المؤلفات --> البحوث الفقهية
الإِخْتَلَافَ في الشريعة الاسلامية
الاختلاف في الشريعة الاسلامية بحث كتبه الشيخ عام 1392 هـ -1972م ونُشر في مجلة كلية الدراسات الاسلامية بعددها الرابع 1972م, بعدها طُبع بكراس منفصل, ونُشر ايضاً مع مجموعة بحوث اخرى بكتاب تحت اسم "مجموعة بحوث فقهية ". تمهيد 1) قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأمرنا – الله تعالى – بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف). وما قاله ابن تيمية رحمه الله تعالى حق نطق به القرآن ‏ الكريم وجاءت به السنة النبوية. قال ربنا تبارك وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا). وقال جلّ جلاله (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وفي السنة النبوية احاديث كثيرة في هذا الباب, منها الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه, وفيه: (.... ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا). وفي جامع الترمذي من حديث عن النبي ﷺ (... ويد الله مغ الجماعة ومن شَذَّ شَذَّ إلى النار). وهذه النصوص وأمثالها في القرآن ‏ الكريم والسنة النبوية المطهّرة نلتقي في شيء واحد هو: الأمر بالوحدة والائتلاف, والنهي عن الفرقة والاختلاف. معنى الاختلاف والخِلاف 2) الخِلاف في اللغة يعني عدم الاتفاق على شيء بأن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الاخرين في حاله او اقواله او رأيه. كما يعني أيضاً عدم التساوي، فكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف والخلاف هو المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافاً، فهو يدل على ما يدل عليه لفظ الاختلاف وان كان معناه اعم، إذ هو من الضد ولا يلزم من كل مختلفين أن يكونا ضدين، وإن كان كل ضدين مختلفين. 3) والإِخْتَلَافَ بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء يعني الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات بما يسعد الانسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا. 4) والخِلاَف يعني ما يعنيه الاختلاف في استعمالات الفقهاء ولكن الامام الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته ذهب إلى أن الخلاف ما صدر عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة الشرعية ولهذا لا يعتد به لأنه ناشئ عن الهوى كما لا يعتد بما يخالف الأمور المقطوع بصحتها في الشرع الإسلامي، أما الاختلاف فعنده، ما صدر عن المجتهدين من آراء في المسائل الاجتهادية التي لا يوجد نص قطعي فيها أو كما يقول هو ما يكون في مسائل تقع بين طرفين واضحين يتعارضان في انظار المجتهدين بسبب خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليها. 5) والواقع أن هذه التفرقة بين الخلاف والاختلاف، التي قال بها الامام الشاطبي رحمه الله تعالى، هي منه محض اصطلاح لا نرى لها سند، والفقهاء يستعملون الخلاف والاختلاف في معنى واحد، هو: ما لا يتفق عليه الفقهاء في مسائل الاجتهاد بغض النظر عن صواب أو خطأ أو شذوذ الرأي الذي يقال، فمن هذه الاستعمالات قول الإمام ابن تيمية (وهو أقوى من كثير من الأقيسة التي يجنح بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف في أصول الفقه). وقوله رحمه الله تعالى أيضاً (ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجب عليها ... ) وفي مقدمة ابن خلدون (فاعلم ان هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وانظارهم خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه ..) وواضح من كلام بن تيمية وابن خلدون أن المراد من كلمة الخلاف هو ما يصدر عن الفقهاء من آراء بغض النظر عن قيمتها أو صوابها أو خطئها وهذا هو معنى الاختلاف. ما يستفاد من النهي عن الاختلاف 6) وإذا كان الاسلام أمر بالاجتماع والائتلاف ونهى عن التفرقة والاختلاف، فهذا النهي وذاك الأمر يدلان على جملة أمور، منها:     أولاً: أن الاختلاف شيء يمكن وقوعه بين البشر، لأنه لو كان مستحيل الوقوع لما نهى عنه الشرع الإسلامي، ولما طلب من المكلفين تركه وعدم الوقوع فيه، لأن النهي عن ايقاع المستحيل عبث يُنزه عنه الشارع الحكيم.     ثانياً: وإذا كان الاختلاف شيء يمكن وقوعه وصدوره عن البشر فإنه ايضاً يمكن توقيه، ويمكن تحصيل ضده وهو الاتفاق، لما عرف من اصول الشريعة الإسلامية: لا تكليف إلا بقدور، أو لا تكليف بمستحيل.     ثالثاً: وإذا كان الاختلاف منهياً عنه في الشريعة الإسلامية، فهو، إذن، مذموم لأن الأصل أن الذم يتبع النهي أو يقترن به إلا ما استثنى.     رابعاً: وإذا كان الاختلاف منهياً عنه ومذموماً، فمن وقع فيه أو تلبس به حقت عليه المسؤولية ولحقه الجزاء، كما هي القاعدة الشرعية في ارتكاب المنهيات المذمومات. تساؤل 7) وإذا كان الاختلاف، كما قلنا، يمكن وقوعه، ويمكن توقيعه، وأنه منهي عنه ومذموم، ويلحق صاحبه الجزاء، فإننا نتساءل هنا عن مدى امكان وقوع الاختلاف بين البشر، بمعنى هل وقوعه نادر أو كثير أو يصل إلى درجة الحتمية واللزوم؟ وهل المسلمون مستثنون من وقوعه فيما بينهم أم لا؟ ثم هل الاختلاف نوع واحد أم أنواع؟ وهل الذم يلحق جميع هذه الأنواع – أن وجدت هذه الأنواع – أم يقتصر على بعضها؟ ثم ماهي أسباب وقوع الخلاف؟ وكيف يمكن توقيه؟ وهل يصيب الجزاء جميع المختلفين؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي ترد على الذهن في هذا الموضوع وما يتصل بكل سؤال من أسئلة فرعية كثيرة. والحقيقة أن هذا الموضوع واسع جداً ولا يمكن استيعابه في بحث بسيط أو مقالة في مجلة، ومع هذه السعة، فقد آثرت أن اكتب هنا ، شيئاً عنه، تاركاً التفصيل والحرص على الاحاطة بالموضوع إلى فرصه أخرى إن شاء الله تعالى. أولاً : وقوع الاختلاف الطبيعة البشرية 8)  البشر مختلفون في اشكالهم وصورهم وألوانهم اختلافاً هائلاً بحيث يستحيل أن نجد أثنين متماثلين تمام المماثلة في كل ما يخص أجسامهم وأشكالهم. وهذا الاختلاف في الحقيقة من أعظم الآيات الدالة على عظيم قدرة ربنا تبارك وتعالى، وقد أشار القرآن ‏ الكريم إلى هذا الاختلاف ونبه إلى دلالته، قال جل جلاله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ). واختلاف البشر لا يقف عند حد الصورة والشكل وإنما يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر: إلى مواهبهم واستعدادهم وميولهم واتجاهاتهم وعقولهم وذكائهم ومداركهم وطبائعهم وغرائزهم إلى غير ذلك من الأمور الخطيرة التي تكّون حقيقة الإنسان الباطنية. واختلاف البشر في هذا المجال واسع جداً يصعب بل يستحيل ضبطه والإحاطة به. بل ان الفرد نفسه لا يستطيع أن يحيط بأغوار نفسه وما انطوت عليه من ميول وما يضطرب فيها من هواجس واتجاهات وانفعالات وتقلبات ودواعي الرضا والسخط والمحبة والكره والاقدام والأحجام .. الخ . ولأمر ما كان ﷺ  يقول كثيراً في دعائه (يا مقلب القلوب ثّبت قلبي على الإيمان). أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ولا أغالي هنا إذا قلت أن الإنسان إذا أراد أن يصف نفسه ويبين دخائلها لعجز عن ذلك. وهذه الاختلافات الهائلة، هي أيضاً، من أعظم الدلائل على القدرة الإلهية. 9) وقد ترتب على هذه الاختلافات بين البشر، اختلافهم في الآراء والتصورات والاعتقادات، وسهولة رؤية الحق وإدراكه والانجذاب إليه أو الابتعاد عنه، والمحبة له أو السخط عليه، والعيش له أو العيش عليه، إلى درجة أن بعض النفوس تصل إلى درجة العمى المطبق في مجال الرؤية للحق فتنكر الخالق العظيم جل جلاله. بل وأن بعض النفوس، وهي تصر على انكار الخالق العظيم، ترضى بعبادة غيره من بقر أو حجر أو شجر أو بشر، وهذا يدل على مدى ما في طبيعة الانسان من قابلية واستعداد مخيف للانحدار في الضلالة والجهالة والحماقة، ومن البديهي ان هذا الاختلاف في الآراء والتصورات والاعتقادات بين البشر يتبعه تفرق وسعادة وشقاء في الدنيا والآخرة. الاختلاف لا بد منه 10) وهذا الاختلاف الذي وصفناه، من لوازم خلقة الإنسان وتكوينه ولو شاء الله تعالى لخلق البشر على نمط واحد مثل نسخ الصورة الواحدة، ولكن الله عز وجل لم يشأ ذلك، لأنه لو فعله لما كان هذا الإنسان الذي نشاهده، ولكان جنساً آخر، قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ, إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ) وفي تفسير الرازي بصدد هذه الآية الكريمة (والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال) فالله جلّ جلاله لو شاء لخلق الناس على طبيعة واحدة ونسق واحد واستعداد واحد دون تفاوت فيما بينهم ولا اختلاف، وعند ذلك لا يكون بينهم اختلاف في الأفكار والمعتقدات، ولكن الله جلّ جلاله لم يشأ ذلك لأنه ليس من طبيعة هذا النوع الانساني الموجود على الأرض، فخلقهم على ما هم عليه، وما يترتب على ذلك من اختلاف يصل إلى الاختلاف في الحق الجلي، ولا ينجو من هذا الاختلاف المقيت إلا أولئك الذين أدركتهم رحمة الله تعالى فهدوا إلى الحق، فهم لا يختلفون فيه بل يتفقون عليه وإن كانوا مختلفين مع أهل الباطل المختلفين فيما بينهم. وقال الإمام أبو بكر الآجُرِّي (إن الله عز وجل قد أعلمنا في كتابه: أنه لا بد من أن يكون الاختلاف بين خلقه ليضل من يشاء ويهدي من يشاء .. ثم ساق الآية الكريمة(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). 11) هذا، ويجب أن يذكر هنا، أن ما قلناه عن طبيعة البشر وما يترتب عليها من لزوم الاختلاف لا يعني حتمية وقوع الاختلاف بلا قيد ولا شرط، وفي جميع الأوقات والأحوال والظروف، كما لا يعني استحالة وقوع الاتفاق بين البشر ولو إلى حين، كما لا يعني استحالة وقوع الاتفاق فيما بينهم، وإنما يعني أن ما قلناه من اختلاف البشر في طبائعهم وميولهم ومداركهم ... الخ . يجعل في البشر استعداداً كافياً للاختلاف المقيت إذا ما تهيأت ظروفه وأسبابه وأنتفت موانعه، فإذا بقيت الفطرة سليمة أدرك البشر الحق وزالت عنهم اسباب الاختلاف المقيت، لأنه الله تعالى فطرهم على معرفته وعلى ادراك الحق، ولكن هذه الفطرة يمكن أن تُلوث وتنحرف فلا ترى الحق فيقع اصحابها في الاختلاف المقيت، وانحرافها ممكن لأن الانسان مخلوق على نحو يقبل الانحراف، يدل على ذلك كله قول الله وقول رسوله, قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال ﷺ (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو ينصِّرانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى أنتم تجدعونها). وهذا يشبه استعداد الانسان لاكتسابها أو فقدها. الاختلاف بين المسلمين 12) وإذا كان الاختلاف بين البشر من لوازم طبيعتهم، على النحو الذي بيناه، فهل يسري على المسلمين فيختلفون كما اختلف غيرهم؟ الواقع أن القرآن ‏ الكريم حذرنا من الاختلاف وتوعد عليه وكذلك السُّنَّةُ النبوية المطهرة، ومع هذا فإن الاختلاف لا بد أن يقع بين المسلمين كما وعد النبي ﷺ حيث قال (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر لا تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فَمَنْ). وكان من سنن الذين قبلنا الاختلاف والافتراق كما جاء في الحديث الشريف, (افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت امتي على ثلاث وسبعين فرقة). 13) وقد يقال هنا ما وجه الحكمة إذن في التحذير من الاختلاف والفرقة إذا كان في علم الله إن هذا المحذور – وهو الاختلاف – سيقع كما اخبرنا الرسول  ﷺ. والجواب، ان الاخلاف الذي سيقع لا يعم الأمة كلها، فقد اخبرنا الرسول ﷺ (لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن التحذير من الاختلاف ستنتفع به هذه الطائفة فتبقى مستمسكه بالحق متفقة عليه غير مختلفة فيه. وأيضاً فإن نفس العلم بما يكرهه الله تعالى – وهو الاختلاف – وما يحبه الله تعالى – وهو الاجتماع – والتصديق بوقوع ما أخبرنا الله تعالى به، كل ذلك خير للمسلم لما فيه من زيادة يقين المسلم بأخبارات الشرع. ثم أن هذا التحذير من معاني الرسالة، ومن المعلوم أن تبليغ معاني الرسالة واجب وإن كان في علم الله تعالى عدم الاستجابة لهذه المعاني أو لبعضها من قبل بعض الناس أو كلهم. ثم أن المسؤولية وما يترتب عليها من جزاء لا تكون إلا بعد الإبلاغ والإنذار قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) فلابد من التحذير من الاختلاف والنهي عنه حتى تقوم الحجة على الناس. ثانياً: انواع الاختلاف والمختلفين انواع الاختلاف 14)  قلنا إن الاختلاف بين البشر شيء تقتضيه طبيعتهم البشرية وما جبلوا عليه إذا ما تيسرت اسبابه وظروفه, ولهذا فلا غرابة من وقوعه إذا وقع, إلا أن هذا الاختلاف لا يعني أن جميع أنواعه ذميمة ولا ان جميع المختلفين مذمومون, فالواقع أن المسألة تحتاج الى تفصيل, ذلك ان استقراء نصوص الشريعة وأحوال المختلفين تبين ان الاختلاف ثلاثة انواع:     الاول: اختلاف مذموم واهله مذمومون.     الثاني: اختلاف ممدوح وأهله ممدوحون.     الثالث: اختلاف سائغ وأهله مأجورون. الاختلاف المذموم 15) وهذا أنواع ايضا, واقبح هذه الانواع المذمومة اختلاف الكفر, حيث ينقسم البشر الى مؤمن بالله وكافر به, الى مؤمن بالله ورسالاته, والى كافر بذلك, وقد اشار القرآن ‏ الكريم الى هذا الخلاف في اكثر من اية منه قوله تعالى (هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ... الآيات) وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ان المقصود بقوله تعالى (هَٰذَانِ خَصْمَانِ) هم المؤمنون والكافرون, وقال هذا هو المنقول عن مجاهد او عطاء وهو اختيار ابن جرير , ورجحه ابن كثير. وهو قول صاحب الكشّاف, واختيار الرازي حيث قال:(المراد طائفة المؤمنين وجماعاتهم, والكفار وجماعاتهم, وان كل الكفار يدخلون في ذلك) ومن الواضح أن الكافرين مخالفون للمؤمنين وخلافهم ذميم. 16) ومن الخلاف الذميم, خلاف اهل الاهواء والبدع من المنتسبين للإسلام وسموا بأهل الاهواء نسبة الى الهوى, أي ما تهوى انفسهم ويخالف الحق بتأويلات فاسدة باطلة لا تقبلها نفس المؤمن إلا اذا خالطها الهوى. ومن هؤلاء الخوارج حيث تأولوا القرآن‏ حسب اهوائهم فخالفوا الحق الذي عليه جماعة المسلمين وانفصلوا عنهم واستحلوا دمائهم, وقد وردت احاديث كثيرة في ذم الخوارج ودفع شرورهم ولو بقتالهم, ومما يستخلص من هذه الاحاديث أن الرجل اذا اتبع هواه, سقط في متاهات الضلالة حتى ولو كان كثير العبادة, ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما – وقد ذُكر له الخوارج واجتهادهم وصلاتهم – قال رضي الله عنه: (ليسوا هم بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى وهم على ضلالة). أما اهل البِدَعِ, فهم بصورة عامة, الذين يتحدثون في الاسلام ما لم يشرعه الله ورسوله, ولذلك يقعون في مخالفة الشرع وسنن الاسلام. والبدعة في الاصطلاح الشرعي هي ما لم يشرعه الله ورسوله, وهو كل ما لم يأمر به الشرع الإسلامي الحنيف أمر بإيجاب ولا استحباب فأما ما امر به بإيجاب واستحباب, وعلم الأمر به بالادلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله, سواء كان هذا معمولا به على عهد النبي ﷺ أو لم يكن معمولا في زمنه ﷺ ولكم مما عمل به بعده بأمره, مثاله قتال المرتدين والخوارج, فهذا من سنته وليس خارجا عنها, وكذلك سنة الخلفاء الراشدين هي من الدين لأن الرسول ﷺ امر باتباعها. 