نصيحة لجميع المسلمين في العراق قواعد تغيير المنكر باليد للقادر عليه في موضع تكون الولاية فيه لغيره ربح صهيب مسائل في الشان السوري كلمة الدكتور عبد الكريم زيدان في مؤتمر الشيخ امجد الزهاوي المنعقد في مركز الزهاوي للدراسات الفكرية شرح الاصول العشرين أثر الشريعة في الحد من المخدرات الحكم الشرعي في الدعوة الى الفدرالية او الاقاليم في العراق
معاملة الأقَلِّيَّاتٌ غير المسلمة والاجانب في الشريعة الاسلامية
مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان عام 1430 هـ /1983 وكان حينها يمارس مهنة المحاماة, ونُشر في مجلة (الحقوق) الكويتية في عددها الثالث من السنة السابعة الصادر في شهر ذو الحجة / ايلول 1403 هـ /1983م.
مقدمة وتمهيد:
1) قام المجتمع الاسلامي على اساس العقيدة الاسلامية, ومن ثم كان المسلمون هم اعضاؤه بحكم عقيدتهم الاسلامية التي تعتبرهم اخوة في الدين, قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) وقال نبينا محمد ﷺ (المسلم اخو المسلم).
2) الا ان هذا المجتمع الاسلامي ليس منغلقا على نفسه وانما هو مجتمع مفتوح لغير المسلمين لأنه ليس من لوازم اعتناق الاسلام رفض العيش المشترك مع غير المسلمين , ولذلك كان ولا يزال في مقدار غير المسلم الذي يرفض الاسلام دينا ان يعيش مع المسلمين في مجتمعهم ويصير عضواً فيه اذا رغب في ذلك وأعلن ولاءه لهذا المجتمع وخضوعه الى نظامه عن طريق قبوله لعقد الذمة الذي يبرمه مع دار الاسلام. ان عقد الذمة هذا يجعل طرفه غير المسلم ذميا ومن جملة افراد المجتمع الاسلامي ومواطنا في دار الاسلام يحمل جنسية هذه الدار, أي الجنسية الاسلامية, ولهذا يقول الفقهاء المسلمون عن الذمي بأنه من اهل دار الاسلام, كما يقولون عن المسلم أنه من أهل دار الاسلام, فكلاهما من تبعة دار الاسلام ويحملان جنسية هذه الدار أي الجنسية الاسلامية وأن اختلف الاساس, فأساس جنسية المسلم عقيدته الاسلامية, واساس جنسية الذمي عقد الذمة.
3) وكما أن المجتمع الاسلامي لا يضيق بغير المسلم أذا اراد ان يعيش فيه وينتمي اليه ويصير من جملة أفراده على اساس عقد الذمة كما قلنا, فان المجتمع الاسلامي لا يضيق بالأجنبي غير المسلم اذا اراد الدخول الى دار الاسلام والاقامة المؤقتة فيه لغرض الزيارة أو التجارة أو لأي غرض اخر مباح بشرط ان يحصل على اذن بالدخول من السلطة المختصة بدار الاسلام, وهذا الأذن بالدخول هو الذي يسميه الفقهاء بالأمان أو بعقد الامان المؤقت, ويسمى الاجنبي غير المسلم الداخل الى دار الاسلام بموجب هذا الامان بـ (المُستأْمَن).
4) واذا كان المجتمع الإسلامي مفتوحا لغير المسلمين على النحو الذي بيناه, فانه يعاملهم معاملة كريمة تقوم على اساس الصدق والوضوح والدقة في تحديد الحقوق والواجبات بالنسبة لهم وللمجتمع الاسلامي بدون دجل ولا كذب ولا نفاق ولا مخالفة بين ما يعلنه المجتمع الاسلامي من هذه الحقوق والواجبات وبين ما يتمتع به فعلا هؤلاء من ذميين ومستأمنين من حقوق وما يلتزمون به من واجبات.
