المؤلفات --> البحوث الفقهية
حقوق الافراد في دار الاسلام
  حقوق الأفراد في دار الإسلام بحث كتبه الشيخ في ستينيات القرن الماضي ,طُبع بكراس منفصل , ‏ونشر ايضاً مع مجموعة بحوث بكتاب تحت اسم "مجموعة بحوث فقهية" 1) تمهيد شخصية الفرد في دار الإسلام – الدولة الإسلامية – بارزة لا تفنى وإنما تقوم بازائها ، تعينها وتعمل على بقائها وصلاحها، كما تعمل هي على بقاء شخصية الفرد وصلاحه، لأن بقاء وصلاح كل منهما ضروري للآخر، فلا تنافر بين الاثنين ولا تعارض، ولا مصلحة لأحدهما في مخاصمة الآخر ومعارضته لمحض المخاصمة والمعارضة. وإنما قد يحدث شيء من ذلك عند انحراف أحدهما عن نهج الإسلام الذي يخضع له الإثنان.. من أجل هذا كله يتمتع الفرد في الدولة الإسلامية بكامل حقوقه التي أقرّها له الإسلام، لأن ما أقرّه الإسلام تقرّه دولة الإسلام... ثم إن تمتع الفرد بحقوقه يعتبر أعظم ضمان لبقاء الدولة الإسلامية سليمة البنيان قادرة على تحقيق أهدافها. ومن ثم فإن الدولة تحرص على تمتع الأفراد بحقوقهم، حرص هؤلاء على هذه الحقوق.. ولا مصلحة مطلقاً للدولة في السطو على هذه الحقوق لأنها قامت لتمكين الأفراد من أن يحيوا الحياة الإسلامية، ومن أهم أسباب هذا التمكين تمتعهم بحقوهم بل ودفعهم إلى استعمال هذه الحقوق... 2) منهج البحث وتسهيلاً للبحث تقسم الحقوق التي يتمتع بها الأفراد في الدولة إلى قسمين: حقوق سياسية، وحقوق عامة، ونتكلم على كل منهما في فصل على حدة: الفصل الأول الحقوق السياسية للأفراد 3) المقصود بالحقوق السياسية: الحقوق السياسية عند القانونيين، هي الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضواً في هيئة سياسية مثل حق الانتخاب والترشيح وتولي الوظائف العامة في الدولة. أو هي الحقوق التي يساهم الفرد بواسطتها في إدارة شؤون الدولة أو في حكمها. ونحن في هذا المبحث سنتكلم عن الحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية بمعناها الذي بينّاه عند القانونيين لكي يتبين لنا مدى ما اعترفت الشريعة به من حيث هذه الحقوق للأفراد. أولاً- حق الانتخاب 4) انتخاب رئيس الدولة للأفراد حق انتخاب رئيس الدولة، فمن اختاره لهذا المنصب فهو رئيس الدولة الشرعي، وبهذا صرّح الفقهاء. فمن أقوالهم الصريحة في هذه المسألة قولهم: "من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته". وقولهم أيضاً: "الإمامة- أي رئاسة الدولة – تثبت بمبايعة الناس – أي لرئيس الدولة – لا بعهد السابق له. فرئيس الدولة رجل تختاره الجماعة وترتضي به وهو يستمد سلطانه من هذا الرضا وذلك الاختيار. 5) أساس هذا الحق وإذا كان للأفراد حق انتخاب رئيس الدولة، فما أساس هذا الحق ؟ الذي نراه أن هذاالحق يقوم على أساس مبدأ الشورى الذي أقرّته الشريعة ومبدأ مسؤولية الجماعة عن تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام. 4)  أولاً – مبدأ الشورى وهذا المبدأ نطق به القرآن الكريم قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) فهذا النص صريح في أن أمور المسلمين، لا سيما المهمة منها، تدار بطريق الشورى. ولا شك أن منصب رئيس الدولة من الأمور الخطيرة التي يجب أن تجري فيها المشاورة. لأنه أمر يهمهم جميعاً ويتعلق بعميم شؤونهم فيجب أن يكون لهم رأي فيمن يولى عليهم. والمشاورة تستلزم أن يبدي كل واحد رأيه فيمن يراد انتخابه رئيساً للدولة. 7) ثانياً- مسؤولية الجماعة عن تنفيذ أحكام الشرع فالجماعة مسؤولة عن تنفيذ احكام الشرع وادارة شؤونها وفق هذه الأحكام، وهذه المسؤولية تستفاد من مجموع النصوص القرآنية، وتؤيدها السوابق التاريخية الثابتة. فخطابات الشارع في القرآن الكريم موجهة إلى جماعة المسلمين، مثل قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ) و(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) و (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). فهذه النصوص وأمثالها تدل دلالة واضحة على مسؤولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام الششرع ومنها ما تعلق بجميع شؤونهم. 8) وهذه المسؤولية الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة تقتضي أن يكون السلطان من حق الجماعة نفسها لتستعين به على تنفيذ ما هي مسؤولة عنه، وهو تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام. 9) ولكن مباشرة الجماعة سلطانها هذا لا يمكن أن يتم بصفتها الجماعية فإن هذا غير ممكن عملاً، ولهذا ظهرت نظرية النيابة في مباشرة ما للجماعة من سلطان، فالجماعة تختار من ينوب عنها في مباشرة سلطانها لتنفيذ ماهي مكلفة به شرعاً. وهذه الإنابة من خالص حقها، لأن المالك يحق له أن يوكل غيره فيما يمكله، والأمة – جماعة المسلمين- تملك السلطان فتملك التوكيل فيه.. فهي وحدها تختار رئيس الدولة. 10) المركز القانوني لرئيس الدولة وبناء على ما قدمنا يتضح بجلاء المركز القانوني لرئيس الدولة فهو مركز النائب والوكيل، الوكيل عن الأمة، فهي التي انتخبته نائباً عنها ليدير شؤونها وفق مناهج الشرع الإسلامي ولتطبيق سائر أحكامه، وهذا ما صرح به الفقهاء. فمن أقوالهم، ما ذكره الفقيه المشهور الماوردي وهو يتكلم عن أثر موت الخليفة أو الوزير في سلطة الأمير، "وإذا كان تقليد الأمير من قِبل الخليفة لم ينعزل -أي الامير - بموت الخليفة, وإن كان من قبل الوزير انعزل بموت الوزير، لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين وتقليد الوزير نيابة عن نفسه". 11)  الأمة مصدر السلطات وإذا كان مركز رئيس الدولة مركز الوكيل، فمن البديهي أنه يستمد سلطاته من موكله، أي من الأمة. فالأمة هي مصدر السلطات كما نقول في الاصطلاح القانوني الحديث، وهو يباشر هذه السلطات باسم الأمة وبهذا الاعتبار. ويلاحظ هنا أن الأمة وإن كانت هي مصدر السلطات، إلا أن سلطانها محدود غير مطلق، محدود بسلطان الله المطلق وبإرادته المتمثلة فيما شرعه من أحكام للأفراد ونظام للجماعة. ومن ثم فإن سلطان الأمة سلطان تنفيذ لهذا النظام وليس بسلطان خلق وإنشاء له.. ويترتب على هذه الطبيعة لسلطانها أنها لا تملك تغيير هذا النظام ولا استعمال سلطانها فيما يناقضه أو يؤدي إلى تغييره. وإذا كانت الأمة لا تملك تغيير شرع الله ولا استعمال سلطانها فيما يناقضه، فرئيس الدولة - هو وكيلها - لا يملك أيضاً هذا الأمر لأن الوكيل لا يملك فيما وكل فيه أكثر مما يملكه الموكل... ويترتب على ما قلناه، أن الأمة، إذا شرعت ما يخالف شرع الله أو نفذت ما يناقض شرع الله، أو قام رئيس الدولة – وهو وكيلها – بشيء من ذلك، كان هذا العمل منهما أو من أحدهما بلا سند شرعي لتجاوزه حدود سلطانها فيكون باطلاً... لأن سلطان الأمة كما قلت سلطان تنفيذ، ينفذ شرعاً إلهياً قائماً وليس بسلطان إنشائي يخلق شرعاً جديداً وينفذه. 12) الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر وإذا كانت الأمة تملك حق انتخاب رئيس الدولة، كما ذكرناه، فكيف تباشر هذا الحق فعلاً، أيقوم أفراد الأمة به مباشرة، أم يقوم بهذا الحق طائفة منهم بتخويل من الأمة؟ الواقع أننا لا نجد في الشريعة نظاماً محدداً صريحاً في كيفية قيام الأمة بحقها في انتخاب رئيس الدولة مما يدل على أن تنظيمه متروك لتقدير الأمة حسب الظروف الزمانية، فيمكن أن يكون بأسلوب الانتخاب المباشر أو غير المباشر، فكلا الأسلوبين، في نظرنا، مما تتسع له قواعد الشريعة. فالانتخاب المباشر يجد له سنداً في قوله تعالى: " أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ " .فهذا النص، بظاهره، يقتضي أن يتشاور أفراد الأمة في شؤونهم، ومنها انتخاب رئيس الدولة فيباشرون جميعاً هذا الحق إلا من استثنى منهم بدليل شرعي، كالصغار والمجانين وغير المسلمين. ويؤيد رأينا هذا في اشتراك أفراد الأمة في هذا الانتخاب ما قاله الإمام الرازي في تفسير هذه الآية قال: " إذا وقعت واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم. أي لا ينفردون برأي، بل ما لم يجتمعوا عليه لا يعزمون عليه ". أما الانتخاب غير المباشر فيجد له سنده في السوابق التاريخية الثابتة في عصر الخلفاء الراشدين، وهو خير العصور فهما للإسلام وتطبيقاً له، فقد تم انتخاب أولئك الخلفاء الكرام من قِبل طائفة من الأمة هم الذين يسمون بأهل الحل والعقد وتابعهم الناس الموجودون في المدينة فبايعوا من اختاروا لرئاسة الدولة. ولم ينتخبهم جميع المسلمين في جميع المدن الإسلامية، ولم ينقل لنا اعتراض على هذه الكيفية لا من الخلفاء الراشدين أنفسهم ولا من غيرهم فيكون ذلك اجماعاً منهم على صحة أسلوب الانتخاب غير المباشر في انتخاب رئيس الدولة . كما اننا نجد سنداً للانتخاب غير المباشر في حق الأمة باختيار رئيسها. فما دام لها هذا الحق فلها أن تباشره رأساً أو بالواسطة بأن تنيب عنها من يباشر حقها هذا ، إذ ليس من اللازم على صاحب الحق أن يباشره بنفسه بل له أن يوكل فيه غيره. وقد أقرّ الفقهاء الانتخاب غير المباشر، لأنهم صرحوا بأن رئيس الدولة ينتخبه أهل الحل والعقد، فلا حاجة لاشتراك جميع الأمة في اختياره، قال ابن خلدون في مقدمته: " وإذا تقرر أن هذا المنصب – أي منصب الخليفة – واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية، وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق طاعته" ويقول الماوردي: " وإمامة – أي رئاسة الدولة الإسلامية – تنعقد بوجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل، والثاني بعهد الإمام من قبله". 13) أهل الحل والعقد وإذا كان انتخاب رئيس الدولة بالانتخاب غير المباشر أسلوباً سائغاً في الشرع الإسلامي وأن الذين يباشرونه هم من يسميهم الفقهاء بأهل العقد والحل، فمن هم أهل العقد والحل؟ وما علاقتهم بالأمة؟ وكيف يحوزون هذه المنزلة؟ أما عن السؤال الأول. فإن الفقهاء يذكرون أوصافاً عامة لأهل العقد والحل، فالماوردي مثلاً يجعل لهم ثلاثة أوصاف: "أحدها العدالة الجامعة لشروطها، والثاني العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. والثالث الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم. ويذهب بعض الفقهاء المحدثين إلى تحديد أوضح في أوصاف أهل الحل والعقد، فيقول رشيد رضا صاحب تفسير المنار ما نصه: "وأولوا الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكّام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة". فيفهم من هذا القول وما ذكره الفقهاء أن أهل الحل والعقد هو المتبوعون في الأمة الذين تثق بهم وترضى برأيهم لما عرفوا به من الإخلاص والاستقامة والتقوى والعدالة وحسب الرأي والمعرفة بالأمور والحرص على مصالح الأمة. أما عن السؤال الثاني أي علاقتهم بالأمة، فهي علاقة النائب والوكيل فهم يباشرون انتخاب رئيس الدولة نيابة عن الأمة. فهم وكلاء عنها في مباشرة حق الانتخاب هذا ، ومن ثم يعتبر اختيارهم رئيس الدولة اختيار الأمة نفسها. أما عن السؤال الثالث أي كيف يحوزون منزلة الحل والعقد في شؤون الأمة، فإن المتبادر إلى الذهن أن الأمة هي التي ترفعهم إلى هذه المنزلة باختيارها لهم. ولكننا لا نجد في السوابق التاريخية القديمة ما يشير إلى أن الأمة اجتمعت وانتخبت طائفة منها واعطتها صفة أهل الحل والعقد. ومع هذا فإن خلو السوابق التاريخيه مما ذكرنا لا يدل على أن من كانوا يسمون بأهل الحل والعقد ما كانوا يمثلون الأمة ولا يعتبرون وكلاء عنها، لأن الوكالة – كما هو معروف- تنعقد صراحة أو ضمناً وقد كانت وكالة أهل الحل والعقد عن الأمة في عصر الإسلام الأول – عصر الخلفاء الراشدين – وكالة ضمنية، لأنهم معروفون بكفاءتهم واخلاصهم وعدالتهم وسابقتهم في الإسلام، ومن ثم فقد كانوا حائزين رضا الأمة وثقتها، فما كانت هناك من حاجة للقيام بانتخابهم صراحة، وحتى لو قامت بهذا الانتخاب لما فاز إلا أولئك ولما ظهر لهم منازع ينازعهم في كونهم أهل الحل والعقد، ومن ثم كان انتخابهم رئيس الدولة بتوكيل ضمني من الأمة وبرضا منها. 14) معرفة أهل الحل والعقد في الوقت الحاضر وإذا أخذنا، في الوقت الحاضر، بالانتخاب غير المباشر لرئيس الدولة، وفقاً للأحكام الشرعية فلا مناص من قيام الأمة بانتخاب من يمثلونها، وينوبون عنها في مباشرة هذا الانتخاب. ومن تنتخبهم الأمة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل الحل والعقد لمشايعة الأمة لهم ومتابعتها لهم ورضاها بنيابتهم. وعلى الدولة أن تضع النظام اللازم لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته، وأن تعين في هذا النظام الشروط الواجب توفرها – على ضوء ما ذكره الفقهاء – فيمن تنتخبهم الأمة لتكوين جماعة أهل الحل والعقد, ومثل هذا الانتخاب ضروري ولازم لايجاد أهل الحل والعقد، واثبات وكالتهم عن الأمة بالتوكيل الصريح، لأن التوكيل الضمني يتعذر حصوله في الوقت الحاضر لكثر أفراد الأمة، ولأن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح باباً خطراً على الأمة ويؤذن بفوضى وشر مستطير، إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحل والعقد أن يجعل نفسه منهم وينصب نفسه ممثلاً عن الأمة بحجة أنها ترضى بنيابته عنها ضمناً. وهذا لا تجوزه الشريعة ولايستسيغه عقل. 15) ولاية العهد وقد يعترض البعض على ما قلناه أن الأمة هي التي تختار رئيس الدولة بأن الفقهاء قالوا أن تولي رئاسة الدولة يتم بعهد من الخليفة السابق إلى الخليفة اللاحق. فالماوردي، مثلاً يقول: "والإمامة – رئاسة الدولة – تنعقد من وجهين: أحدهما باختار أهل العقد والحل الثاني بعهد الإمام من قبله". والجواب على هذا الاعتراض أن التكييف القانوني لولاية العهد أنه ترشيح من الخليفة السابقة لمن يتولى رئاسة الدولة وليس بتعيين، بدليل أن أهل الحل والعقد يبايعون المرشح، فلو كان مجرد العهد له يكفي لتوليه رئاسة الدولة لما احتاج إلى مبايعتهم ولو قدر أنهم أو الأمة لم يقبلوا هذا الترشيح لما صار المرشح رئيساً للدولة، وهذا ما صرح به بعض الفقهاء، فقالوا: "الإمامة أي رئاسة الدولة – تثبت بمبايعة الناس له – أي لرئيس الدولة – لا بعهد السابق له". ثانيا- حق المشاورة 16) والحق الثاني للأفراد هو حق المشاورة ، وهو في الحقيقة، امتداد لحق الأمة في انتخاب رئيس الدولة، فما دامت هي التي تختاره وهو وكيلها في إدارة شؤونها فمن حقها عليه أن يشاورهما فيما يريد تنفيذه مما يتعلق بشؤونها. 17) اعتراض ودفعه وقد يعترض علينا بأن الأمة ما دامت هي التي اختارته وهو محل ثقتها فلا معنى لإلزامه بمشاورتها. والجواب على هذا الاعتراض من وجهين:    الوجه الأول: أن رئيس الدولة، وإن كان محل ثقة الأمة، وهي التي اختارته فقد يقدم على أمور تضر الأمة بقصد أو بدون قصد ولا سبيل إلى إصلاح هذا الضرر بعد وقوعه فمن حق الأمة أن تحتاط لنفسها فتلزمه بالمشاورة، دفعاً للضرر عنها.    الوجه الثاني: أن وكالة رئيس الدولة عن الأمة وكالة مقيدة. ومن قيودها أن يشاور الأمة، لأن المشاورة ورد بها النص الشرعي فلا تملك التنازل عنها، لأن سلطانها، كما قلنا سلطان محدود بحدود الشرع، فلا تستطيع أن تفوّض لوكيلها – رئيس الدولة – استعمال سلطانها إلا بهذا القيد – قيد المشاورة – سواء صرحت بهذا عند انتخابه أو لم تصرح. أما النص الشرعي الوارد في المشاورة فهو قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). فهذا النص صريح في وجوب المشاورة على رئيس الدولة الأعلى، لأن ظاهر الأمر الوجوب إلا إذا صرفته قرينة عن ذلك. وإذا كان الخطاب في الآية الكريمة – وفيه الأمر بالمشاورة- موجهاً إلى الرسول الكريم على جلالة قدره وعظيم منزلته، فوجوب المشاورة على غيره من حكّام الدولة الإسلامية أوجب وألزم. وعلى ما قلناه تدل أقوال الفقهاء والمفسرين، من ذلك ما جاء في السياسة الشرعية لابن تيمية: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه ﷺ". وفي تفسير الطبري في تفسير هذه الآية: "إنما أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مما أمره بمشاورتهم فيه تعريفاً منه أمته ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم". وفي تفسير الرازي: "قال الحسن وسفيان بن عيينه إنما أمر بذلك – أي أمر النبي ﷺ بالمشاورة – ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته". 