المؤلفات --> الكتب
الوجيز في أصول الفقه
الوجيز في أصول الفقه كتاب الفهُ الشيخ عام 1380هـ - 1962م ويقع في( 434 ) صفحة, وهو الكتاب الثاني في التسلسل الزمني للكتب التي الفها الشيخ, ويعتبر من المقررات الرئيسية في الكثير من الجامعات القانونية والشرعية حول العالم.  تُرجم هذا الكتاب الى اللغات التركية والفارسية والكردية والاندنوسية. يقول الشيخ عن هذا الكتاب وهو يقدم له بطبعته السادسة: الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على اله وصحبه اجمعين ‏و بعد: فان فقهاء الشريعة الإسلامية،رحمهم الله تعالى، وضعوا لنا علماً جليل القدر عظيم ‏الفائدة لا مثيل له عند امم الارض قاطبه لا في القديم ولا في الحديث، ذلك هو علم ‏اصول الفقه. وكان الغرض من وضعه وبناء صرحه وتوضيح معالمه وجوانبه و معانيه خدمة ‏الاسلام عن طريق فهم كتاب الله وسنه رسوله  ﷺ و استنباط ‏الاحكام من نصوصهما من المصادر المعتبرة في ضوء قواعد و معاني هذا العلم علم ‏اصول الفقه .وقد كتبت قبل سنين مذكرات في هذا العلم الجليل لطلبة الصف الرابع في ‏كليه الحقوق بجامعة بغداد. وقد جمعتها في كتاب سميته (الوجيز في اصول الفقه‏‏) وقد اجريت في طبعاته السابقة ما رايته مفيد من التنقيح والتهذيب بالزيادة والتنقيص ‏والتعديل والتمثيل ..وهكذا شأن الانسان في ما يكتبه, فهو لا يكاد يكتب شيئاً في ‏يومه الاّ ويرى نقصا فيه في غده، و هذا من اكبر علامات نقص الانسان و قصوره، وتفرد ‏الله وحده بالكمال المطلق ولكن اكثر الناس لا يعلمون. ومن الزيادات التي رأيت إضافتها ‏في طبعاته السابقة،بعض الأمثلة من القوانين الوضعية قواعد اصول الفقه المتعلقة ‏بتفسير النصوص،لان هذه القواعد الأصولية موازين لفهم العبارة العربية وصحة تفسيرها ‏ومعرفة المراد منها، وما دام القانون مكتوبه باللغة العربية، فهو، بالضرورة يخضع في ‏تفسيره لهذه القواعد كما  سنذكره في ما بعد. واخيرا فإني لأرجو في هذا العمل البسيط المتواضع بطبعته السادسة قد سهلت على طلبتنا الاعزاء سبيل ‏تفهم ما تمس اليه الحاجة من ابحاث هذا العلم، والله اسال ان يوفقني واياهم لخدمة ‏الشريعة واعلاء كلمته انه سميع للدعاء مجيب. الدكتور عبدالكريم زيدان بغداد في 9 شوال 1396 هـ / ‎ 22 ‎ تشرين اول 1976م منهج البحث موضوعات علم الأصول: هي الحكم الشرعي ودليله وطرق استنباطه والمستنبط نفسه أي المجتهدين من حيث شروط الأهلية للاجتهاد. وعلى هذا سنقسم أبحاث هذا الكتاب على النحو التالي: الباب الأول: في مباحث الحكم. الباب الثاني: في أدلة الأحكام. الباب الثالث: طرق استنباط الأحكام وقواعده وما يلحق بهذا كله من قواعد الترجيح والناسخ والمنسوخ. الباب الرابع: الاجتهاد وشروطه والمجتهد والتقليد ومعناه. مقتطفات من الكتاب: استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة شرعا، لا يكون عن هوى وكيفما اتفق، ‏بل لابد من مسالك معينة يسلكها المجتهد، وقواعد يَسْتَرْشِدُ بها، وضوابط يَلْتَزِمُ ‏بمقتضاها ،وبهذا يكون اجتهاده مقبولا، ووصوله الى الاحكام الصحيحة مُمكناً ميسوراً. ‏والعلم الذي يُعنى ببحث مصادر الاحكام وحُجِّيِّتها ومراتبها والاستدلال بها، وشروط هذا ‏الاستدلال، ويرسم مناهج الاستنباط، ويستخرج القواعد المعينة على ذلك، والتي يلتزم ‏بها المجتهد عند تعرفه على الاحكام من أدلتها التفصيلية، هو علم اصول الفقه، ولهذا ‏كان هذا العلم، كما قال العلامة ابن خلدون: من اعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدراً، ‏واكثرها فائدة.‏ ‏وحقيقه اصول الفقه لا تخرج عما بينَّاه، ولكن الاصوليين يذكرون له تعريفاً اصطلاحياً ‏باعتباره لقباً و اسما ًلعلم مخصوص من علوم الشريعة ،ويمهدون لهذا التعريف بيان معناه ‏،باعتباره مركبا اضافيا مكونا من كلمه ( أصول) و هي المضاف ،وكلمة ( الفقه) وهي ‏المضاف اليه. والحق: أن هذا السلك يفيد الطالب المبتدئ من جهة تعريفه باصطلاحات القوم وأهل هذا الفن، فلا يستوحش منها إذا رجع الى كتبهم، ولهذا فقد آثرنا أن ‏نجاريهم في هذا النهج، فنذكر تعريف (أصول الفقه) باعتباره مركبا اضافيا، ثم تعريفه ‏باعتباره لقباً على العلم الخاص، الذي نحن بسبيل دراسته. تعريف اصول الفقه باعتباره مركباً اضافيا ‎ ‎ وتعريفه بهذا الاعتبار يستلزم تعريف جزئيه: اصول، الفقه ‎‎ فالأصول :  جمع أصل، وهو في اللغة: ما يُبتنى عليه غيره، سواء كان الابتناء  حسيا او عقلياً، وفي عرف العلماء واستعمالاتهم، يراد بكلمة ((الاصل)) ، عدة معان ‏منها: أ_ الدليل: فيقال أصل هذه المسالة الإجماع، أي دليلها الإجماع. وبهذا  المعنى قيل: أصول الفقه، أي أدلته، لأن الفقه ينبني على الادلة ابتِنَاءً عقلياً. ب _ الراجح: مثل قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، اي الراجح في الكلام  حمله على الحقيقة، لا المجاز ومنه: الكتاب أصل بالنسية إلى القياس، أي ‏الراجح هو الكتاب. ج- القاعدة: فيقال :إباحة المَيْتَةِ للمضطرِّ على خلاف الأصل خلاف القاعدة العامة ‏وقولهم الأصل ان الفاعل مرفوع ، أي أن القاعدة العامة المستمرة: هي رفع ‏الفاعل، أو أن رفع الفاعل من قواعد علم النحو. د- المستصحب: فيقال :الأصل براءة الذِّمَّة، أي يستصحب خلو الذمة من الانشغال ‏بشيء حتى يَثْبُتَ خلافُه. اما (الفقه)،فهو في اللغة: العلم بالشيء والفهم له، ولكن استعماله في القرآن الكريم يرشد إلى أن المراد منه ليس مطلق العلم، بل دقَّة الفهم، ولطف الادراك ‏، ومعرفة غرض المتكلم ، ومنه قوله تعالى: ‎ (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ) وقوله تعالى: (فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا ‏يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا). أما الفقه في اصطلاح العلماء: فهو (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من ‏ادلتها التفصيلية)، او هو هذه الأحكام نفسها. والاحكام: جمع حكم، وهو إثبات أمر لآخر، إيجابا او سلبا، مثل قولنا :  الشمس مشرقة او