيها. اما الاحكام التفصيلية التي فصلها القرآن او السنة ابتداء, او التي جاءت مجملة في القرآن وفصلتها السنة, فهي عند التأمل فيها نجدها صالحة في أي ميزان وزنتها, فالعقوبات الشرعية التي يجادل فيها الكثيرون قائمة على اساس قواعد العدالة ومحققة الاطمئنان للناس لما فيها من قابلية الردع وازجر. ومسائل الاسرة جاءت احكامها على نحو يحقق استقرارها وسلامة بنيانها, والمعاملات المالية قامت على اساس العدل وعدم الغبن والظلم, ولا ضيق المجال لأتيت على كل حكم تفصيلي وبينت صلاحيته على وجه يقنع كل منصف مريد للحق والصواب.
27) واما المسائل غير المنصوص على حكمها صراحة فان الشريعة الاسلامية اشارات ودلت على طريق معرفة أحكامها حسبما بينه علماؤنا رحمهم الله تعالى.
28)
اما ادعاء الكاتب بان الاصح ان يقال ان المبادئ الاسلامية مبادئ الحق والخير والعدل هي الصالحة لكل زمان ومكان
فالجواب على هذا الادعاء من وجوه
(الوجه الاول)
هذا الادعاء يعني ان احكام الشريعة التفصيلية سواء منها ما تعلق بالمعاملات او بالعبادات غير صالحة لكل زمان ومكان وهذا باطل قطعا, لان هذه الاحكام مثل المبادئ العامة كلها من عند الله وواجبة التنفيذ ولا يسع المسلم ان يأخذ البعض وينبذ البعض الآخر, قال تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ).
(الوجه الثاني) الاحكام التفصيلية التي جاءت في الشريعة الاسلامية هي تفصيل وتطبيق المبادئ الحق فالخير والعدل, فكيف تُهجر وتُنبذ ويُقتصر على ترداد المبادئ؟
(الوجه الثالث) ان الاحكام التفصيلية بنيت على معاني تبقى واجبة الاعتبار في كل زمان ومكان, فتحريم الربا بني على اساس ما فيه من ظلم, ويبقى هذا المعنى قائما في كل زمان فيلزم بقاء تحريم الربا. والزنا بنى تجريمه على ما فيه من اعتداء على الاعراض واختلاط المياه والانساب وهذا المعنى يبقى قائما في كل زمان ومكان فيلزم بقاء تحريم الزنا. واباحة تعدد الزوجات بني على امكان وقوع الحاجة اليه مثل كثرة النساء, وعقم المرأة, ومرضها, وهذه امور يمكن وقوعها في كل زمان ومكان فتبقى اباحة تعدد الزوجات وهكذا بقية الاحكام, فما فصله الله ينبغي ان يقتنع كل منصف بصلاحيته وان يتأمل هذه الاحكام التفصيلية بتجرد وموضوعية وان ينزع منظار الاهواء عن عينيه وهو ينظر الى هذه الاحكام, واني ضامن لمن يفعل ذلك ان يقتنع بصلاحيتها ان شاء الله تعالى.
(رابعا) – المسألة الرابعة:
29) ناقش الكاتب قول الداعين الى العودة الى الشريعة الاسلامية بانها أسعدت السابقين وهي لا تزال قادرة على اسعاد اللاحقين وحل مشاكلهم. وخرج من هذه المناقشة بان
سعادة سلفنا الصالح وما كانوا يعيشون فيه من رخاء وأمن وطمأنينة وما كانوا يعيشون فيه من رخاء وأمن وطمأنينة وما كانوا عليه من تقدم لم يكن ذلك بسبب استمساكهم بالشريعة الاسلامية وانما كان بسبب الخيرات الكثيرة التي تدفقت عليهم بسبب الفتوحات في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتقسيمه لتلك الخيرات على المسلمين على نحو مرضي عادل.
30) وجوابنا على هذا الادعاء باختصار ان الفتوحات الاسلامية نفسها كانت أثرا من آثار استمساك سلفنا بالشريعة الاسلامية ذلك الاستمساك الذي زكى نفوسهم ودفعهم الى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله وحده ولاخراج الناس من ظلمة الشرك الى نور الاسلام . وما جاء من خيرات مادية بسبب تلك الفتوحات, لم يكن هو الدافع غلى الجهاد لان الدافع على الجهاد في سبيل الله هو اقامة دين الله ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وبهذا تتحقق هداية الناس. وهذا معروف لا يجهله صغار المطلعين على الشريعة الاسلامية.
31) فالفضل اذن, في حصول تلك الخيرات بيد المسلمين يرجع الى استمساك المسلمين بالشريعة الاسلامية التي حملتهم على الجهاد. ثم ان تقسيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتلك الخيرات على نحو مرضٍ عادل حقق الرخاء والخير للماس مرده استمساك عمر بالشريعة الاسلامية. لأنه اهتدى بهديها في تقسيمه تلك الاموال ولم يبددها فيما لا ينفع, ولا تصرف فيها لنفسه أو حبسها عن المسلمين وانما وضعت حيث أمر الشرع الاسلامي.
32) واخيراً نقول ان حالة العرب قبل الاسلام معروفة, وحالتهم بعد ان أنعم الله عليهم بالإسلام واستمسكوا بشريعة معروفة, وكل باحث منصف يتقين بان ما نالهم بعد الاسلام من خير ونعمة وأمن واطمئنان وتقدم كان بفضل الاسلام واستمساكهم بشريعته ولا يجادل في هذه الحقيقة الا مكابر. وحيث ان الشريعة الاسلامية باقية وموجودة فهي بلا شك قادرة ان تنتج لنا نفس النتائج الاولى التي ظفر بها المسلمون الاولون بشرط واحد بديهي هو ان نُقبل عليها ونتفهمهما ونعزم على تنفيذها وننفذها فعلا. ان الدواء الشافي لا يمكن ان يحقق نتيجته بمجرد نظر المريض اليه بل لا بد له من ان يتناوله ويستعمله حتى يشفى ويصح والله يقول الحق وهو الهادي الى سواء السبيل.
الخاتمة
33) واحب ان اعلن هنا, وقد كتبت ما يسره الله تعالى من رد, اني ما اردت بردي هذا الا النصح لاخواني المسلمين ببيان وجه الحق في بعد ما تعرض له الكاتب في مقالته, ولم ارد في ردي المراء والجدل, وكم اكون سعيداً اذا تسببت بهذا الرد الى تذكير الناسي وهداية الضال وتعليم البعض بعض معاني الاسلام والله تعالى اسأل ان يبصرنا بالحق ويعيننا على العمل به والحمد لله رب العالمين. |