17) ومن الاختلاف الذميم ما يقع بين المُقَلِّدين للمذاهب الاسلامية بحيث يحملهم ذلك على الاعتقاد بان قول متبوعهم هو الحق وان ما يخالفه باطل قطعاً, ثم يرتبون على ذلك نتائج خطيرة مفرقة للكلمة ومشتتة للشمل مثل عدم الصلاة خلف من يخالفهم في المذهب وريما تجاوز الامر الى الخصومات والمشاجرات كما حدث في الماضي. ولا شك أن هذا النوع من الخلاف مذموم قطعاً ولا وجه له لان المذاهب الاسلامية ما هي إلا وجوه لتفسير نصوص الشريعة في القرآن ‏ والسُّنَّةُ واستنباط الاحكام على اساسها, وإن الواجب على المسلم اتباع ما نزله الله وبينه رسوله ﷺ, فإذا عجز المسلم عن إدراك ذلك بنفسه, ساغ له, ولم يجب عليه, اتباع احد المذاهب الاسلامية المعتبرة المشهود لأئمتها بالورع والتقوى والصلاح والفقه. وعلى المقلد الذي يتبع أحد هذه المذاهب أن يعلم بأنه يقلد هذا المذهب باعتباره مظنّة الصواب وتعريفه بشرع الله, وإن هذه المظنّة ليست مقصورة على المذهب الذي أختار إتباعه وإنما هي مشاعة بين أهل الاجتهاد والحق من أمة المسلمين, فلا يحق للمقلد أصلاً أن ينكر على مقلد آخر يقلد غير مذهبه أو يعاديه على ذلك ويعتبر ما عليه باطلاً قطعاً, ولا يصلي خلفه, ألم يعلم بأن السلف الصالح, ومنهم أمامه الذي يقلده, كان يصلي بعضهم خلف بعض بالرغم من اختلافاتهم الفقهية؟. 18) ومن الخلاف الذميم, ما يقع بين المقلدين وغيرهم من منكري التقليد, فقد يترك المُقَلِّد شيئاً جاءت به السُّنَّةُ لان مذهبه لم يقبل به, مثل رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه, فينكر عليه متبع السُّنَّةُ فلا يقبل المُقَلِّد هذا بحجة أن مذهبه لم يقبل بهذه السُّنَّةُ, فيشتد عليه مُتبع الستّة ويغلظ عليه وربما عاداه على ذلك وقاطعه, وربما وقع الخصام بين الفريقين الى غير ذلك من الامور المنهي عنها, ذلك أن التفريق ممنوع والائتلاف مطلوب ورفع اليدين من هيئات الصلاة وليس من اركانها, والقائم بهذه الهيئة محسن قطعاً متبع للسنة النبوية الثابتة, وتاركها غايته أن يكون معذوراً لجهله, ولكن هذا لا يستدعي الخصام والعداء ولا الإنكار الشديد كالإنكار على مرتكب الحرام, وانما يقتضي التلطف بالبيان والنصح في الدلالة على السُّنَّةُ, مع الاعتقاد بأن إمام هذا المذهب لم بأخذ بهذه السُّنَّةُ لعذر سائغ كما سنبين ذلك فيما بعد. فإذا لم يقبل المقلد ما يشير به الآخر في أمثال هذه الامور التي مثلنا لها برفع اليدين, فلا يجوز مقاطعته وعداوته, لأن الاجتماع والائتلاف من الواجبات الشرعية, ولا يجوز ترك الواجب من اجل مستحب. ومن الخلاف المذموم ما نجده بين المتفقهة والمتصوفة, فالأولى قد تنكر على الثانية كل ما تدعيه الثانية وتؤكد عليه من احوال القلوب ولزوم تزكيتها وتصفيتها. والثانية قد تنكر على الأولى تمسكها بالظاهر وعدم اهتمامها بالباطن وقد لا تقيم وزناً لمسلك المُتفقَّه, وهذا الخلاف بين الطرفين على هذا النوع يؤدي غالباً الى التفريق والتقاطع والتباغض والوقوع في الخلاف المذموم الى درجة قبيحة لا تليق بهم. الخلاف المَمْدوح 19) ومن الاختلاف الممدوح شرعاَ, مخالفة المسلمين للمشركين لأنه من لوازم أستمساكهم بدينهم الحق. والشريعة الاسلامية أمرت بمخالفة المشركين ونهت عن التشبه بهم سواء كان أمرها ونهيها على وجه الحتم والالزام أو على وجه الندب والاستحباب, وسواء كان ذلك – أي أمرها – ونهيها – مما يتعلق باعتقاداتهم الباطلة وأهوائهم أو بعاداتهم واحوالهم الظاهرة. قال تعالى في سورة الجاثية (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) وقد دخل في (الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) كل من خالف شريعته ودخل في (أهوائهم) كل ما يهوونه وما عليه من المشركين من أحوالهم الظاهرة التي هي من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك. وقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللاً ذلك النهي بان الكفار يسجدون لها في ذلك الوقت, فمنعا من مشابهة المسلمين لهم في الظاهر وإن لم يقصدوا المشابهة جاء النهي عن ذلك. وفي السُّنَّةُ النبوية: (من تشبه بقوم فهو منهم) أي صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه, كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد نص الإمام احمد كما جاء في اقتضاء الصراط المستقيم, على كراهية شهود أعياد المشركين وقال لا يتشبه بهم في أعيادهم ولا تُجاب دعوتهم فيها ولا يعانون عليها. ولكن من هذا يجوز ترك مخالفة المشركين في هديهم الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر, بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناَ في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم الى الدين او دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. 20) ومن الخلاف الممدوح, مخالفة المسلم لأعياد وعبارات وتقاليد عادات الجاهلية قال تعالى في سورة الاحزاب (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) وقال ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم:(ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية الاولى) واذا كان المطلوب من المسلم مخالفة أفعال الجاهلية, وهذا يتم بهجرها وتركها والعزوف عنها, فمن احياها وطلبها أو دعا اليها فانه يقع في معصية كبيرة ومخالفة للشرع الاسلامي جاء في الحديث الشريف (أبغضُ الناسِ إلى اللهِ ثلاثةٌ: ملحدٌ في الحرمِ، ومبتغٍ في الإسلامِ سُنَّةَ الجاهليةِ، ومُطَّلِبُ دمِ امرئٍ بغيرِ حقٍّ ليُهريقَ دَمَه) والابتغاء هو الطلب والإرادة, فكل ما أراد في الاسلام أن يعمل يشيء من سنن الجاهلية دخل في معنى هذا الحديث الشريف. والمقصود بسنّة الجاهلية, عاداتهم في العبادات وغبرها. واطلاق كلمة السُّنَّةُ على فعل الجاهلية وارد على أصل اللغة. الاختلاف السَائِغ المقبول 21) وهذا هو اختلاف المجتهدين من فقهاء ومفتين وحكّام, في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف, وهي التي لا يوجد فيها نص قطعي, والادلة على الاختلاف السائغ كثيرة منها:     اولاً: جاء في الحديث الذي رواه مسلم قال رسول الله ﷺ (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف, أنه صريح في امكان خطأ المجتهد ومعنى ذلك إمكان وقوع الاختلاف بين المُصيب والمخطئ وقد تحقق هذا الامكان بوقوع الاختلاف فعلا. ولما كان الحديث الشريف يقرر حصول الأجر للمصيب والمخطئ أي للمختلفين من المجتهدين فمعنى ذلك أن اختلافهم سائغ مقبول لان الاجر لا يترتب على فعل شيء مذموم, وهذا واضح.     