18) من سنّة الرسول ﷺ مشاورته للأمة ومما يؤكد حق المشاورة للأمة على حكامها، أن النبي  ﷺ  على عظيم قدره ومنزلته وتأييده بوحي السماء. كان كثير المشاورة لأصحابه، شاورهم يوم بدر في الخروج للقتال, وشاورهم في أحد أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو. وأشار عليه الحباب بن المنذر يوم بدر بالنزول على الماء فقبل منه. وأشار عليه السعدان – سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة العدو على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وهكذا كان رسول الله  ﷺ  كثير المشاورة لأصحابه حتى ذكر العلماء أنه: لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله  ﷺ ". 19) ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة ونظراً لثبوت حق الأمة في المشاورة ولزومه على رئيس الدولة، صرّح الفقهاء بأن ترك هذا الحق من قِبل رئيس الدولة موجب لعزله، فقد جاء في تفسير القرطبي "قال ابن عطية" والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب" فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة تقام على أساس الإسلام. 20) في أي شيء تجرى الشورى المشاورة مع الأمة تجري في شؤون الدولة المختلفة، وفي الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نص فيها، أي أن رئيس الدولة يستشير في أمور الدين والدنيا كما يعبّر الفقهاء، فقد جاء في تفسير الجصاص: "والاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدين التي لا وحي فيها... " ( . والمشاورة في أمور الدنيا إنما تكون في المسائل المهمة منها، مثل سياسة الدولة العامة، وتسيير الجيوش واعلان الحرب، وعقد المعاهدات ونحو ذلك، ولا تكون الاستشارة في كل شيء حتى في صغائر الأمور وجزئياتها، لأن هذا غير ممكن ولا معقول ولا حاجة إليه ولا منفعة فيه ولا دليل عليه... 21) أهل الشورى ولكن كيف تتم المشاورة؟ هل يجب على رئيس الدولة أن يشاور الأمة كلها أو طائفة منها أو أفراداً منها؟ المستفاد من أفعال النبي ﷺ وهديه في الشورى، أنه كان يشاور جمهور المسلمين في الأمور التي تهمهم مباشرة كما حصل في مسألة الخروج إلى قتال المشركين في أحد فقد استشار جمهورهم الموجودين في المدينة، وكان يقول لهم: "أشيروا عليّ". وكذلك في مسألة غنائم هوازن فقد حرص النبي ﷺ على أن يعرف آراء جميع المسلمين المشتركين في حرب هوزان في مسالة الغنائم التي صارت إليهم، فقد جاء في أخبارهم أن النبي ﷺ بعد أن ذكر لهم ما يراه بصدد الغنائم قال الحاضرون: "يا رسول الله رضينا وسلّمنا، قال: فمروا عرفاءكم أن يرفعوا إلينا حتى نعلم ... فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم هل سلموا ورضوا. فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم يتخلف عنهم رجل واحد... " فهذه الواقعة تدل على أن أهل الشورى كانوا جميع المسلمين الذين يتعلق بهم موضوع المشاورة. وأحياناً جميع المسلمين الذين يتعلق بهم موضوع المشاورة. وأحياناً كان يستشير بعض أصحابه لا كلهم كما حصل في مسألى أسرى بدر فقد استشار بعض أصحابه. واستشار السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق، فقالا: لا. إن كان هذا أمر من السماء فأمض له، وإن كان أمراً لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف، فأخذ الرسول ﷺ برأيهما وترك موضوع المصالحة مع غطفان. فبهذه السوابق الثابتة في سنّة الرسول ﷺ تدل على أن أهل الشورى تارة يكونون جمهور الأمة، كما في مشاورة النبي ﷺ للمسلمين في مسألة الخروج إلى أحد. وطوراً يكون أهل الشورى جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويهمهم موضوعها كمسألة غنائم هوازن، وأحياناً يكون أهل الشورى، المتبوعين في قومهم كما في مسألة غطفان فإن سعد بن عبادة وسعد بن معاذ من سادات الأنصار المتبوعين فيهم، وأحياناً أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين كما في مسألة أسرى بدر. وفي ضوء هذه السوابق، يمكن أن نقول أن من يشاورهم رئيس الدولة يختلفون باختلاف موضوع المشاورة، فإن كان من الأمور العامة المهمة التي تهم الجميع، وجب عليه أن يستشير الأمة كلها إذا أمكن ذلك، أو يستشير أهل الحل والعقد المتبوعين من قبل الأمة. وإن كان من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي، فإنه يستشير أهل الاختصاص، وهذا ما أشار إليه القرطبي في تفسيره فقال: "واجب على الولاة مشاورة العلماء مما لا يعلمون وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها... إلى أن قال: قال العلماء صفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً وديناً، وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً". 22) تنظيم الشورى في الوقت الحاضر بيّنا في الفقرة السابقة السوابق الثابتة النبوية في موضوع الشورى، ومجموعها يدل على أن الشريعة الإسلامية لم تضع نظاماً خاصاً محدداً للشورى، وهذا من حسناتها واحتياطها للمستقبل، لأن تحقيق الشورى عملاً مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، فتركه للأمة تنظمه حسب الظروف والأحوال هو السبيل الأقوم للشورى. وعلى هذا نرى أن ما يوافق أحوال العصر أن تقوم الأمة بانتخاب أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة في المسائل العامة، ويخولون أيضاً سلطة انتخاب رئيس الدولة إذا شغر منصبه. على أن يكون لرئيس الدولة الحق في مشاورة أهل الاختصاص في موضوع اختصاصهم سواء كانوا من أهل الشورى المنتخبين أو من غيرهم. وأن يكون له استفتاء الأمة في المسائل الخطيرة، ويوضع نظام لكل هذه المسائل وغيرها مما له علاقة في موضوع الشورى، مثل كيفية انتخاب مجلس الشورى وصلاحياته في ضوء قواعد الشريعة العامة. ولضمان سلامة انتخاب مجلس الشورى، وانتخاب الأكفاء المخلصين لعضويته لا يكفي وضع نظام لهذا الانتخاب، بل لابد من إشاعة المفاهيم الإسلامية، ورفع المستوى الأخلاقي في الأمة، وتربية الأفراد على مخافة الله وتقواه حتى لا ينتخبوا إلا الأصلح، وليقوم من تنتخبه الأمة بواجبه كما يأمر الإسلام. 23) الخلاف بين رئيس الدولة ومجلس الشورى وقد يختلف رئيس الدولة مع مجلس الشورى، فما الحل في هذه الحالة هو ما أشارت إليه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). فيرد المتنازع إلى كتاب الله وسنّة نبيه ﷺ وبهذا قال المفسرون. فإن وجد الحكم صريحاً في الكتاب أو في السنّة وجب اتباعه ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك. وإن لم يوجد الحكم صريحاً فأي الآراء أشبه بكتاب الله وسنّة رسوله عمل به. ولكن ما العمل إذا لم يظهر الرأي الذي أشبه بكتاب الله وسنّة رسوله؟ هناك ثلاث حلول:    الحل الأول – طريقة التحكيم وهذا يستلزم اختيار هيئة خاصة من أهل الفقه والرأي الجيد والمعرفة بشؤون الدولة، وتعطى الضمانات الكافية لاستقلالها في العمل وعدم التأثير عليها، وهذه هي التي تفصل في أمر الخلاف بين رئيس الدولة ومجلس الشورى ويكون رأيها ملزماً. وقد يستأنس لهذا الحل بما روي عن الإمام عمر بن الخطاب أنه توجّه إلى الشام فأخبر في الطريق بوقوع وباء في الشام فاستشار من معه من المهاجرين في أمر الرجوع أو المضي في السير فاختلفوا فاستشار الأنصار الذين كانوا معه فاختلفوا، فدعا من كان موجوداً من مشيخة قريش من المهاجرين الأولين واستشارهم فأشاروا بالرجوع فأخذ برأيهم ورجع بمن معه وفي رواية أخرى عن هذه الواقعة أن أحد المسلمين الذين كانوا معه أخبره بحديث عن النبي ﷺ جاء فيه عدم النزول إلى أرض نزل فيها الطاعون. وقد يكون هذا الأخبار بعد مشاورة عمر رضي الله عنه.    