5) والواقع أن معاملة غير المسلم في المجتمع الاسلامي وما يتمتع به من حقوق في ضوء أحكام الاسلام يعتبر نموذجا رائعا ودليلا قاطعا على امكان العيش المشترك بين غير المسلم والمسلم في المجتمع الاسلامي على نحو يحفظ لغير المسلم حقوقه ودون تعرض لعقيدته مما يدحض القائلين ان اقامة المجتمع على اساس العقيدة الاسلامية يعني اضطهاد غير المسلمين واكراههم على تبديل دينهم.
6) منهج البحث: ان بيان كيفية معاملة الأقَلِّيَّاتٌ غير المسلمة أي الذِمّيّين, في المجتمع الاسلامي وكذلك كيفية معاملة الاجانب أي المُستأْمَنين في المجتمع الاسلامي, يستلزم بيان مركزهم القانوني في دار الاسلام من ناحية مدى ما يتمتعون به من حقوق وما يلتزمون به من واجبات ونوع وماهية هذه الواجبات وتلك الحقوق, والقانون الذي يحكمها ويحكمهم والمحكمة المختصة بالنظر فيها اذا حصل نزاع حولها أو اذا حصل نزاع فيما بينهم أو فيما بينهم وبين غيرهم في شأن من الشؤون.
وعلى هذا سنقسم هذا البحث الى ثلاثة فصول:
الفصل الاول: في بيان حقوقهم وواجباتهم.
الفصل الثاني: في القانون الذي يبين حقوقهم وواجباتهم ويطبق على قضاياهم.
الفصل الثالث: في المحكمة المختصة بالنظر في قضاياهم.
وسيكون كلامنا على وجه الإيجاز الشديد مع حرصنا على عدم الاخلال في ابراز معالم هذا البحث ونقاطه الجوهرية.
الفصل الاول
في الحقوق والواجبات
تمهيد
7) الذميون في المجتمع الاسلامي هم الاقلية غير المسلمة فيه الا انهم مواطنون وليسوا اجانب فيه لانهم يحملون جنسية دار الاسلام أي الجنسية الاسلامية كما قلنا.
والمُستأْمَنون في المجتمع الاسلامي هم الأجانب وهم اناس غير مسلمين دخلوا دار الاسلام بأمان مؤقت كما قلنا ويتبعون دولة اجنبية عن دار الاسلام.
ولكل من الذِمّيّين والمُستأْمَنين حقوق وواجبات, ولهذا سنجعل هذا الفصل في مطلبين, المطلب الاول في حقوق وواجبات الذِمّيّين والمطلب الثاني في حقوق وواجبات المُستأْمَنين.
المطلب الاول
حقوق وواجبات الذِمّيّين أي الأقَلِّيَّاتٌ غير المسلمة
أولا: القاعدة العامة في حقوقهم وواجباتهم
8) القاعدة العامة في حقوق وواجبات الذِمّيّين في دار الاسلام هي انهم في هذه الحقوق والواجبات كالمسلمين إلا في استثناءات قليلة حتى شاع بين فقهاء المسلمين القول المشهور لهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهناك اثار قديمة بهذا المعنى, فقد قال الخليفة الراشد علي بن ابي طالب رضي الله عنه (انما قبلوا عقد الذمة لتكون اموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا), وقال الفقيه المشهور السرخسي في كتابه القيم شرح السير الكبير, ولأنهم قبلوا عقد الذمة لتكون اموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم, اما الاستثناءات القليلة التي ترد على هذه القاعدة فمردها الى أن بعض الحقوق والواجبات تستلزم لثبوتها للشخص العقيدة الاسلامية ولا يكفي للتمتع بها أو الالتزام بها توافر صفة المواطنة وحمل جنسية دار الاسلام بل لا بد من كون الشخص مسلما. فمنصب رئيس الدولة مثلا لا يتولاه الا المسلم, والزكاة لا يلتزم بأدائها الا المسلم. وهذا التفريق بين المواطنين في دار الاسلام في بعض الحقوق والواجبات على اساس الوصف الديني في المواطن لا يثير استغرابا لأنه مسالة داخلية تهم الدولة وحدها وتأخذ بها الدول في الوقت الحاضر, فكل دولة حرة في تنظيم تمتع المواطنين بالحياة القانونية فقد تساوي بينهم وقد تفرق. ولا شك ان الدولة عندما تفرق بين المواطنين في بعض الحقوق والواجبات انما تقيم هذه التفرقة على اساس اختلافهم في بعض الأوصاف التي تراها كافية لتبرير هذه التفرقة, ودار الاسلام تعتبر الوصف الديني هو الاساس المقبول للتفريق بين المواطنين ببعض الحقوق والواجبات لأنها محكومة بالقانون الاسلامي ولا تملك الخروج عليه, وهذا القانون يشترط للتمتع ببعض الحقوق والالتزام ببعض الواجبات توافر عقيدة دينية معينة قد تكون العقيدة الاسلامية او غيرها. فالعقيدة الاسلامية شرط في الشخص لتولي منصب رئاسة الدولة والالتزام بأداء الزكاة. والعقيدة الاسلامية شرط في الشخص للالتزام بأداء الجِزْيَةُ وهكذا.