ثانياً: اختلاف الصحابة في عهد النبي ﷺ, من ذلك اختلافهم في فهم أمره لهم بأداء صلاة العصر في بني قريظة, فمنهم من صلاها في الطريق في وقتها ومنهم من صلاها بعد وقتها في بني قريظة, ولما علم ﷺ بما فعلوا لم ينكر على أحد الفريقين, فدل ذلك على ان اختلافهم سائغ مقبول.     ثالثاً: اختلف الصحابة الكرام ومنهم الخلفاء الراشدون بعد وفاة الرسول ﷺ في المسائل الفقهية الاجتهادية ولم ينكر أحدهم على ذلك الاختلاف فكان اجماعاً منهم على أنه اختلاف سائغ مقبول.     رابعاً: ما زال الفقهاء من بعد عصر الصحابة وحتى اليوم يختلفون في المسائل الاجتهادية دون انكار من أحد فدل ذلك على إجماع الأمة بأنه اختلاف سائغ مقبول. شروط الاختلاف السَائِغ 22) والاختلاف السَائِغ المقبول يشترط فيه أن يصدر من فقهاء أهل علم وبصيرة بالفقه واستنباط أحكامه أي ( مجتهدين) تتوافر فيهم شروط الاجتهاد المقررة في كتب الفقه واصوله. وأن يكون اجتهادهم واختلافهم في المسائل الفرعية التي يسوغ الاجتهاد والنظر فيها وهي التي لا يوجد دليل قطعي عل حكمها لأنه لا مساغ للاجتهاد في معرض النص. وأن يكون قصد المجتهدين الوصول الى الصواب والحق لا غير – ولهذا – كما قال ابن حَزْم رحمه الله تعالى (لا يلحق الذم الصحابة في اختلافهم لأنهم تحروا الحق واجتهدوا للوصول اليه فهم مأجورون) وأن يبذل المجتهدون أقصى الجهد المستطاع للوصول الى الحق, فإذا قصر أحدهم في الجهد المبذول ثم خالف فخلافه مذموم, وتزداد مسؤولية المخالف لتقصيره في الاجتهاد إذا كان الدليل الشرعي واضحاً أو مما يمكن معرفته بجهد قليل, بل وقد تكون مخالفته في هذه الحالة قرينة على تقصيره في بذل الجهد المطلوب بذله منه, بخلاف ما لو كان الدليل الشرعي خفياً او غامضاً أو ليس من السهولة الوقوف عليه أو الوصول اليه, ففي هذه الحالات يكون قول المجتهد المخالف لمقتضى الدليل قرينة على عدم توفيقه إلى الوصول اليه بالرغم من بذل الجهد المستطاع ومن ثم يكون خلافه سائغا. ويشترط ايضا أن لا يؤدي الاختلاف الى التفريق والتقاطع واختلاف القلوب, لأن حصول مثل هذه الامور دليل على مخالطة الهوى قلوب المختلفين أو قلوب فريق منهم, ولهذا قد يُذم كلا الطرفين وقد يُذم أحدهما إذا كان هو العامل على الفرقة والتقاطع بناء على خلافه. والصحابة الكرام, كما هو معروف عنهم اختلفوا في المسائل الاجتهادية التي حكموا فيها أو أفتوا فيها ولكن لم تختلف قلوبهم بل بقيت متآلفة. لا نحرص على الخلاف السائغ 23) ومع أن هذا الخلاف من النوع السائغ المقبول فإننا لا نحرص عليه ولا نرغب فيه ولكن إذا وقع لا نستغرب منه. والسبب في ذلك أن الائتلاف والاتفاق خير من الاختلاف قطعاً حتى في المسائل الاجتهادية السائغ الاختلاف فيها, فلا يجوز الحرص على الاختلاف والرغبة فيه وإن كان سائغا لأن معنى ذلك جواز تعمد وقوعه, ومعنى ذلك جواز مخالفة مقتضى الدليل الشرعي حتى يحصل الاختلاف, وهذا باطل قطعاً. وايضاً فإن من شروط الاختلاف السائغ تجريد القصد للوصول الى الحق والصواب وهذا لا يتفق مع الرغبة في وقوعه. اختلاف أمتي رحمة 24)  وقد يعترض علينا فيما قلناه, بما يذكره البعض من حديث منسوب إلى السُّنَّةُ النبوية, وهو (اختلاف أمتي رحمة), وهذا يفهم منه الحرص على الاختلاف والرغبة فيه لأن الشأن في الرحمة الحرص عليها وعلى أسبابها, ومن أسبابها الاختلاف, وهذا كله يخالف ما قلناه من أننا لا نحرص على الخلاف ولا نرغب فيه. والجواب على هذا الاعتراض من وجهين: ( الوجه الاول ): أن هذا الحديث غير صحيح, قال السَّخاوي: ذكره بعض أهل العلم بأسانيد ضعيفة جداً وبعضهم مرسلاً بسند ضعيف, وقال ابن الدَّيْبَع الشيباني: قال كثير من الائمة أنه لا اصل له, ولكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطرداً وأشعر بأن له أصلاً عنده. وقال الإمام السُّبْكِيّ: ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع, ولا أظن له اصلاً إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال: اختلاف أمتي رحمة, فأخذه بعضهم فظنه حديثاً فجعله من كلام النبوة, وما زلت اعتقد أن هذا الحديث لا أصل له, واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف. وقال السيوطي في الجامع الصغير رواه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الاشعرية بغير سند, وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغبرهم, ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل الينا. وقال المناوي تعليقاً على قول السيوطي هذا: قال السبكي, وساق كلامه الذي ذكرناه عنه, ثم قال المناوي: قال الحافظ العراقي سنده ضعيف وقال محدث العصر الاستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الالباني, لا أصل له. ونقل عن ابن حزم أنه قال عنه: باطل مكذوب. وعلى هذا فالحديث غير صحيح, او ضعيف جداً لا تقوم بمثله حجة ولا يصلح للاستدلال به. ( الوجه الثاني): وعلى فرض صحة الاحتجاج به, فيمكن حمله على ان المراد منه ان اختلاف المجتهدين فيما يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف رحمة لهم وللامة, اما لهم, فللأجر الذي يصيبهم جميعا بنص حديث رسول الله ﷺ الذي ذكرناه, واما للامة فان اختلاف المجتهدين إنما يكون بعد اجتهادهم, واجتهادهم لمعرفة احكام الشرع فيما لا نص فيه من احداث قد تواجهها الامة أمر مرغوب فيه في الشرع الإسلامي لأنه سيجعل الامة تسير في شؤونها وادارة امورها في نطاق الشرع الاسلامي الشريف ورحابه الفسيحة. وسيرها في هذا النطاق: النص والاجتهاد, مدعاة الى رحمة الله سبحانه وتعالى. ثم ان في اختلاف المجتهدين بعد اجتهادهم المشكور وسيلة لإظهار آرائهم وأدلتهم فيمكن مقارنتها ومعرفة الاشبه بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ومن ثم يتبع هذا القول, ولا شك ان في اتباع ما هو اشبه بالكتاب والسُّنَّةُ مدعاة لرحمة الله تعالى لان هذا هو المقدور والممكن. الصواب والخطأ في اقوال المجتهدين 25) وإذا كان اختلاف المجتهدين سائغاً فهل تعتبر اقوالهم جميعاً حقاً وصواباً, وانهم جميعاً مصيبون أم لا؟ ذهب بعضهم الى القول بالإيجاب فأقوالهم كلها حق وصواب, وأن كل واحد منهم مصيب وقد أوضح ذلك ودافع عنه الشعراني رحمه الله في ميزانه إذ جعل أقوالهم لا تخرج عن التخفيف والتشديد حسب أحوال الناس من جهة قوتهم أو ضعفهم في الدين, ومن أقواله رحمه الله تعالى في مقدمة ميزانه: (وما ثم قول من اقوال علماء الشريعة خارج عن قواعد الشريعة فيما علمناه, وانما أقوالهم كلها بين قريب وأقرب, وبعيد وأبعد بالنظر لمقام الاسلام والايمان والاحسان ثم قال: لا ترى قولاً واحداً من أقوالهم خارجاً عن مرتبتي الميزان من تخفيف أو تشديد, وإن الشريعة قابلة لكل ما قالوه لوسعها). 26) وذهب اكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الاقوال وإن لم نقطع نحن به لعدم وجود دليل قاطع عليه, وقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يُخطئ بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه, فلو كان اجتهاد كل مجتهد حقاً لما خطأه. ثم اذا كان الحق في احد الاقوال فهل يعتبر كل مجتهد مصيباً  بالرغم من اختلافه مع غيره أم لا. أقوال في المسالة, قيل ان المصيب واحد لأنه لا يمكن أن يكون قولان مختلفان صوابين وبالتالي لا يكون المصيب إلا صاحب القول الحق, وقيل أن كل مجتهد مصيب وإن كان الحق مع واحد بحجة أن الصحابة نزل بعضهم بعضاً منزلة المصيب بالرغم من انكار بعضهم لآراء البعض الاخر. ثم القائلون بخطأ يعض المجتهدين المختلفين, اختلفوا في لحوق الاثم بالمخطئين, فقال بعضهم لا يلحقهم الإثم. وقال اخرون يلحقهم الإثم على قدر خطئهم. 27) والتحقيق في المسألة كلها يستفاد من الحديث, (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد), فهذا الحديث الشريف يدل على جملة امور:     اولاً: إن الحق من الاقوال واحد وسائر الاقوال خطأ.    ثانياً: المجتهد الذي اصاب الحق هو المصيب, والذي لم يصبه هو المخطئ.     ثالثاً: المجتهد المخطئ, لا اثم عليه بدليل ان له اجراً واحداً, والاجر لا يكون مع الاثم, واجره لا على خطئه, لان الخطأ لا يؤجر عليه, وإنما لتحريه الحق وبذل الجهد للوصول اليه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (لا يؤجر على الخطأ, لأن الخطأ, في الدين لم يؤمر به احد, وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي اخطأه, وأيضاً قوله تعالى في سورة الاحزاب (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) يدل على رفع الاثم عن المجتهد المخطئ.     رابعاً: ان المطلوب من المجتهد أن يجتهد, وهذا هو واجبه, وليس من المفروض عليه أن يصيب الحق في اجتهاده ما دام غير قادر على الوصول اليه, لأن الحديث الشريف لم يوجب عليه هذه الاصابة, فإذا ترك الاجتهاد مع القدرة عليه أثم, واذا اجتهد ولم يكن في قدرته إدراك الحق ومعرفة الصواب لم يكن مأموراً به مع العجز, لأنه مأمور به بشرط القدرة على معرفته, فإذا اقتضى اجتهاده قولاً خطأ في واقع الامر فعليه أن يعمل به, لا لأنه مصيب أو مأمور بذلك القول شرعاً وإنما لان الشرع أمره ان يعمل بما يؤدي اليه اجتهاده وبما يمكنه أن يعرفه وهو لم يقدر إلا على ذلك القول الذي رآه صواباً, فهو مأمور به من جهة أنه مقدور لا من جهة أنه هو الصواب, يوضح هذا أن المجتهدين في القبلة إذا صلوا لأربع جهات فالمصيب للقبلة واحد قطعاً, والجميع فعلوا ما امروا به ولا أثم عليهم, وتعيين القبلة سقط عن العاجزين عن معرفتها, وصار الواجب على كل واحد أن يفعل ما يقدر عليه بعد الاجتهاد وهو ما يعتقده انه جهة الكعبة. فهو مأمور بعين الصواب ولكن بشرط القدرة على معرفته, ومأمور بما يعتقد انه هو الصواب, ما دام لا يقدر عليه. وتعيينه في هذه الحالة من جهة قدرته لا من جهة الشرع الاسلامي. ثالثاً – اسباب الاختلاف اسباب الاختلاف المذموم 28) ترجع هذه الأسباب الى البغي والهوى والجهل, وقد تجتمع هذه