غير مشرقة، والماء ساخن أو غير ساخن. والمراد بالأحكام هنا: ما يثبت لأفعال المكلفين من وجوب، أو ندب، أو حرمة ،أو كراهة، أو ‏إباحة، أو صحة ،أو فساد، أو بطلان. ولا يشترط العلم بجميع الاحكام الشرعية لصحة إطلاقه كلمة الفقه، فالعلم بجملة منها ‏يسمّى فقهاً، كما تسمّى هذه الجملة فقهاً ايضاً، ويسمى صاحبها فقيهاً مادامت عنده ‏مَلَكَةُ الاستنباط. وقيدت الاحكام بكونها شرعيةً، للدلالة على أنها منسوبة الى الشرع، أي مأخوذة منه رأساً أو بالواسطة، فلا تدخل في التعريف الاحكام العقلية كالعلم بأن الكل ‏أكبر من الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، وأن العالم حادث، ولا الأحكام الحسية: أي الثابتة ‏بطريق الحس، كعلمنا أن النار محرقة، ولا الأحكام الثابتة بطريق التجربة: كالعلم بأن ‏السم قاتل، ولا الأحكام الوضعية: أي الثابتة بالوضع، كالعلم بأن كان واخواتها ترفع المبتدأ ‏وتنصب الخبر. ويُشْتَرط في هذه الاحكام الشرعية أن تكون ( عملية)،أي متعلقة بأفعال المكلفين: ‏كصلاتهم، وبيوعهم، وأشربتهم، وجناياتهم، أي ما كان منها من العبادات أو المعاملات، ‏فلا يدخل فيها ما يتعلق بالعقيدة، وهي الأحكام الاعتقادية: كالإيمان بالله واليوم الآخر، ‏ولا ما يتعلق منها بالأخلاق وهي الأحكام الاخلاقية: كوجوب الصدق وحرمة الكذب. فهذه ‏أو تلك لا تُبْحَث في علم الفقه، وإنما تُبحث في علم التوحيد، أو الكلام، إن كانت أحكاماً ‏اعتقاديةً، وفي علم الأخلاق أو التصوف، إن كانت أحكاماً أخلاقيةً. ويُشْتَرط في هذه الاحكام الشرعية العملية أن تكون مكتسبة، أي مستفادة من الأدلة ‏التفصيلية بطريق النظر والاستدلال. ويترتب على هذا الشرط: أن علم الله بالأحكام أو علم الرسول بها، أو علم المقلدين بها، ‏كل ذلك لا يعتبر في الاصطلاح فقهاً، ولا يسمى صاحبها  فقيهاً، فعلم الله لازم لذاته وهو يعلم الحكم والدليل، وعلم الرسول مستفاد من ‎ الوحي لا مكتسب من الأدلة، وعلم المقلد مأخوذ بطريق التقليد لا بطرق النظر والاجتهاد. والادلة التفصيلية: هي الادلة الجزئية التي كل منها بمسالة خاصة، وينص على حكم ‏معين: لها، مثل: أ- قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) فهذا دليل تفصيلي، أي ‏دليل جزئي يتعلق بمسألة خاصة: و هي النكاح الامهات، ويدل على حكم معين: ‏هو حرمة نكاح الامهات. ب- قوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )، دليل ‏جزئي يخص مسالة معينة: وهي الزنى، ويدل على حكم خاص بها: وهو حرمة ‏الزنى. ج- قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) ‏دليل جزئي يتعلق بمساله معينه: هي إعداد القوه من قِبَلِ الجماعة ويدل على ‏حكم معين خاص بها: وهو وجوب إعداد القوة من قبل الجماعة لإرهاب العدو. د- قوله عليه الصلاة و السلام: (العَمَدُ قَوَد) دليل جزئي يتعلق بمسالة خاصة: هي القتل العمد ، ويدل على حكمها :وهو وجود القصاص. هـ- الإجماع على أن ميراث الجدة السدس، دليل جزئي ينص مسألة معينة: هي ‏ميراث الجدة، ويدل على حكمها؛ وهو وجوب إعطاء الجدة السدس. فالأدلة التفصيلية: هي التي تدلنا على حكم كل مسألة، ومن ثَمَّ فهي موضوع ‏بحث الفقيه ليتعرَّف على الأحكام التي جاءت بها، مستعينا على ذلك بما قرَّره ‏علم الأصول من قواعد للاستنباط ومناهج للاستدلال، أما الأصولي فلا يبحث في ‏هذه الأدلة، وانما يبحث في الأدلة الإجمالية، أي الكلية، ليتعرف عل ما فيها من ‏أحكام كلية، ليضع القواعد التي يطبقها الفقيه على الأدلة الجزئية حتى يصل الى ‏معرفة الحكم الشرعي. تعريف أصول الفقه اصطلاحاً: أما تعريفه اللَّقبى، أي باعتباره لقباً على علم مخصوص: فهو العلم بالقواعد والأدلة ‏الاجمالية، التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه كما يطلق على هذه القواعد والأدلة ‏الإجمالية. والقواعد: قضايا كلية ينطبق حكمها على الجزئيات التي تندرج تحتها فنعرف بها حكم ‏هذه الجزئيات ومن أمثلة ذلك‏: قاعدة «الأمر يفيد الوجوب، إلّا إذا صرفته قرينة عن ذلك»، فهذه القاعدة ينطبق حكمها على جميع النصوص الجزئية التي تندرج تحت هذه القاعدة، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا ‏الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، فجميع صيغ الأمر المجردة‏ تندرج تحت هذه القاعدة ويعرف بذلك وجوب ما تعلقت به صيغة الامر: كوجوب الايفاء بالعقود, ووجوب الصلاة, وايتاء الزكاة, وطاعة الرسول.‏ ومثل قاعدة: (النهي يفيد التحريم، إلا إذا وُجِدَت قرينة تصرفه عن التحريم)، فهذه ‏القاعدة تنطبق على النصوص الناهية المجردة ، ويعرف بهذا الانطباق حرمة ما تعلقت به ‏صبغ النهي ، مثل قوله تعالى :(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ‏آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، فيكون حكم الزنى الحرمة ، وحكم ‏أكل أموال الناس بالباطل الحرمةَ أيضاً. وبهذه القواعد: يتوصل المجتهد إلى استنباط الفقه، أي إلى استنباط الأحكام  الشرعية من أدلتها التفصيلية، فإذا أراد المجتهد مثلاً أن يعرف حكم الصلاة ، قرأ قوله ‏تعالى: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) فيقول: «اقيموا»: صيغة أمر مجردة، وقاعدة: (الأمر للوجوب إلا ‏لقرينة صارفه) تنطبق عليها ، فينتج عن ذلك: أن القيام بالصلاة واجب‏. اما الأدلة الإجمالية: فهي مصادر الأحكام الشرعية، كالكتاب والسنة والاجماع والقياس‏، والعلم بها يكون من حيث العلم بحجِّتِها ومنزلتها في الاستدلال بها ، ووجوه دلالة النص ‏حسب اختلاف أحوال هذه الدلالة، ومعنى الإجماع وشروطه، وأنواع القياس وعلته، ‏وطرق التعرف على هذه العلة، وغير ذلك من الأبحاث المتعلقة بالقياس وبسائر الأدلة ‏الإجمالية. فالأصولي: يبحث عن الأدلة الإجمالية، من حيث دلالتها على الاحكام الشرعية من ‏أدلتها الجزئية. والفقيه: يبحث في الأدلة الجزئية، ليستنبط الإحكام الجزئية منها، مستعيناً بالقواعد ‏الأصولية، والإحاطة بالأدلة الإجمالية ومباحثها. ‎ الغرض من دراسة