9) ويلاحظ هنا ان مصدر الحقوق والواجبات للذميين هو القانون الاسلامي أي الشريعة الاسلامية وليس مصدرها القانون الداخلي لدولة اخرى, ومن ثم فان هذه الحقوق والواجبات لا تتأثر مطلقا بسوء معاملة الأقَلِّيَّات المسلمة في الدول غير اسلامية فلا يجوز لدار الاسلام ان تسيء معاملة الأقَلِّيَّات المسلمة في إِقليمها بحجة الأخذ بقاعدة المعاملة بالمثل, لان هذه القاعدة تقف ولا يعمل بها ما دامت تتضمن ظلما وانتقاصا لحقوق غير المسلم التي قررتها له الشريعة الاسلامية التي من قواعدها (ولا تزر وازرة وزر اخرى). ان اعتبار حقوق وواجبات الأقَلِّيَّاتٌ غير المسلمة في دار الاسلام مصدرها الشريعة الاسلامية يعتبر ضمانا اكيدا لهذه الحقوق لأنه لا يستطيع ان يسطو عليها أي حاكم تعبث به الاهواء ويرغب في ظلم هذه الأقَلِّيَّات, كما لا يستطيع ان يلغيها ويبطلها, لان ما قررته الشريعة الاسلامية لا يمكن ان ينسخه انسان. ولهذا أرى ان من الحكمة ومصلحة المواطنين غير المسلمين في البلاد الاسلامية ان يشتركوا مع المواطنين المسلمين في المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية في ديارهم حتى تكون المرجع الاول والاخير في تثبيت حقوقهم وواجباتهم.
ثانيا: أنواع الحقوق للذميين
أ) الحقوق السياسية
10) الحقوق السياسية, هي الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضوا في هيئة سياسية مثل حق تولي الوظائف العامة, وهذه الحقوق يساهم الفرد بواسطتها في ادارة شؤون البلاد أو حكمها.
11) واذا نظرنا الى هذه الحقوق بالنسبة للذمي, فأننا نلاحظ انه ليس فيها كالمواطن المسلم فليس له حق تولي بعض الوظائف العامة مثل رئاسة الدولة, وقيادة الجيش أو كما يسميها الفقهاء الامارة على الجهاد, لان رئاسة الدولة في عرف الفقه الاسلامي هي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به, فمن البديهي أن لا يتولى هذا المنصب الا من يدين بالإسلام. اما الجهاد ومنه القتال, فانه يقوم على معنى ديني, فمن البديهي أن لا يكلف به ولا تناط اعماله الا بمن يدين بالإسلام. ومع هذا اذا رغب الذمي في الاشتراك فيه والانخراط بسلك الجندية فله ذلك ولكن لا يكون اميرا للجيش.
12) ولكن يجوز للذمي أن يتولى وزارة التنفيذ كما قال الفقهاء يبلغ اوامر رئيس الدولة ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من احكام وقرارات, كما نص الفقهاء على جواز اسناد الوظائف الاخرى للذمي مثل جباية الخراج الجِزْيَةُ.