الحل الثاني – الأخذ برأي الأكثرية ويقتضي هذا الحل أن يأخذ رئيس الدولة برأي الأكثرية وإن خالف رأيه. ويعضد هذا الرأي أن النبي ﷺ أخذ برأي الأكثرية في مسألة الخروج لمقاتلة المشركين في معركة أحد. وكان ميله ﷺ إلى عدم الخروج. ثم أن الكثرة معدن الجودة ومظنة الصواب وإن كانت ليست بدليل قاطع على الصواب. فقد يكون الخطأ إلى جانبها والصواب إلى جانب القلة.    الحل الثالث- الأخذ برأي رئيس الدولة مطلقاً ومقتضى هذا الحل أن رئيس الدولة بعد أن يشاور أهل الشورى يأخذ بما يراه دون تقيد برأي الأكثرية أو القلة. ويستأنس لهذا الحل ما قال البعض في تفسير قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) قال قتادة: "أمر الله نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم. ويقوي هذا الحل أن رئيس الدولة مسؤول ومحاسب عن عمله فيقتضي إعطاؤه حرية العمل بما يراه مادام أمراً اجتهادياً لا يخالف نصاً قطعياً من نصوص الشريعة يوضحه أن كون الإنسان مسؤولاً عن عمله أنه يعمله باختياره ورأيه لا أن يعمله تنفيذاً لرأي غيره ويكون رأي الغير ملزماً له. فليس من المستساغ أن يلزم المرء برأي غيره ويحاسب هو على هذا الرأي. 24) الحل الذي نختاره الرأي الثالث قوي سديد من الناحية النظرية، ولكن نظراً لضرورات الواقع، وتغير النفوس ورقة الدين وضعف الإيمان وندرة الاكفاء الملهمين، كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي بالثاني فنلزم رئيس الدولة برأي الأكثرية بشروط:    الأول: إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الأكثرية فله أن يحيل الخلاف إلى هيئة التحكيم.    الثاني: إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي هيئة التحكيم فله إجراء استفتاء عام حول موضوع الخلاف فإن أيدت الأمة رأي رئيس الدولة أخذ برأيه وإن لم تؤيده فعليه أن يأخذ برأي الأمة أو يستقيل.    الثالث: أن يعطي حرية اتباع الرأي الذي يراه في الأحوال الاستثنائية كحالة الحرب أو حدوث خطر داهم يهدد سلامة البلاد دون تقيد برأي سوى ما يراه هو. ثالثاً: حق المراقبة وما يترتب عليه 25) وللأمة، والفرد واحد منها، حق مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها ، في أعمالهم وتصرفاتهم التي تخص شؤون الدولة. وتستمد الأمة هذا الحق من طبيعة علاقتها مع رئيس الدولة، فعلاقتها علاقة وكالة فهي التي اختارته ومن حق الموكل أن يراقب وكيله ليطمئن على حسن قيامه فيما وكله فيه. 26) حق المراقبة لا يراد لذاته بل لغيره وحق المراقبة يراد لتقويم رئيس الدولة إذا انحرف عن النهج – نهج الإسلام – في الحكم. وأول منازل التقويم تقديم النصح الخالص له، جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: أن النبي ﷺ قال: الدين النصيحة. قلنا لمن ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فإذا لم يفد النصح فمن حق الأمة استعمال القوة اللازمة لتقويمه، وردعه عن الظلم وعن سائر مظاهر الانحراف والاعوجاج، فقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنكم" وفي حديث آخر: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب منه". 27) الحكام المسلمون يدعون الأمة لمراقبتهم وحق الأمة في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها وحكامها كان مرعياً أحسن رعاية في عصر الإسلام الأول، وأكثر من ذلك كان رؤساء الدولة الإسلامية يدعون الناس لمراقبتهم وتقويمهم إذا رأوا في سيرتهم اعوجاجاً. وقد حفظ لنا التاريخ سوابق خالدة في هذا الباب، من ذلك ما قاله الخليفة أبو بكر الصديق في خطبة له: ".. فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني". ومن خطبة للخليفة عمر بن الخطاب: " من رأى منكم في أعوجاجاً فليقوّمه" فقال له أحد الحاضرين: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. فقال الإمام عمر بن الخطاب: الحمدلله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه. رابعاً - حق العزل 28) حق الأمة في عزل رئيس الدولة قلنا أن المركز القانوني لرئيس الدولة هو مركز الوكيل بالنسبة للأمة، فمن البديهي أن يكون من حقها أن تعزله إذا خروج عن حدود وكالته أو لم يقم بمهام الوكالة عجزاً أو تقصيراً. لأن من يملك التعيين يملك العزل، والأمة هي التي اختارته فتملك تنحيته. ومباشرة هذا الحق يستلزم المبرر الشرعي وهو ما ذكرناه من خروج على حدود الوكالة أو عجز عن القيام بمهامها، وهذا ما صرّح به الفقهاء من ذلك قولهم: "وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها" ويقول الفقيه المعروف ابن حزم الأندلسي، وهو يتكلم عن الإمام – أي رئيس الدولة – ما نصّه: "... فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالة وسنّة رسول الله ﷺ فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره". 29) طرق العزل إذا كان للأمة عزل رئيس الدولة، فلها أن تباشره بواسطة ممثليها وهم أهل الحل والعقد بأن يسحبوا ثقتهم ويقرروا عزله. ولكن قد لا يستجيب رئيس الدولة لهذا القرار، وفي هذه الحالة يجوز للأمة استعمال القوة لتنحيته من منصبه إذا وجد المبرر الشرعي لذلك مثل خروجه السافر على نهج الإسلام وأحكامخ مما يعتبر كفراً في نظر الإسلام، جاء في الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت: "دعانا النبي ﷺ فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". ولكن اللجوء إلى القوة مشروط بتوافر القوة اللازمة ورجحان النجاح، وبدون ذلك لا يجوز العنف، لأن من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزماً منكراً أعظم، ولا شك أن عدم تهيء القوة لإزاحة رئيس الدولة من منصبه ثم إعلان الخروج عليه بالسيف – كما يعبر الفقهاء – لا يؤدل إلا إلى سفك الدماء وخراب البلاد وضعف الدولة، وكل هذه الأمور مذكرات فلا يجوز مباشرة أسبابها. خامساً – حق الترشيح 30) حق الفرد في الترشيح حق الترشيح أن يرشح الإنسان نفسه لمنصب من مناصب الدولة أو وظيفة من وظائفها العامة فهل يملك هذا الحق الفرد في الدولة الإسلامية؟ الظاهر أنه لا يملك هذا الحق – كقاعدة عامة – فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبدالرحمن سمرة أن النبي ﷺ قال له: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". والترشيح يتضمن طلب المنصب أو الوظيفة، فلا يجوز. أما ترشيح الإنسان غيره فجائز لأنه لا يتضمن طلب الإمارة وإنما يتضمن دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء، ومثل هذه الدعوة أمر جائز مستساغ. 31) حكم الترشيح في الوقت الحاضر وإذا كان ترشيح الشخص نفسه لا يجوز، كقاعدة عامة، ولكن إذا قضت به الضرورة أو المصلحة الشرعية جاز، ولا خلاف أن الأمور تعقدت في وقتنا الحاضر واتسعت وما عاد بالإمكان معرفة الأمة للاكفاء الصالحين حتى تنتخبهم، ولما كان تولي هؤلاء مناصب الدولة في غاية الأهمية حتى يساهموا في إدارة شؤون الدولة وفق الشرع الإسلامي، فإن ترشيح الكفء نفسه يعتبر من قبيل الدلالة على الخير ومن قبيل إرشاد الأمة وإعانتها على انتخاب الأصلح لتحقيق المطلب المهم فيجوز. وقد نستأنس لرأينا بقول يوسف عليه السلام: "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" ولا يظن بيوسف عليه السلام أنه طلب هذا المنصب، ولكن طلبه ليجعله وسيلة لتحقيق مقاصد مرضية عند الله تعالى. 32) الدعاية للمرشح وإذا جاز الترشيح في الوقت الحاضر للضرورة، فلا يجوز لمن يرشح نفسه أن يقوم بما يسمى بالدعاية الانتخابية التي يقوم بها المرشحون من مديح لأشخاصهم وتنقيص غيرهم، وإنما يجوز للمرشح أن يعرف نفسه للناخبين ويبين لهم فكرته ومنهاجه في العمل ولا يزيد على ذلك. سادساً – حق تولي الوظائف العامة 33) تولي الوظائف العامة تكليف وليس حقاً للفرد تولي الوظائف العامة في الشريعة الإسلامية – على ما نرى – ليس حقاً للفرد على الدولة وإنما هو تكليف على الفرد من الدولة. فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري أنه قال: " دخلت على النبي ﷺ أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله تعالى" وقال الآخر مثل ذلك فقال: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه) فهذا الحديث صريح في أن تولي الوظائف العامة ليس حقاً للفرد على الدولة، إذ لو كان حقاً لما كان طلب الوظيفة أو الولاية سبباً لحجبها عن طالبها لأن صاحب الحق لا يمنع من حقه إذا طلبه أو طالب به أو حرص عليه. 34) كيف تولى وظائف الدولة للأفراد وإذا كان طلب الوظيفة في نظر الشريعة غير مرغوب فيه فكيف يمكن إسناد وظائف الدولة إلى الأفراد ؟ هنا يبرز واجب رئيس الدولة وسائر ولاتها، فعليهم أن يتحروا عن الأصلح لكل عمل من أعمال الدولة، ولا يجوز لهم أن يعدلوا عن الأصلح إلى غيره لقرابة أو صداقة أو حزبية أو لأي معنى من المعاني التي لا علاقة لها بصلاح الشخص لما يراد توليته من أعمال، فقد قال النبي ﷺ: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله". وقد لا يجد رئيس الدولة، أو غيره من المسؤولين، من هو صالح لوظيفة معينة، ففي هذه الحالة عليهم أن يتخيروا الأمثل أي أصلح الموجودين لكل وظيفة من وظائف الدولة لاسيما المهمة منها بعد بذل أقصى الجهد، فهذا هو المستطاع والله يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم). 35) ميزان الصلاحية للوظائف العامة وإذا كان على رئيس الدولة وسائر ولاتها التحري عن أصلح الموجودين لإسناد وظيفة إليه، فعليهم أن يعرفوا أن ميزان الصلاحية هو: القوة والأمانة. قال تعالى في القرآن الكريم" (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين). والقوة هي القدرة والكفاءة على القيام بمهام الوظيفة، وهي تختلف باختلاف الوظائف. أما الأمانة فترجع إلى إدارة شؤون الوظيفة حسب ما يقتضي الشرع الإسلامي مع خشية الله ومراقبته لا خشية الناس وطلب مرضاتهم. 36) تولية الوظائف العامة في الوقت الحاضر وإذا كان طلب الوظيفة غير مرغوب في نظر الشريعة، وأن على ولي الأمر التحري عن الأكفاء للوظائف العامة، فكيف يمكن تطبيق هذه القواعد في الوقت الحاضر؟ الجواب، عن هذا السؤال، هو أن وظائف الدولة المهمة كالوزارة وقيادة الجيش ورآسة الوحدات الإدارية، هذه الوظائف يجب على رئيس الدولة أن يتحرى الأكفاء لها ومن ثم تطبق قواعد الشرعية السابقة وميزان الصلاحية. أما الوظائف الأخرى، فلا نرى بالإمكان قيام المسؤولين بأنفسهم بالتحري المباشر عن الأكفاء، وإنما الممكن أن يوضع نظام تذكر فيه شروط التوظيف والحد الأدنى من الكفاءة ويسمح للراغبين في التوظيف بالتقدم بطلباتهم، وعلى المسؤولين فحص طلباتهم وجمع ما يستدل به على كفاءتهم وأمانتهم بروح متجردة غير متحيزين ولا متأثرين بوساطة أو قرابة أو حزبية فمن وجدوه كفؤاً مستكملاً الشروط عينوه، وإن كان من خصومهم، ومن وجدوه غير ذلك لم يجيبوا طلبه وإن كان من أصدقائهم... إن السلطة بيد رئيس الدولة وسائر ولاتها أمانة بأيديهم فعليهم أن يخرجوا من عهدة هذه الأمانة ويستعملوها فيما يرضي الله، والله يرضيه أن يولي الأصلح، حسب الموازين الشرعية وفي سائر وظائف الدولة العامة لا أن يولى الأقرب ويبعد الأكفأ والأصلح ، فإن هذا الصنيع خيانة للأمانة وتضييع لها. قال النبي ﷺ: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل وكيف إضاعتها ؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله". الفصل الثاني الحقوق العامة للأفراد 37) التعريف بالحقوق العامة الحقوق العامة هي الحقوق اللازمة للإنسان باعتباره فرداً في مجتمع ولا يمكنه الاستغناء عنها وهي مقررة لحمايته في نفسه وحريته وماله . ويقسم علماء القانون هذه الحقوق إلى قسمين كبيرين: الأول: المساواة. والثاني: الحرية. وقد تنوعت المساواة إلى أنواع، منها مساواة أما القانون، ومساواة أما القضاء، كما تنوعت الحرية إلى أنواع منها: الحرية الشخصية، وحق التملك وحرمة المسكن وحرية العقيدة والعبادة وحرية الرأي والتعليم... الخ. ونحن في معالجتنا للحقوق العامة في الشريعة الإسلامية، نتبع التقسيم الذي يذكره علماء القانون لهذه الحقوق، حتى يتبين مدى ما يتمتع به الأفراد من هذه الحقوق في ظل الإسلام. وعلى هذا سنقسم هذا الفصل إلى مطلبين، الأول للمساواة والثاني للحريات. المطلب الأول المساواة 39) مكانة المساواة في الشريعة الإسلامية المساواة في الشريعة الإسلامية أصل عظيم، فالإسلام يقرر مساواة البشر جميعاً في أصلهم الأول، ويجعل تفاضلهم على أساس العمل الصالح وما يقدمونه من خير، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ". فأصل البشر واحد، وما جعلهم شعوباً وقبائل إلا ليتعارفوا وما يؤدي إليه التعارف من تعاون لا أن يتفاخروا بأنسابهم وما يؤدي إليه هذا التفاخر من بغي وطلب للامتياز على أساس الجنس والأصل والقبيلة. وبذلك اجتث الإسلام جذور العصبية الجاهلية والتفاخر بالأنساب والألوان، وصار ميزان التفاضل بين البشر قائماً على أساس ما يكسبونه من جميل الصفات وما يقدمونه من صالح الأعمال، وما في نفوسهم من معاني التقوى. وأصل المساواة في الشريعة عميق الجذور نجد مظاهره في كثير من أحكام الشريعة ومبادئها. نذكر من ذلك، المساواة أمام القانون والمساواة أمام القضاء. 40) المساواة أمام القانون المساواة أمام القضاء، مظهر من مظاهر مبدأ المساواة، وهو ما يقضي به العدل الذي جاء به الإسلام. فالقانون يطبق على الجميع دون محاباة لأحد ولا تمييز لفرد على آخر بسبب الجنس أو اللون أو المنصب أو الغنى أو القرابة أو الصداقة، بل وحتى العقيدة أو المنصب أو غير ذلك مما يختلف فيه الناس. جاء في الحديث الصحيح: " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". 41) أهمية المساواة أمام القانون إن تطبيق هذه المساواة يشيع في نفوس المواطنين الرضا والاطمئنان على حقوقهم ويجعلهم يحسون بضرورة بقاء دولتهم فيحرصون على بقائها والدفاع عنها. أما إذا خرقت هذه المساواة وطبق القانون على الضعيف دون القوي وعلى المغمور دون المشهور، فإن النفوس، نفوس عامة الناس، تحس بخيبة مريرة، ويضعف ولاؤها للدولة، ولا يهمها بقاؤها أو هلاكها، ويشيع الظلم في المجتمع، لأن الحق للأقوى لا للمحق، والكلمة الفاصلة للقوة لا للقانون. إذا صار أمر الدولة إلى هذه الحالة فلا بقاء لها، ولهذا قيل: "تبقى الدولة العادلة وإن كانت كافرة وتفنى الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة". 42) من أمثلة المساواة ومن تطبيقات المساواة أمام القانون أن ابن عمرو بن العاص، والي مصر، في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، لطم قبطياً لأنه سابقه فسبقه، فاشتكاه عند الخليفة عمر، فأرسل الخليفة على عمرو بن العاص وابنه، فلما حضرا أحضر الخليفة القبطي المشتكي وقال له أهذا الذي ضربك؟ قال: نعم. قال: اضربه. فأخذ يضربه حتى اشتفى ثم قال له عمر: "زد ابن الأكرمين " ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: " منذ كم يا عمرو تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". 43) المساواة أمام القضاء جميع المواطنين في الدولة الإسلامية أمام القضاء سواء من جهة المرافعة وقواعد الاثبات وتطبيق النصوص وتنفيذ الأحكام ووجوب تحري العدالة بين الخصوم لا فرق بين فرد وفرد. بل حتى الأعداء يظفرون بعدالة القضاء والمساواة أمامه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) وقال تعالى : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). وقد بلغت المساواة أمام القضاء إلى حد مساواتهم في إقبال القاضي عليهم، ونظره إليهم، جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: "آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك" وهذا مستوى رفيع في المساواة لم تبلغه القوانين في الوقت الحاضر. المطلب الثاني حريات الأفراد أولاً – الحرية الشخصية 44)  تعريفها الحرية الشخصية عند علماء القانون تعني حرية الفرد في الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء، وعدم جواز القبض عليه أو معاقبته أو حبسه إلا بمقضتى القانون، وحريته في التنقل والخروج من الدولة والعودة إليها. 