الاسباب فيتولد عنها الاختلاف في اقبح صوره واشكاله, وقد تتفرق فتورث من الاختلاف الذميم ما يكفي لإثم المختلفين وهلاكهم. اولاً- البغي 29)  أما البغي فهو مجاوزة الحق, جاء في اللسان لابن منظور: كل مجاوزة وافراط على المقدار الذي هو حد الشيء بغي. وعلى هذا الاساس قالوا في تعريفات البغي أنه قصد الفساد, والظلم, والحسد والتكبر, والكذب لان المتلبس بهذه الاشياء قد تجاوز الحد الذي يجب ان يقف عنده. وقد بيّن القرآن‏ الكريم أن من اسباب الاختلاف المذموم الذي وقع فيه اهل الكتاب هو البغي, سواء كان اختلافهم فيما بينهم او مع المسلمين, قال تعالى في سورة البقرة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ), وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 19 (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وفي تفسير ابن كثير يصدد هذه الآية الكريمة (أي بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا). 30) وقد يقع بين المسلمين مثل هذا الخلق الذميم أو شيء منه فيورث الفرقة والاختلاف الذميم لما في النفوس من استعداد للظلم والحسد وحب العلو في الارض ولو عن طريق الفساد وكل هذا من مظاهر البغي. و من صور البغي الذي يقع بين المسلمين أن تكون طائفة على عمل جائز مشروع فتنكره الاخرى بغيا منها على الاولى, كما في تنوع بعض العبادات كالأذان والاقامة والقنوت ودعاء الاستفتاح وصلاة الجنازة وصلاة العيدين ونحو ذلك, فهيئات هذه العبادات وكيفياتها كلها جائزة مشروعة وإن كان يقع القول فيها في الافضلية لا في المشروعية ولكن بسبب البغي قد ينكر البعض على من لا يأخذ بما اخذه هو واختاره من انواع هذه العبادات, ولا يكتفي بهذا الانكار بل قد يعاديه ويقاطعه فيع في الاختلاف الذميم. ومن صور البغي ايضاً بين المسلمين ان تجحد كل طائفة كل ما عند الاخرى من حق وباطل مما يورث الفرقة والاختلاف الذميم, لان كل طائفة ترى الاخرى معتدية وباغية لجحدها ما عندها مع علمها وتيقنها بالحق الذي عندها فيحملها هذا على عدم قبول انكارها ما عندها من باطل. وقد دل على هذه الصورة من البغي قوله تعالى في سورة البقرة الآية (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ) وهذا ذم للطائفتين في هذا المسلك الذميم الذي هو من مظاهر البغي, وقد وقع شيء منه بين المسلمين, فترى المتصوفة مثلاً تنكر على المتفقهة ما هم عليه من حرص على الظاهر, وتنكر المتفقهة على المتصوفة حرصها على الباطن, وترى كل طائفة فساد مسلك الاخرى فتنكر كل ما عندها من صواب و خطأ مما يهيج الفرقة والبغضاء بين الطرفين ويوقعهم في الاختلاف الذميم, ومرد ذلك كله البغي وعدم انصاف كل طائفة للأخرى بالاعتراف بما عندها من حق وصواب, وبأن ميزان الصواب الذي يجب ان يخضع له الجميع هو القرآن ‏والسُّنَّةُ, فما شهد له القرآن ‏ والسنّة بالصواب مما عند الطائفتين فهو الحق والصواب, وما لم يشهد له القرآن ‏والسُّنَّةُ بالصواب فهو الباطل, وإن الإسلام جاء بالأعمال الباطن والقلوب كما جاء بأعمال الظاهر والجوارح. ثانياً- الهوى 31)  أما الهوى فهو ما تهواه النفس من شهوات ومعاصي. ولم يأت الهوى في القرآن ‏ الكريم إلا مذموماً. ومخالطة الهوى للقلب تورث اتباع ما تهواه النفس من باطل, وترك الحق ومعاداة أهله فيقع صاحب الهوى في الاختلاف المذموم مع أهل الحق, كما حدث لليهود مع رسول الله ﷺ, قال تعالى في سورة البقرة الآية (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) فقد كانوا يعرفون الحق وينتظرون ظهور النبي ﷺ فلما جاء ﷺ من غير الطائفة التي يهوونها لم ينقادوا اليه ولم يؤمنوا به, وقد يقع شيء من هذا الخُلق الذميم بين المسلمين, ومن صوره عدم قبول القول إلا من شخص معين ومن طائفة معينة أو مذهب معين, ولا يرضى البعض برياسة من يؤمر عليه إلا إذا كان من طائفة معينة أو مذهب معين. 32) ومن ضروب الهوى, الهوى في الظهور وحب الغلبة على الآخرين, وقد يسلمه ذلك إلى الكذب, ويفتح له الشيطان باب التأويلات الفاسدة ويزينها في عينه ويلقي في روعه أنه لا يفعل ما يفعله إلا حماية للدين وغيرة على الاسلام. والحقيقة أن تخليص النفس من الهوى أمر عسير لكنه غير مستحيل وعلى المسلم ان يراقب نفسه دائما لئلا يتسرب اليها شيء من الهوى, وإذا لم يستطع إزالته من نفسه فعلى الأقل أن لا يتبع وأن يخالفه لأن متابعته ضلال قال تعالى في سورة ص (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) وفي الحديث الشريف (لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به). ثالثاً- الجهل 33)  ومن أسباب الاختلاف الذميم الجهل, والإنسان عادة, يجهل اكثر مما يعرف وقد ينسى هذه الحقيقة قلا بتثبت فيما ينفيه وينكره, ويظن أن ما عَلِمه هو الحق والصواب فقط وغيره باطل, فيندفع إلى الإنكار على المخالف له على وجه يورث العداء والخصام فيقع في الخلاف الذميم, بل وقد يؤدي الى استباحة عرض وذم المخالف, كما حصل للخوارج فأن اصل وقوعهم في الخلاف الذميم مع المسلمين جهلهم وليس نفاقهم وعلى هذا دلت الأحاديث الشريفة منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ (.... يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وفي حديث اخر: (يدعون الى كتاب الله وليسوا منه في شيء) فهم لم يفهموا معاني