13) والواقع ان مركز الذمي من ناحية اسناد الوظائف العامة له, ليس فيه ما يدعو الى الاستغراب اذا ما علمنا ان تولي الوظائف العامة في نظر الشريعة الاسلامية تكليف للشخص وليس بحق له على الدولة, فالدولة تكلف من تراه أهلا للقيام بهذه الوظيفة وهي حرة في اختيار من تكلفه, ولا يقيد حريتها هذه الا النظر الى المصلحة العامة في ضوء كفاءة من تريد تكليفه بواجب هذه الوظيفة, والدليل على ان تكليف تولي الوظائف العامة هو ما قلناه أي أنه تكليف للشخص وليس حقا له على الدولة الحديث الصحيح عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبيﷺ أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين يا رسول الله أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه). فهذا الحديث صريح في دلالته على ان تولي الوظائف العامة في ميزان الشريعة الاسلامية ليس حقا للمواطن على الدولة , لأنه لو كان كذلك لما كان طلب الوظيفة سببا لمنع طالبها منها, لان صاحب الحق لا ينع من حقه اذا طلبه أو طالب به أو حرص عليه.
ب) الحقوق العامة للذمي
14) الحقوق العامة هي الحقوق الضرورية للإنسان باعتباره فردا في المجتمع ولا يمكنه الاستغناء عنها. وهذه الحقوق مقررة للشخص لحمايته في نفسه وحريته وماله كالحق في التنقل وفي الاعتقاد وحرمة المسكن وغيرها. والذمي يتمتع بهذه الحقوق العامة مثل حرية الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء وعدم جواز حبسه او توقيفه الا بمقتضى القانون الاسلامي. وكذلك له حق التنقل في إِقليم دار الاسلام وحق الخروج منه والعودة اليه.
15) ومن الوثائق المهمة المقررة لهذه الحقوق عهد النبي ﷺ لأهل نجران وفيه (ولا يؤخذ رجل منهم يظلم آخر). وفي حديث عن النبيﷺ (من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة). وقد فقه المسلمون وصية رسول اللهﷺ بأهل الفاقة فرعوها حق رعايتها قولا وعملا, من ذلك ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى في اخر ايامه بأهل الذمة فقال: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، وأن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم). وكان رضي الله في ايام خلافته يوصي ولاته باهل الذمة ويسال الوفود عنهم ليتأكد من حسن معاملتهم, من ذلك ما رواه الطبري في تاريخه ان عمر بن الخطاب قال لوفد البصرة (لعل المسلمين يفضون الى اهل الذمة بأذى؟ فقالوا ما نعلم الا وفاء...).
16) والفقهاء من مختلف المذاهب الاسلامية صرحوا بان على المسلمين وولاة الامر دفع الظلم عن اهل الذمة والمحافظة عليهم (لان المسلمين حين اعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم, وهم صاروا من دار اهل الاسلام. وقد خص الفقهاء أهل الذمة بالذكر وهم يتكلمون عن وجائب والي الحسبة أي المحتسب, فقالوا: ان عليه ان يمنع المسلمين من التعرض لهم – أي الذِمّيّين – بسبّ او أذى ويؤدب من يفعل هذا به.
17) ولم يكتف الفقهاء بما قالوه عن الذِمّيّين وما بينوه من لزوم رعايتهم ومعاملتهم بالحسنى وانما تجدهم يخاطبون حكام المسلمين بشأنهم ويذكرونهم بحقوقهم من ذلك ما كتب الامام الفقيه المشهور ابو يوسف رحمه الله الى الخليفة هارون الرشيد يوصيه برعايتهم وتفقد احوالهم حتى (لا يُظلموا ولا يؤذوا ولا يُكلفوا فوق طاقتهم).