45) الحرية الشخصية مضمونة في الشريعة والحرية الشخصية بهذا المعنى الذي يقدمه علماء القانون وبأوسع من هذا المعنى مضمونه للفرد في الدولة الإسلامية، لأن الاعتداء عليهم ظلم والإسلام يحرم الظلم مطلقاً. وتظهر حماية الدولة الإسلامية للفرد من الاعتداء على حياته وجسمه وعرضه بما نص عليه قانونها الإسلامي من عقوبات رادعة على المعتدين على حياة الناس أو اجسامهم أو أعراضهم. وهذه العقوبات المقررة للمعتدين لا تصيب الإنسان بالظن والشكوك، فالأصل براءة الذمة، وبالتالي لا يجوز معاقبته إلا إذا ثبتت إدانته وبالقدر الذي ينص عليه القانون الإسلامي دون أن يمتد العقاب إلى غير من ارتكب الجرم تطبيقاً لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). أما حرية الفرد في التنقل، فالقرآن الكريم أباحه ودعا إليه للاعتبار والاكتساب. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وما أباحه الله أباحته الدولة الإسلامية، ومن ثم فهي تضمن للفرد حريته في التنقل إلا إذا وجدت ضرورة تقتضي تقييد هذا الحق بالنسبة لبعض الأفراد كما كان يفعله الخليفة عمر بن الخطاب في منع كبار صحابة من الخروج من المدينة ليستعين بآرائهم ومشورتهم. 46) حماية الدولة لكرامته وعزته ولا تقف حماية الدولة للفرد عند حد حمايته من الاعتداء على حياته وجسمه وعرضه بل تمتد إلى حماية كرامته وعزته من الإهانة والإذلال فلا تذله هي ولا تسمح بإذلاله، لأن المسلم يجب أن يكون عزيزاً قال تعالى: (لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فلا خير في الذليل المهين، ولن يصلح لحمل رسالة الإسلام إلا الحر العزيز الكريم، ومن ثم فإن الدولة الإسلامية تربي في المسلم معاني العزة كما أراد الله وتمنع كل ما يثلمها أو يمسها، فالإمام عمر بن الخطاب كان يقول لولاته: "لاتضربوا المسلمين فتذلوهم" ويأمرهم بالحضور في موسم الحج فإذا اجتمعوا خطب في الناس وقال لهم: يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم فمن فعل به غير ذلك فليقم. وحتى إذا قصرت الدولة في واجبها في رعاية كرامة الفرد وعزته فإن المسلم يتمرد على كل إذلال واستعباد، فإن عقيدته تأبى عليه كل مذلة ومهانة، إنها تشده إلى الله فلا يرى عظيماً يخشاه ويذل له ويرضى بالعبودية له إلا هذا الرب العظيم، فكل ما سواه عبد منقاد إليه لا يستحق أن يذل له أو يخاف منه، فقد أسلم المسلم أمره إلى الله وأخلص العبودية له فلن يكون عبداً لغيره، والمفروض في الدولة الإسلامية أنها تمكن الفرد من العيش وفق ما تقضي به عقيدته الإسلامية وعقيدته هذه تقضي بأن يكون عزيزاً لا مهيناً ومن ثم فهي جد حريصة على عزته وكرامته. 47) الحرية الشخصية لغير المسلم والحرية الشخصية مضمونة لغير المسلم، لأن القاعدة التي قررها الفقهاء المسلمون هي: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وإنهم كما يقول الإمام علي بن أبي طالب – " إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" والحق أن غير المسلم ظفر بقسط كبير جداً من رعاية الشريعة وحماية الدولة، ففي الحديث: " من آذى ذمياً فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". على ضوء الوصاية النبوية بغير المسلم جاءت أقوال الفقهاء صريحة في وجوب تأمين الحماية لهم وحرمة إيذائهم، يقول الفقيه القرافي: " فمن اعتدى عليهم – أي على أهل الذمة – ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع في واجب تأمين الحماية لهم وحرمة إيذائهم. ويقول الفقيه القرافي ذمة الله وذمة الرسول ﷺ وذمة دين الإسلام" وحكى ابن حزم في مراتب الإجماع له: "أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ، فإن تسليمه دون اذنه إهمال لعقد الذمة". ثانياً: حرية العقيدة والعبادة 48) لا إكراه في الدين الإسلام لا يكره الإنسان على تبديل عقيدته واعتناق الإسلام، وإن كان يدعوه إلى ذلك. ولكن الدعوة إلى الإسلام شيء والإكراه عليه شيء آخر. فالأول مشروع والثاني ممنوع، قال تعالى في الدعوى إلى الإسلام: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ومن القواعد المقررة في الشريعة: "نتركهم وما يدينون" فلا تتعرض الدولة الإسلامية لغير المسلم في عقيدته وعبادته، وفي كتاب النبي ﷺ لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي ﷺ رسول الله على أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم". وما زالت البيع والكنائس الموجودة في الدولة الإسلامية في مختلف العصور لا تمس بسوء لا من المسلمين ولا من الدولة بل تحميها الدولة وتمكن لأصحابها حرية العبادة فيها. 49) مستوى رفيع في حرية العقيدة وقد بلغت رعاية الفقه الإسلامي لحرية العقيدة مستوى لا نحسب أن تشريعاً غير التشريع الإسلامي بلغه، فالإمام الشافعي يقول في مسألة إسلام أحد الزوجين غير المسلمين، لا يعرض الإسلام على الزوج الآخر خلافاً للحنفية الذين يرون العرض وحجته: "إن في هذا العرض تعرضاً لهم وقد ضمنّا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم" فالإمام الشافعي يرى أن مجرد عرض الإسلام على الزوج الذي لم يسلم نوع من التعرض به والإكراه له على الإسلام فلا يجيزه، فأي مستوى رفيع الفقه الإسلامي في رعاية حرية العقيدة. 50) عقوبة المرتد لا علاقة بها بحرية العقيدة ويجب أن لا يخلط ما قلناه بمسألة عقوبة المرتد، أي عقوبة المسلم إذا خرج من الإسلام، فهذا شيء وما قلناه عن حرية العقيدة شيء آخر. فالمسلم بإسلامه يكون قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته فإذا ارتد فقد أخلّ بالتزامه وأساء للدولة وتجرأ عليها فيستحق العقاب لأن إخلال الشخص بالتزامه يوجب عليه الجزاء كما هو معروف في القانون. ثالثاً- حرمة المسكن 51) يتمتع الفرد في الدولة الإسلامية بحرمة المسكن فلا يدخل أحد في مسكنه إلا بإذنه ورضائه. لأن مسكن الشخص موضع أسراره ومستقر عائلته، فأي اعتداء عليه اعتداء على الشخص ذاته، وهذا لا يجوز. فقد جاء النص الصريح بمنع دخول بيوت الأفراد بدون إذنهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) . رابعاً- حرية العمل للدولة أن تمنع موظفيها من العمل 52) العمل مكرم في الشريعة ما دام مشروعاً، وفي الحديث " ما أكل ابن آدم طعاماً خيراً من عمل يده وأن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده" فللفرد بالدولة الإسلامية أن يباشر الأعمال التي يريدها من أعمال التجارة والصناعة والزراعة بشرط أن لا يباشر ما حرمته من أعمال كالمعاملات الربوية، وأن يلاحظ المعاني الأخلاقية فيما أبيح له من أعمال وأن لا يلحق بالغير بسبب هذه الأعمال ضرراً تمنعه الدولة الإسلامية. فإذا قام الفرد بالعمل المشروع فثمرته حق خالص له لأنه نتيجة تعبه وجده والله يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). 53) للدولة أن تمنع موظفيها من الاتجار ولا يجوز للدولة أن تمنع أحداً من مباشرة الأعمال المباحة إلا بمسوغ شرعي من ذلك منع موظفيها من الاتجار والاكتساب لئلا يستغلوا سلطانهم ونفوذهم، ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب يحاسب ولاته على ما عندهم من أموال، فإذا قال له أحدهم إني تاجرت فربحت أجابه عمر إننا ما أرسلناك للتجارة. 