أصول الفقه، ومدى الحاجة اليه: يتضح مما قلنا سابقا: أن الغرض من وضع أصول الفقه، هو الوصول إلى ‎ ‎ ‏الأحكام الشرعية العملية ،بوضع القواعد والمناهج الموصلة اليها، على وجه يسلم به المجتهد عن الخطأ والعثار. فالفقه والاصول: يتفقان على أن غرضهما التوصل ‏إلى الأحكام الشرعية، إلا أن الأصول: نبين مناهج الوصول وطرق ‎ ‎ الاستنباط ، والفقه: يستنبط الاحكام فعلاً على ضوء المناهج التي رسمها علم الأصول، ‏وبتطبيق القواعد التي قررها. ولا يقال: لم تعد هناك حاجة إلى هذا العلم بعد القول بسد باب الاجتهاد لأننا نقول :إن الاجتهاد. باقٍ إلى يوم القيامة، ولكن بشروطه ، ومن افتى بسد باب ‏الاجتهاد ، قاله اجتهاداً عندما رأى جرأة الجهال على شرع الله، وتشريع الأحكام بالهوى‏، وادعاء الاجتهاد من قبل أناس لا يعرفون منه إلا الاسم. ومن لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد. فهو بحاجة أيضاً إلى معرفة هذا العلم والوقوف على ‏قواعده، حتى يعرف مآخذ أقوال الأئمَّة، وأساس مذاهبهم، وقد يستطيع المقارنة ‏والترجيح بين هذه الأقوال. وتخريج الأحكام على ضوء مناهج الأئمة، التي اتبعوها في ‏تقرير الأحكام واستنباطها. وكما أن المعنى بالأحكام الشرعية لا غنى له عن هذا العلم، فإن المعني بالقوانين ‏الوضعية، من محام أو قاض أو مدرس، يحتاج هو الآخر إلى هذا العلم، لان القواعد ‏والأصول التي قررها علم الأصول، مثل: القياس وأصوله، والقواعد الأصولية لتفسير ‏النصوص، وطرق دلالة الألفاظ والعبارات على معانيها، ووجوه هذه الدلالة، وقواعد ‏الترجيح بين الأدلة، كل ذلك وغيره تَلْزَمْ الإحاطة به من قِبَلِ من يتصدى للقوانين ‏الوضعية، ويريد الوصول الى تفسيرها ومعرفة ما انطوت عليه من أحكام، ولهذا فقد ‏اعتنت كليات الشريعة والحقوق في العراق والشام ومصر وغيرها- قديماً وحديثاً- ‏بتدريس هذا العلم لطلابها. نشأة علم أصول الفقه: أصول الفقه وجد منذ أن وجد الفقه، فما دام هناك فقه لزم حتماً وجود أصول وضوابط وقواعد له، وهذه هي مقومات علم الأصول وحقيقته، ولكن الفقه سبق علم ‏الأصول في التدوين وإن قارنه في الوجود، بمعنى ان الفقه دون، وهذبت مسائله، ‏وأرست قواعده، ونظمت أبوابه قبل تدوين قواعد أصول الفقه، وتشذيبها وتمييزها عن ‏غيرها، وهذا لا يعني أنه ينشأ إلا منذ تدوينه، وانه لم يكن موجوداً قبل نلك ، أو أن ‏الفقهاء ما كانوا يجرون في استنباطهم للأحكام على قواعد معينة، ومناهج ثابته، ‏فالواقع أن قواعد هذا العلم ومناهجه كانت مستقرة في نفوس المجتهدين ،وكانوا يسيرون فيه ضوئها وإن لم ‏يصرحوا بها ،فعبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه عندها كان يقول: إن الحامل المتوفي ‏عنها زوجها، تنقضي عدتها بوضع حملها، لقوله تعالى: (وَأُلَاتِ الأَحْمَال أجَلَهُنَّ أنْ يَضَعْنَ ‏حَمْلَهُنَّ) ويستدل بأن سورة الطلاق التي فيها هذه الآية، نزلت بعد سورة ‏البقرة التي فيها قوله تعالى: (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزوْاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) إنما كان يشير بهذا الاستدلال إلى قاعدة من قواعد الأصول ، وهي : إن النص اللاحق ينسخ النص السابق، وإن لم يصرح بذلك، كما أن ‏العادة أن الشيء يوجد ثم يدون، فالتدوين كاشف عن وجوده لا منشئ له كما في علم ‏النحو والمنطق، فما زالت العرب ترفع الفاعل، وتنصب المفعول في كلامها، وتجري ‏على هذه القاعدة وغيرها من قواعد النحو قبل تدوين علم النحو، والعقلاء كانوا يتناقشون ‏ويستدلون بالبديهيات قبل أن يدون علم المنطق، وتوضع قواعده. فأصول الفقه، إذن: صاحب الفقه ولازمه منذ نشأته، بل كان موجوداً قبل نشأة الفقه،‏لأنه قوانين للاستنباط ،وموازين للآراء، ولكن لم تظهر الحاجة إلى تدوينه أولاً، ففي زمان ‏النبي  ﷺ ما كانت هناك حاجة للكلام عن قواعد هذا العلم فضلاً عن ‏تدوينه، لأن النبي  ﷺ  كان هو مرجع الفتيا وبيان الأحكام، فما كان هناك ‏من داعٍ للاجتهاد والفقه، وحيث لا اجتهاد، فلا مناهج للاستنباط، ولا حاجة الى قواعده. ‎ وبعد وفاة النبي الكريم  ﷺ  ظهرت وقائع وأحداث كان لا بد من مواجهتها بالاجتهاد واستنباط أحكامها من الكتاب أو السنة، إلا أن فقهاء الصحابة لم يشعروا ‏بالحاجة إلى الكلام عن قواعد الاجتهاد ومسالك الاستدلال والاستنباط. لمعرفتهم باللغة ‏للعربية، وأساليبها، ووجوه دلالة ألفاظها وعباراتها على معانيها، ولإحاطتهم بأسرار ‏التشريع وحكمته، وعلمهم بأسباب نزول القرآن وورود السنة. وكان نهجهم في الاستنباط: أنهم كانوا إذا وردت عليهم الواقعة التمسوا حكمها في كتاب الله، فإن لم يجدوا الحكم فيه رجعوا إلى السنة، فإن لم يجدوه في ‏السنة اجتهدوا في ضوء ما عرفوا من مقاصد الشريعة، وما تومئ إليه نصوصها أو تشير، ‏ولم يجدوا عسراً في الاجتهاد، ولا حاجةً لتدوين قواعده، وقد ساعدهم. ذلك ما كان ‏عندهم من ذوق فقهي اكتسبوه من طول صحبتهم للنبي  ﷺ ‏وملازمتهم له، وما امتازوا به من حدة الذهن، وصفاء النفس، وجودة الإدراك. ‎ وهكذا انقضى عصر الصحابة ولم تدون قواعد هذا العلم، وكذلك فعل التابعون، فقد ساروا على نهج الصحابة في الاستنباط، ولم يحسوا بالحاجة إلى تدوين ‏أصول استخراج الاحكام من أدلتها ، لقرب عهدهم من عصر النبوة، ولتفقههم على ‏الصحابة وأخذهم العلم منهم.  ‎ إلا أنه بعد انقراض عصر التابعين اتسعت البلاد الإسلامية ، وجدت حوادث ووقائع ‏كثيرة، واختلط العجم بالعرب على نحو لم يعد بسببه اللسان العربي على سلامته ‏الأولى، وكثر الاجتهاد والمجتهدون، وتعددت طرقهم في الاستنباط، واتسع النقاش ‏والجدل ، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات ، فكان من أجل ذلك كله أن أحسن الفقهاء ‏بالحاجة إلى وضع قواعد وأصول وضوابط للاجتهاد، يرجع إليها المجتهدون عند ‏الاختلاف، وتكون موازين للفقه وللرأي الصواب. وقد استمدت تلك القواعد من أساليب اللغة العربية، ومبادئها، ومما عرف من مقاصد الشريعة وأسرارها، ومراعاتها للمصالح ،وما