واذا ما صدر من حكام المسلمين شيء يؤذي الذِمّيّين ويعتبره الفقهاء تجاوزا على حقوقهم فان الفقهاء ينكرون ذلك على الحكام ويدافعون عن الذِمّيّين, من ذلك ما حفظه لنا التاريخ من انكار الامام الاوزاعي على الامير العباسي صالح بن علي بن عبدالله بن عباس عندما أجلى قوما من اهل الذمة من جبل لبنان لتجسس بعظهم لمصلحة العدو, فقدم الامام الاوزاعي اليه ينكر عليه فعله ويقول له في رسالته المشهورة (وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم، ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى أنْ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ... ثم يقول الاوزاعي في رسالته هذه: فانهم ليسوا بعبيد فتكون من تحويلهم من بلد الى بلد في سعة ولكنهم احرار اهل ذمة) . والحق ان الامام الاوزاعي ضرب المثل الرائع في دفاع الفقهاء عن أهل الذمة, وهم الاقلية غير المسلمة في دار الاسلام, بالرغم من اختلافهم في الدين, وستبقى عبارات الاوزاعي (وحكم الله تعالى أنْ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فانهم ليسوا بعبيد... ولكنهم احرار اهل ذمة ) مفخرة من مفاخر التاريخ الاسلامي بشأن دفاع فقهاء الشريعة الاسلامية عن الذِمّيّين.
18) والتزام دار الاسلام بالمحافظة على الذِمّيّين لا يقف عند حد حمايتهم من الاعتداء الداخلي بل يمتد الى حمايتهم ضد الاعتداء الخارجي , واذا ما وقعوا أسرى في يد العدو فان دار الاسلام تستنقذهم من ايديهم ولو بدفع الفداء عنهم من بيت المال, قال الفقيه الليث بن سعد (ارى ان يفدوهم من بيت المال, ويقرون على ذمتهم).
19) حرية العقيدة: أقرّ الاسلام حرية الاعتقاد للناس, بمعنى ان لا يكرههم على اعتناق الاسلام وان كان يدعوهم اليه , ولكن الدعوة الى الاسلام شيء والاكراه عليه شيء اخر, فالأول مَشْرُوع والثاني ممنوع قال تعالى (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
ومن القواعد المقررة في الفقه الاسلامي بشأن الذِمّيّين قاعدة (نتركهم وما يدينون) فلا نتعرض لهم في امور دينهم, وعلى هذا فان حرية العقيدة حق مضمون للذميين, بل ان هذا الحق واضح لأنه لو لم يكن مقرر لأهل الذمة لما شرع الاسلام عقد الذمة ولما جاز, لان عقد الذمة يتضمن اقرار الذمي على دينه وعقيدته وعدم التعرض له بسبب ديانته. وقد جاء في كتاب النبيﷺ(ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول اللهﷺعلى أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ...).
20) حرية العمل: وللذميين حرية العمل في دار الاسلام ومباشرة النشاط الاقتصادي الذي يرغبون فيه, فقد قال الفقهاء ان الذِمّيّين في المعاملات والتجارات والبيوع وسائر التصرفات كالمسلمين الا ما استثنى من معاملات الربا فهي محظورة عليهم كالمسلمين. ويمنع الذميون من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين. ولكن لهم بيعها في قراهم وأمصارهم.
21) والواقع, ليس هناك ما يحول دون تمتع الذِمّيّين بحق حرية العمل الا في مسائل قليلة ذكرناها لعلاقتها بالنظام العام لدار الاسلام. ولهذا كانوا يباشرون انواع التجارات والاعمال, ومن ذلك جلبهم الطعام من الشام الى المدينة, وكان منهم اصحاب الصنائع, كما كان منهم الصيارفة والاطباء واصحاب الضياع.
22) حق التمتع بمرافق الدولة وكفالة بيت المال: وللذميين حق التمتع بالمرافق العامة في دار الاسلام مثل وسائط المواصلات ومشروعات الري والانارة ومياه الشرب, ولهم ايضا التمتع بمرفق القضاء اذا اعتبرناه مرفقا عاما. وفي الحديث النبوي الشريف (الناس شركاء في الماء والكلاء والنار) ولفظ الناس بعمومه يشمل الذِمّيّين.