54) الإضراب عن العمل وما دام من حق الفرد أن يباشر العمل الذي يريده فمن حقه أن يترك العمل إذا شاء. ولكن هذا الحق مقيد بعدم الإضرار بالمصلحة العامة، ولهذا قال الفقهاء يجوز لولي الأمر حمل أرباب الحرف والصناعات على العمل بأجرة المثل إذا امتنعوا عن العمل وكان في الناس حاجة لصناعاتهم وحرفهم. ومن ثم لا نرى مسوغاً للإضراب العام من قِبل العمال في الدولة الإسلامية، ذلك أن في هذا الاضراب تعطيلاً للإنتاج وإضراراً بالمصلحة العامة، إذا قيل أن فيه وسيلة لحمل أرباب العمل على أنصاف العمال كتعديل أجورهم، فهذا تبرير لا مكان له في الدولة الإسلامية، لأن الدولة مأمورة بإقامة العدل، ومن العدل حصول العمال على أجورهم العادلة منها إن كانوا من عمالها، وإن كانو يعملون عند غيرها من المواطنين، فعلى هؤلاء أن يعطوهم الأجر العادل، فإن أبوا تدخلت الدولة لإقامة العدل بين هؤلاء في مسألة الأجور فلا بضار عامل ولا رب عمل، فتستقيم أمور المجتمع وينجو من الرجات والاختلال. خامساً- حرية التملك 55) اعتراف الشريعة بحق الملكية تعترف الشريعة الإسلامية بحرية التملك للفرد وبحقه في الملكية، وتحترم هذه الحق وتأمر باحترامه وتعتبر الاعتداء عليه من المعاصي الكبار وترتيب عقوبات دنيوية زاجرة على المعتدين. 56) قيود الملكية ومع اعتراف الشريعة بحق الملكية وحق المالك في التصرف بملكه، فإنها قيدت هذا الحق في إيجاده وتنميته وإنفاقه وما يتعلق به من حقوق للغير. فأسباب نشوء هذا الحق كما تقرره الشريعة هو العمل المشروع بصوره العديدة والميراث والعقود، وليس من أسبابه ما حرمته كالسرقة والنهب والقمار واستغلال النفوذ والرشوة والربا ونحو ذلك. فإذا ثبت ملك الإنسان بناء على سبب شرعي فله أن يتصرف فيه وينميه بالطرق المشروعة دون المحرمة، فليس له أن ينميه بالغش والربا والاحتكار ونحو ذلك مما ينافي أحكام الشريعة وأخلاقها. ومع احترام الشريعة لحق الملكية فإنها تجيز نزع الملكية للضرورة والمصلحة الشرعية بعد دفع التعويض العادل. أما الحقوق التي أوجبتها الشريعة في حق الملكية فكثيرة منها نفقة الأقارب والزكاة وعون المحتاجين اذا لم تف موارد الزكاة بحاجاتهم ولم يكن في بيت المال ما بسد حاجة هؤلاء, وهذا ما يقضي به المجتمع الاسلامي التعاوني كما سنذكره فيما بعد. سادسا- حرية الرأي 57) مكانة هذه الحرية في الشريعة حرية الرأي حق للفرد في الدولة الاسلامية بالغ الاهمية والخطورة, لا يجوز ان تنتقص منه ولا يجوز للفرد ان بتنازل عنه ... انه ضروري لكيان الفرد الفكري والانساني, ولازم لقيام المسلم بفرائض الاسلام .... فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر من اهم فرائض الاسلام وتحقيقه يستلزم بداهة حرية الراي. وجاء في القران الكريم في موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر  : (وَالْعَصْرِ *إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) وقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) وقوله تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) وفي الحديث الشريف (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان). وحق الفرد غي مراقبة الحكام ونصحهم وند تصرفهم, كل ذلك يستلزم ضرورة تمتع الفرد بحرية الرأي. وتقرير مبدأ الشورى وما يترتب عليه من مناقشات, وحق الانتخاب كل ذلك يستلزم حرية الرأي قلا يمكن تطبيق الشورى بدون حرية الرأي. ومن العبث المفضوح ان تقرر الدولة الاخذ بمبدأ الشورى وهي تسطو على حرية الرأي فتسلبها من الافراد. ولهذا كان حكام الدولة الاسلامية يربون الافراد على حرية الرأي, ويعيبون عليهم اذا لم يباشروها. قال رجل للأمام عمر ين الخطاب: ( اتق الله يا عمر , فقال له عمر : الا فلتقولها, لا خير فيكم ان لم تقولوها, ولا خير فينا ان لم نسمعها) وكلمة اتق الله تشمل النصح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا كله يقتضي حرية الرأي. 58) حرية الرأي تستلزم الشجاعة ولا يكفي للتمتع بحرية الرأي الاعتراف بها للأفراد بل لابد ان يكونوا غلى قدر كاف من الشجاعة وقوة القلب وعدم الخوف والتهيب من ذي السلطان, فان الخوف والضعف والجبن يمنع المرء من البوح برأيه, وهذه أمارة هلاك الامة وتخلي عون الله عنها. قال النبي الكريم ﷺ ( اذا رأيت أمتي تهاب ان تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها). والذي يقوي في المسلم الشجاعة وقوة القلب, تعمي عقيدة التوحد الخالص في نفسه, واستحضار معانيها في ذهنه. فمتى عرف المسلم بعمق ووعي ان النفع والضرر بيد الله وحده وان غيره مربوب مملوك ضعيف لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرا, وان رئيس الدولة ومن دونه جميعا مثله مخلوقون محاسبون على اعمالهم, لم يخش ان يصرح بريه وأن يواجه الحكام بما يراه دون تهيب ولا وجل, فان الله اكبر منهم وان الآجال والارزاق بيد الله لا بيد سواه. 59) حدود حرية الرأي وحرية الرأي ليست مطلقة من كل قيد، بل تخضع لجملة قيود، وأول هذه القيود ذلك القيد العام الذي يقيد استعمال كل حق، وهو حسن القصد وخلوص النية، بأن يبتغي من استعمال الحق، وجه الله الله الكريم، بأن يريد من وراء حرية الرأي الوصول إلى الحق وإفادة المجتمع والنصخ للإسلام ولأئمة المسلمين وعامتهم كما أمر الله. والقيد الثاني، وهو مفهوم من الأول، أن لا ينبغي بحرية الرأي الفخر والرياء وتنقيص الآخرين والتشهير بهم وتكبير عيوبهم، أو الوصول إلى مغنم أو منصب. والقيد الثالث، مراعاة المبادئ الإسلامية والعقيدة الإسلامية فلا يجوز للفرد الطعن بالإسلام أو برسوله أو بعقيدته بحجة حرية الرأي، فإن هذا الصنيع يجعل المسلم مرتداً يستحق العقاب ولا تشفع له حرية الرأي. والقيد الرابع: أن يراعي المعاني الأخلاقية في الإسلام فلا يجوز للمرء نهش الأعراض وسباب الناس ورميهم بالقبائح بحجة حرية الرأي، فالجرية تقف عندما تصبح أداة أضرار وإفساد.. 60) حرية الرأي والإضرار بالدولة للمواطن الحق في إبداء رأيه في شؤون الدولة وتصرفات الحكّام، فله أن لا يرضى على تصرفاتهم إذا اقتنع بعدم صلاحها ولكن ليس من حقه أن يبيح الإفساد في المجتمع ومقاتلة المخالفين له في الرأي، فإذا لم يصدر منه فساد وإضرار بالمجتمع، فإن الدولة لا تبدأه بقتال وهذا هو الحد الفاصل بين ما يباح للفرد من رأي نحو الدولة وحكامها وبين ما لايباح له، وهذا هو ماذكره الإمام علي بن أبي طالب، فقد كان رأي الخوارج فيه معروف، ولكن مع هذا قال لهم: "ولانبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً" فالدولة لا تطارد ولا تقاتل من يخالفها في الرأي ما دام لا يحمل الناس على قبول رأيه بالقوة والتهديد، وعلى الدولة نصحه وبينا خطأ رأيه. جاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى وهو يتكلم عن الخوارج "فإن تظاهروا باعتقادهم وهم على اختلاطهم بأهل العدل أوضح لهم الإمام فساد ما اعتقدوه وبطلان ما ابتدعوه ليرجعوا عنه إلى اعتقاد الحق وموافقة الجماعة". سابعاً: حق العلم 61) مكانة العلم في الإسلام رفع الإسلام شأن العلم وقدر العلماء ودعا الإنسان إلى طلب المزيد منه (وقل ربي زدني علماً). والعلم ضروري لقبول الأعمال، لأن العمل المقبول ما كان خالصاً لوجه الله وصحيحاً وفق الشرع وهذا لا يعرف إلا بالعلم. ومن العلم ما هو فرض عيني يجب على الفرد معرفته كأمور العبادات التي تلزمه، ومنه ما هو فرض كفائي يجب أن يوجد في الأمة وهو يتعلق بسائر ما تحتاجه الأمة لدينها ودنياها كالصناعات والحرف المختلفة، وكنصب الحكام والولاة ونحو ذلك. ولا شك أن العلوم التي ظهرت في مختلف مجالات الحياة وتحتاجها الأمة أصبحت من الفروض الكفائية التي يجب أن تقوم بها الدولة باعتبارها ممثلة ونائبة عن الأمة، وهذا يقتضيها تسهيل سبل العلم إلى المواطنين، ومن تقف به كفايته عند درجة من درجات المعرفة أو نوع من أنواع العلم فإنما يقف عند فرض كفائي تحتاجه الأمة، وفي هذا كله تحقيق لتكافؤ الفرص بين المواطنين في تحصيل العلم وقيام بالفروض الكفائية من قِبل الدولة. ونجد في السنّة النبوية سابقة مهمة تدل على حق الأفراد على الدولة بأن تسهل لهم سبل العلم والمعرفة، فقد جاء في أخبار سيرة النبي ﷺ أنه: "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين" وهذا الخبر يدل على أن الدولة تقوم بتعليم أفراد الأمة كواجب عليها. ثامناً- حق الفرد في كفالة الدولة 62) المقصود بهذا الحق وأساسه يراد بهذا الحق أن الفرد يجد ضماناً عاماً من الدولة عند الحاجة والعوز.. فلا يمكن أن يهلك الفرد في الدولة الإسلامية وهي تنظر إليه وتعرف مكانه وتحس