القرآن ولا مقاصد الشريعة بالرغم من كثرة قراءتهم للقران الكريم فلبس عليهم الشيطان ما تصوروه ودفعهم ذلك الى الخروج على جماعة المسلمين ومخالفتهم إلى حد أنهم كانوا يتحرجون من قتل غير المسلمين ويستبيحون دماء المسلمين. هذا وقد يكون الجهل بسيطاً فيرجع صاحبه عن جهالته أذا سمع الحق وذكر به كما حصل لبعض الخوارج عندما سمعوا قول الحق من ابن عباس عندما ذهب إليهم وجادلهم وناقشهم وكشف عن شبهاتهم. وقد يكون الجهل غليظاً لاسيما اذا خالطه بغي وهوى, فيصعب, في هذه الحالة, تحويل صاحبه عن جهالته وكشف شبهته ولو أسمعته كل دليل, كما حصل مع الخوارج الذين رفضوا ما قدمه لهم ابن عباس من حجج وبراهين. أسباب الاختلاف السائغ المقبول 34) اختلاف المجتهدين يرجع الى اسباب كثيرة تعرف في مظانها من كتب الفقه والاصول والخلاف, وليس من مقصدنا هنا الاسهاب في بيانها وتفصيلها, وإنما نكتفي بالقول من هذه الاسباب, اختلافهم في قواعد تفسير النصوص سواء كانت نصوص القرآن أو السُّنَّةُ, فيؤدي ذلك إلى اختلافهم فيما يستنبطونه منها من احكام. ومن اسباب اختلافهم, أن بعض الفقهاء تصله الستّة النبوية بطريق موثوق فيفهم معناها ومقصودها ويقول بمقتضاها, بينما لا تصل هذه السُّنَّةُ الى فقيه آخر أو فقهاء اخرون فيجتهدون وقد يصلون باجتهادهم إلى ما جاءت به السُّنَّةُ, وقد يصلون باجتهادهم إلى ما يخالف السُّنَّةُ, والمجتهد المخالف معذور في مخالفته هذه, وقد تصله السُّنَّةُ التي خالفها فيرجع عن قوله المخالف ويزول الخلاف, وقد لا تصله فيبقى قوله المخالف منسوباً اليه, وقد يتبعه آخرون تقليداً له أو لتحسين الظن بقائله فيبقى الخلاف في الخلف ولا يتحولون عنه. وقد يصل الحديث النبوي الشريف إلى الفقيه لطريق لا يثق به فلا يأخذ به بينما وصل الحديث نفسه الى الفقيه الآخر بطريق موثوق فقال به فيحصل الخلاف. وقد يصل الحديث الى الفقهاء ويثقون بطريق وصوله ولكنهم يختلفون في دلالته والمقصود منه فيقع الخلاف فيما بينهم فيما يستنبطونه من أحكام وهذا باب واسع. والذي يجب ان يعلمه المسلم انه ما من إمام من ائمة المسلمين المشهود لهم بالورع والتقوى والعلم, يخالف حديث رسول الله ﷺ عمداً وهو يعلم انه حديث صحيح غير منسوخ وأن دلالته على المقصود واضحة جلية, فهذا لا يظن بأحاد المسلمين فكيف يظن باهل العلم الذين رفع الله شانهم واقدارهم؟ قال تعالى في سورة المجادلة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وعلى هذا لا يجوز للمسلم ان يمد لسانه بالتجريح لأولئك الأئمة المجتهدين في الدين بحجة أنهم قالوا بما يخالف الحديث الصحيح, فإنهم في مخالفتهم معذورون, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, وهم مأجورون على اجتهادهم وقصدهم في معرفة الحق واحكام الشرع. ومن اسباب اختلافهم أيضاً اختلافهم في مدى حجية بعض المصادر الفقهية, فبعضهم مثلاً لا يعترف بالقياس مصدراً للأحكام فلا يعترف بما ينبني عليه أو يستنبط منه من احكام فيقع الخلاف بين القائلين بالقياس والمنكرين له. وأسباب الخلاف بصورة عامة, فيما لا نصّ فيه, ترجع الى اختلاف الفقهاء في مدى ادراكهم وتقديراتهم وإدراكهم لوجود المصلحة والمفسدة وعلل الاحكام ومرامي النصوص ومقاصد الشريعة وتطبيق ذلك كله على الوقائع والاحداث التي يفتون او يقضون فيها. وهذا باب واسع جداً, ولهذا اختلف الصحابة الكرام فيما لا نصّ فيه, مع قرب عهدهم بالنبي ﷺ ومشاهدتهم التنزيل وفقههم اسرار الشريعة ومقاصدها. وإذا كان الصحابة الكرام وهذا شأنهم وعلو مكانتهم اختلفوا في المسائل الاجتهادية الفقهية, فغيرهم أولى بالوقوع في الاختلاف. ونحن لا نضيق صدورنا باختلاف المجتهدين ولا نحسبه تجزئة للدين وانما نراه من مظاهر نشاط الفقهاء المسلمين. وعلينا ان نستفيد منه مع تقدير واحترام لأولئك الفقهاء العظام. إلا اننا نضيق صدورنا بما يرتبه الجُّهال على اختلاف اولئك الفقهاء من تعصب ذميم وخلاف ذميم ومن تنزيلهم لأولئك الفقهاء العظام التقديس والتنزيه عن الخطأ وجعل اقوالهم حاكمة على القرآن ‏والسُّنَّةُ إلى غير ذلك ما يقع فيه المتعصبون الجاهلون مما لم يقل به اولئك المجتهدون العظام. كما تضيق صدورنا بأولئك الذين بدعون عدم التقليد ويسوغون لأنفسهم الاجتهاد في الدين مع جهلهم بفهم اية من كتاب الله, ويسوغون لأنفسهم الطعن بالأئمة المجتهدين بحجة اتباعهم للكتاب والسُّنَّةُ. والمسالة واضحة بسيطة: من كانت له القدرة على استنباط الاحكام من مصادرها فليفعل ذلك. ومن عجز عن ذلك فعليه الاستعانة بأهل العلم الاحياء منهم والاموات. الأحياء بالرجوع اليهم وسؤالهم, والأموات بالرجوع الى كتبهم الموثوقة الصحيحة, ومن هؤلاء أصحاب المذاهب المحفوظة في الأمة والمشهود لأصحابها بالعلم والقبول, وإذا وجد قولاً في مذهبه الذي ارتضاه يخالف الحديث الصحيح, فليعمل بالحديث بعد ان يتأكد من صحته ومعناه, لأن كل الفقهاء المتبوعين قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبي. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين. الدكتور عبدالكريم زيدان
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
https://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
https://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=111