23) ويتمتع الذميون بكفالة بيت المال في حالة عجزهم وحاجتهم لانهم من رعايا دار الاسلام ويحملون جنسيتها فهم من جملة مواطنيها ورعاياها, وفي الحديث النبوي الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته). والذمي من جملة رعايا دار الاسلام فيشمله الحديث الشريف . كما ان رعاية الذمي عند الحاجة والعوز شيء حسن ويعتبر من الرحمة والاحسان, والاسلام هو دين الرحمة والاحسان, قال تعالى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال النبي ﷺ (الراحمون يرحمهم الله تعالى, ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). ومع هذه النصوص العامة التي تشمل الذِمّيّين بعمومها, توجد نصوص خاصة في الموضوع تدل على حق الذِمّيّين بالتمتع بكفالة بيت المال لهم في حالة عجزهم وحاجتهم منها, ما رواه الامام ابو عبيد في كتابه الاموال عن سعيد بن المسيب انه قال (ان رسول الله ﷺ تصدق بصدقة على اهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم). وروى الفقيه محمد بن الحسن الشيباني صاحب الامام ابي حنيفة ان النبي ﷺ بعث الى اهل مكة مالا لما قحطوا ليوزع على فقرائهم, وأهل مكة كانوا آنذاك مشركين حربيين ولم يكونوا ذميين, فأهل الذمة أولى بالرعاية من الحربيين لانهم من رعايا دار الاسلام.
24) وفي ظل هذه التوجيهات الكريمة في القرآن الكريم والسنة النبوية سار الخلفاء الراشدون وولاة الامور وقادة المسلمين فأحاطوا الذِمّيّين بالرعاية وأشركوهم مع المسلمين في كفالة بيت المال عند العجز والحاجة. نذكر فيما يلي بعض السوابق القديمة الدالة على ما نقول:
1- جاء في صلح خالد بن الوليد مع اهل الحيرة في زمن ابي بكر الصديق رضي الله عنه ما يأتي:
(وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة ودار الاسلام).
2- جاء في تاريخ البلاذري (أن عُمَر بْن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين منَ النصارى، فأمر أن يعطوا منَ الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت).
3- وروى الامام ابو يوسف في كتابه الخراج, أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرَّ بباب قومٍ وعليه سائل يهودي يقول: شيخ كبير ضرير البصر، فقال له عمر رضي الله عنه "فما ألجأك إلى هذا؟" قال: " الجِزْيَةُ والحاجة "، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، واعطاه شيئاً ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم, وقرأ قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وقال: والفقراء هم المسلمون, وهذا من المساكين من أهل الكتاب, ووضع عنه الجِزْيَةُ وعن ضُرباءه.
4- روى ابو عبيد في كتابه الاموال ان عمر بن عبد العزيز الخليقة الاموي المعروف كتب الى عامله في البصرة عدي بن ارطاة: اما بعد وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.
ج/ الحقوق الخاصة للذميين
25) الحقوق الخاصة هي التي تنشأ عن علاقات الافراد فيما بينهم وفقا لأحكام القانون الخاص سواء كانت هذه العلاقات علاقات عائلية أو علاقات مالية, فهي تشمل حقوق الاسرة والحقوق المالية . فمن الحقوق العائلية حق الزواج والطلاق وغيرها. ومن الحقوق المالية الحق في تملك الاموال ومباشرة التصرفات القانونية للحصول على الثروة وما يتبع ذلك من الحق لهم في ان يصبحوا دائنين ومدينين.