بعجزه وحاجته وعوزه... وأساس هذا الحق أن المجتمع الإسلامي مجتمع تعاوني يقوم على أساس التعاون استجابة لأمر الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). ومن مظاهر هذا التعاون أن يعين الغني المحتاج فيسد حاجته بما عنده من فضل مال أو زاد، قال النبي الكريم ﷺ: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" وفي حديث آخر: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس". ولما كانت الدولة ممثلة للمجتمع ونائبة عنه فعليها القيام بما أرشدت إليه هذه الأحاديث الشريفة فتقول بكفالة المحتاج والفقير وفي هذا الباب حديث يشير إلى هذا الواجب على الدولة. فقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: "فأي مؤمن مات وترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولا" وقال الشوكاني في شرح هذا الحديث ما نصه: "الضياع" قال الخطابي هو وصف لمن خلفه الميت، بلفظ المصدر، أي ترك ذوي ضياع، أي لاشيء لهم... وقد اختلف هل كان رسول الله يقضي دين المديونين من مال المصالح أو من خالص نفسه.... إلى أن قال: وفي ذلك إشعار بأنه كان يقضي من مال المصالح" فذو الحاجة كالمدين، ومن لا مال لهم، يجدون ما يسدّ حاجتهم من بيت المال. وجاء في الحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم ... ويقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: "قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وهو ما تحت نظره. ففيه أن من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" ولا شك أن مصالح الأفراد في ديناهم سد حاجاتهم الضرورية عند عجزهم عن تحصيلها، بل أن هذه الكفاية الضرورية تسهم عليهم عبادة الله، لأن الإنسان العادي قد لا يستطيع عبادة الله كما ينبغي إذا لم يجد الكفاية لحاجاته الضرورية، لانشغال فكره بهذه الحاجات الضرورية. 63) ما يسبق حق الفرد في كفالة الدولة وحق الفرد في كفالة الدولة تسبقه جملة تعليمات وتنظيمات وحقوق جاءت بها الشريعة فإذا لم تف هذه كلهاه لسد حاجات الفرد قامت الدولة بواجبها نحو فقدمت له ضماناً عاماً عند عجزه وحاجته وهذه التنظيمات هي: 64) أولاً: الأصل أن الفرد يكفي نفسه بنفسه الأصل أن الإنسان يكفي نفسه بنفسه بأن يعمل ويكتسب ولا يسأل الناس لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، فالإعطاء خير من الأخذ، ولا اعطاء إلا بغنى، ولا غنى إلا بالعمل والكسب، جاء في الحديث الشريف: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلة فيذهب إلى الجبل فيحتطب ثم يأتي فيحمله على ظهره فيأكل خير له من أن يسأل الناس: فسؤال الناس أو سؤال من يمثلهم وهي الدولة غير مرغوب فيه ما دام الإنسان قادر على العمل والاكتساب. 65) ثانياً الدولة تهيئ سبل الكسب للأفراد وإذا كان العمل مندوباً في نظر الشرع والسؤال محظوراً، والدولة الإسلامية ما قامت إلا لتحقيق ما يحبه الشرع ومحو ما يكرهه، فمن البديهي أن تقوم الدولة الإسلامية بتسهيل سبل العمل والكسب للأفراد. فهذا بعض ما عليها من حق للمواطنين، فتوجد العمل للعاطلين، وتقوم بإيجاد المشاريع النافعة لتشغيل الأفراد، ولا تنفق أموال بيت المال على التوافه وعلى ما لا ينفع، وحتى إذا اقتضى الأمر لتشغيل الأفراد أن تقوم بإقراضهم من بيت المال فالقرض جائز وهو أفضل من الصدقة، وقد صرح بهذا الفقيه المعروف أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فقال: "إن صاحب الأرض الخراجية إذا عجز عن زراعة أرضه لفقره دفع إليه كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل ويستغل أرضه". 66) حق النفقة فإذا لم يوجد عمل أو وجد وكان الفرد عاجزاً عنه وجب على قريبه الغني الانفاق عليه، وبهذا يجد الفقير كفايته بهذا الحق، وهذا التضامن بين أفراد العائلة وسائر الأقارب لا يقوم على محض الرغبة في الإحسان بل يقوم على الوجوب والإلزام. 67) رابعاً : الزكاة فإذا لم يستطع الفرد الاكتساب أو لا يوجد ما يكتسب به ومنه، ولا منفق عليه من أقاربه، أمكن سد حاجته من أموال الزكاة التي هي حق للفقير في أموال الأغنياء. والأصل أن الدولة هي التي تجبي الزكاة وتوصلها إلى المستحقين، ولا يجوز صرفها لغير أهل الاستحقاق. وللدولة أن تنظم جبايتها وتوزيعها بما يكفل إيصالها إلى الفقراء وسائر المستحقين. فالزكاة ضمان اجتماعي عام للفقراء تنفذه بالقوة عند الاقتضاء كما فعل أبو بكر بقتال مانعي الزكاة، وحصيلة الزكاة كبيرة جداً لا يبقى معها فقير لأنها تؤخذ من رأس المال وربحه ومن جميع صنوف المال كالنقود والعروض والحيوانات والزروع والمعادن. ولو جبيت الزكاة في العراق لبلغت ملايين الدنانير سنوياً ولكفت جميع المحتاجين. 68) كفالة الدولة للأفراد من بيت المال فإذا لم تف التنظيمات والحقوق السابقة في سد حاجة المحتاج تدخلت الدولة وقامت بكفالة الفرد المحتاج، لتضع مبدأ التعاون الواجب على أفراد المجتمع الإسلامي موضع التنفيذ. فتقدم لكل فرد محتاج من بيت المال قدر حاجته، قال الإمام ان تيمية: "والمحتاجون إذا لم تكفهم الزكاة أعطوا من بيت المال على وجه التقديم على غيرهم من وجوه الصرف على رأي" وإذا لم تقم الدولة بهذا الواجب فللفقير أن يقيم الدعوة على الدولة بهذا الحق الذي له عليها ويحكم له القاضي به، وهذا ما ذهب إليه الفقيه ابن عابدين، فعنده القاضي يلزم ولي الأمر إلزاماص قضائياً بالاتفاق على الفقير العاجز كما يلزم وليه أو قريبه الغني إذا كان له قريب غني. وقد وجدنا في السوابق التاريخية القديمة ما يؤيد حق الأفراد في كفالة الدولة لهم من بيت المال، فالإمام عمر بن الخطاب يضع منهجاً قويماً في حقوق الأفراد في بيت المال فيقول: "... فالرجل وبلاؤه، والرجل وقدمه، والرجل وحاجته" وفي عام الرمادة حيث عم القحط وانحبس المطر كان عمر بن الخطاب يصنع الطعام فليأكل فليفعل ومن أحب أن يأخذ ما يكفيه وأهله فليأخذه. 69) عجز الدولة عن كفالة المحتاجين وإذا عجزت الدولة عن كفالة المحتاجين بأن يخلو بيت المال من المال، أو يوجد فيه ما لا يكفي للمحتاجين، فإن واجب كفالتهم ينتقل إلى القادرين من أفراد المجتمع الإسلامي ويعتبر هذا الواجب من الفروض الكفائية الواجب قيام الأمة بها، وهذا ما صرح به بعض الفقهاء، فقالوا: " ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال على القادرين – وهم – من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولمونهم... وهل المراد بدفع ضرر من ذكر ما يسد الرمق أم الكفاية قولان أصحهما ثانيهما. فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناها: كأجرة طبيب وثمن دواء وخادم منقطع كما هو واضح فعلى الأغنياء في المجتمع الإسلامي أن يقوموا بعون المحتاجين بقدر كفايتهم ما دام بيت المال عاجزاً عن هذا العون. وإذا ماتنع الأغنياء عن كفالة الفقراء فإن الدولة تجبرهم على ذلك، قال الإمام ابن حزم: " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة". 70) كفالة الدولة لغير المسلم وكفالة الدولة لرعاياها الفقراء لا تقتصر على المسلمين فقط بل تشمل غير المسلمين "الذميين" أيضاً ما داموا فقراء يستحقون العون، وفي هذا الباب سوابق تاريخية تدل على كفالة الدولة للذميين، ومن ذلك أن خالد بن الوليد كتب كتاباً لأهل الحيرة جاء فيه: " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام ولم ينقل أن الخليفة أبا بكر أو غير من المسلمين أنكر في هذا الكتاب فيكون إجماعاً. ثم نجد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عامله في البصرة عدي بن أرطأة: " أما بعد... وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه..." . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين,,, الدكتور عبدالكريم زيدان 
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
http://drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
http://drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=104