كان عليه الصحابة من ‎ ‏نهج في الاستدلال، ومن مجموع هذه القواعد والبحوث تكون علم أصول الفقه. وقد بدأ هذا العلم، بصورته المدونة ، وليداً عل شكل قواعد متناثرة في ثنايا كلام ‏الفقهاء وبيانهم للأحكام، فقد كان الفقيه يذكر الحكم ودليله ووجه الاستدلال به. كما ‏أن الخلاف بين الفقهاء كان يعضد بقواعد أصولية يعتمد عليها كل فقيه لتقوية وجهة نظره‏، وتعزيز مذهبه وبيان مأخذه في الاجتهاد. وقد قيل: إن أول من كتب في أصول الفقه هو ابو يوسف، صاحب أبي حنيفة، ولكن ‏لم يصل الينا شيء من كتبه. والشائع عند العلماء:  أن أول من دون هذا العلم، وكتب فيه بصورة مستقلة، هو الإمام ‏محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ فقد ألف فيه رسالته الأصولية المشهورة. وتكلم فيها عن القرآن، وبيانه للأحكام. وبيان ‏السنة للقرآن، والاجماع والقياس، والناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي. والاحتجاج يخبر ‏الواحد، ونحو ذلك من الأبحاث الأصولية. ‎ وكان نهجه في هذه الرسالة يتسم بالدقة، والعمق، واقامة الدليل على ما يقول، ‏ومناقشة آراء المخالف بأسلوب علمي رائع رصين. وبعد الشافعي، كتب أحمد بن حنبل كتاباً في طاعة الرسول  ﷺ، ‏وآخر في الناسخ والمنسوخ، وثالثاً في العلل، ثم تتابع العلماء في الكتابة، وأخذوا ‏ينظمون أبحاث هذا العلم، ويوسعونه، ويزيدون عليه. ‎ مسالك العلماء في بحث أصول الفقه: ولم يسلك العلماء في أبحاث أصول الفقه طريقاً واحداً، فمنهم من سلك مسلك تقرير القواعد الأصولية ، مدعومة بالأدلة والبراهين دون التفات إلى موافقة أو ‏مخالفة هذه القواعد للفروع الفقهية المنقولة عن الأئمة المجتهدين ، فهو اتجاه ‏نظري، غايته: تقرير قواعد هذا العلم كما يدل عليها الدليل، وجعلها موازين لضبط ‏الاستدلال. وحاكمة على اجتهادات المجتهدين لا خادمة لفروع المذهبي وهذا المسلك ‏عرف بمسلك المتكلمين أو طريقة المتكلمين، وقد اتبعه المعتزلة والشافعية والمالكية ،كما اتبعه علماء الجعفرية في أول تدوينهم لعلم أصول الفقه ،وإن جنحوا بعد ‏ذلك إلى مزج هذه الطريقة بالطريقة الأخرى وهي :تقرير القواعد الأصولية على ضوع ‏فروع المذهب. وتمتاز هذه الطريقة - طريقة المتكلمين- بالجنوح الى الاستدلال العقلي، وعدم التعصب ‏للمذاهب، والإقلال من ذكر الفروع الفقهية، وإن ذكرت، كان ذلك عرضا على سبيل ‏التمثيل فقط. ‎ ومن العلماء من سلك مسلكاً آخر، يقوم على تقرير ‎ القواعد الأصولية على مقتضى ‏ما نقل عن الآئمة من فروع فقهية، بمعنى: أن هؤلاء العلماء وضعوا القواعد التي رأوا ‏أن أئمتهم لاحظوها في اجتهاداتهم، واستنباطهم للأحكام على ضوء ما ورد عنهم من فروع فقهية، وقد اشتهر ‎ علماء الحنفية باتباع هذا المسلك، ‏حتى عرفت هذه الطريقة بطريقة الحنفية. ويمتاز هذا المسلك بالطابع العملي، ‎ فهو دراسة عملية تطبيقية للفروع الفقهية المنقولة ‏عن أئمة المذهب،  واستخراج القوانين والقواعد والضوابط الأصولية ،التي لاحظها واعتبرها ‏أولئك الأئمة في استنباطهم، ‎ ‎ ومن ثم فإن هذه الطريقة تقرر القواعد الخادمة لفروع ‏المذهب، وتدافع عن مسلك أئمة هذا المذهب في الاجتهاد، كما إن هذه الطريقة، وهذا هو ‏نهجها ،أليق بالفروع وأمس بالفقه كما يقول العلامة ابن خلدون. ‎ وقد وجدت طريقة ثالثة في البحث، تقوم على الجمع بين الطريقتين، والظفر بمزايا ‏المسلكين، فتعنى بتقرير القواعد الأصولية المجردة التي يسندها الدليل، لتكون موازين للاستنباط ،وحاكمة على كل رأي واجتهاد، مع التفات إلى المنقول عن الأئمة من الفروع ‏الفقهية، وبيان الأصول التي قامت عليها تلك الفروع ،وتطبيق القواعد عليها، وربطها بها، وجعلها خادمة لها، وقد اتبع هذه الطريقة علماء من مختلف المذاهب: كالشافعية، ‏والمالكية، والحنابلة، والجعفرية، والحنفية. ‎ ومن الكتب المؤلفة على طريقة المتكلمين: كتاب (البرهان) لإمام الحرمين عبد ‏الملك بن عبدالله الجويني الشافعي المتوفي سنة 413هـ وكتاب ((المستصفى)) لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي المتوفي سنة ‏‏505هـ، وكتاب ((المعتمد))لأبي الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي المتوفي سنة ‏‏413هـ. وقد لخص هذه الكتب الثلاثة فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى سنة 606هـ . كما لخصها أيضاً وزاد عليها الإمام سيف الدين الآمدي الشافعي المتوفى سنة 631ه ‏في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام ). أما الكتب المؤلفة على طريقة الحنفية فمن أهمها، كتاب(الأصول) لأبي بكر ‏أحمد بن علي المعروف بالجصاص المتوفى سنة 370هـ ، وكتاب ((الأصول)) لأبي زيد عبدالله بن عمر الدبوسي المتوفى سنة 430هـ،وكتاب ‏‏((الأصول)) لفخر الإسلام علي بن محمد البزدوي المتوفى سنة 482ه،وشرحه ‏المسمى :كشف الاسرار)) لعبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة 730هـ. ومن الكتب المؤلفة على الجمع بين الطريقتين كتاب (بديع النظام) الجامع بين كتابي ‏البزدوي والإحكام،  ‎ للإمام مظفر الدين احمد بن علي الساعاتي الحنفي المتوفى سنة ‏‏649هـ, وكتاب (التنقيح)،وشرحه (التوضيح) لصدر الشريعة عبدالله بن مسعود الحنفي ‏المتوفى سنة 747هـ و (شرح التوضيح) للشيخ سعد الدين مسعود  ابن عمر التفتزاني الشافعي المتوفى سنة 792هـ وكتاب (جمع الجوامع) لتاج الدين عبد ‏الوهاب بن علي السبكي الشافعي المتوفى سنة 771هـ ،وكتاب(التحرير) لابن الهمام ‏الحنفي المتوفى سنة 861هـ، وشرحه (التقرير والتحبير) لتلميذ المؤلف محمد ابن ‏محمد أمير الحاج الحلبي المتوفى سنة 879هـ، وكتاب (مسلم الثبوت) لمحب الله ابن ‏عبد الشكور المتوفى سنة 1119هـ، و(شرحه) للعلامة عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، وغيرها من الكتب.
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
http://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
http://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=94