26) والذميون في دار الاسلام يتمتعون بالحقوق الخاصة, فهم فيها كالمسلمين لان هذه الحقوق لا تؤسس على اساس العقيدة الدينية الاسلامية حتى يمنع منها الذميون ولهذا صرح الفقهاء بأن الذمي في المعاملات كالمسلم. والحقوق العائلية في اصطلاح الفقهاء والمسلمين من المعاملات. وعلى هذا فللذمي الحق في الزواج وانشاء اسرة والتمتع بجميع حقوق الاسرة من نفقة وارث وغير ذلك. وله حق مباشرة جميع التصرفات القانونية لكسب الاموال سواء كانت هذه التصرفات مع المسلمين أو مع الذِمّيّين. فقد صرح فقهاء الشريعة الاسلامية على (ان معاملة أهل الذمة جائزة) وان كانوا يستحلون بيع الخمر والخنازير ويعملون بالربا. وحق الملكية لهم حق مصون لا يجوز لاحد التعرض لهم به, فقد نص الفقهاء على ان (حُكْم اموالهم حُكْم اموال المسلمون في حرمتها).
ثالثا: واجبات الذِمّيّين
27) على الذِمّيّين واجبات يلتزمون بها قبل دار الاسلام وهي الجِزْيَةُ والخراج والعشور. كما ان عليهم واجبات اخرى غير مالية يلتزمون بها قبل المجتمع ودار الاسلام.
ونذكر شيئا موجزا جدا عن هذه الوجائب
أ/ الجِزْيَةُ
28) الجِزْيَةُ هي عبارة عن المال الذي يعقد للكتابي عليه الذمة. فهي مقدار من المال يؤديه الذمي الى الدولة في كل سنة بموجب عقد الذمة الذي صار به ذميا, ويشترط لوجوبها جملة شروط ذكرها الفقهاء منها العقل والبلوغ والذكورة. وتجب في كل سنة ومقدارها يختلف باختلاف حال الذمي من جهة يساره وغناه, ومقدارها, على كل حال, قليل فهي في حدها الاقصى لا تتجاوز 48 درهما على الغني واقل من هذا على من دونه يسارا حتى حددها بعضهم بـ 24 درهما ثم تقل فتصبح 12 درهما على من له أقل اليسار. ويرى بعضهم ان تقديرها مفوض الى راي الامام.
29) والجِزْيَةُ وضعت على الذمي بدلا عن واجب الدفاع عن دار الاسلام الذي يقوم به المسلم, لان القتال دفاعا عن دار الاسلام وحماية لها ولمن فيها من مسلمين وذميين, هذا القتال مفروض على المسلم وغير مفروض على الذمي, فكانت الجِزْيَةُ بدلا و عوضا عن اعفائهم من واجب المشاركة في القتال دفاعا عن دار الاسلام , وعلى هذا دلت السوابق التاريخية القديمة وعمل الصحابة الكرام وعقود الصلح التي عقدها قادة المسلمين مع اهل البلاد المفتوحة التي تنص صراحة على ان الجِزْيَةُ وضعت عليهم عوضا وبدلا عن حمايتهم من قبل دار الاسلام وسلطانها نظرا لإعفاء الذِمّيّين من واجب الدفاع عن دار الاسلام. ومن هذه العقود القديمة ما جاء في تاريخ الطبري ان خالد بن الوليد صالح اهل الحيرة على وضع الجِزْيَةُ عليهم وعقد الذمة لهم وكتب لهم كتابا جاء فيه (فلك الذمة والمنعة, فان منعناكم – أي حمينا ودفعنا عنكم – فلنا الجِزْيَةُ والا فلا حتى نمنعكم). وقال الفقيه ابن رشد المالكي في كتابه المقدمات (لأنها – أي الجِزْيَةُ – انما تؤخذ منهم سنة نسبة جزاء على تأمينهم واقرارهم على دينهم يتصرفون في جوار المسلمين وذممهم آمنين, يقاتلون عنهم عدوهم ولا يلزمهم ما يلزم المسلمون).
30) وتسقط الجِزْيَةُ بعد وجوبها بإسلام الذمي أو موته ان كان لم يؤدها في حياته, وتسقط الجِزْيَةُ عن الذمي بعجز دار الاسلام عن حماية الذِمّيّين, كما تسقط باشتراك الذِمّيّين في الدفاع عن دار الاسلام, وعلى هذا دلت السوابق التاريخية القديمة في عهد الصحابة الكرام والتي قام بها قادة المسلمين في فتحهم البلاد وعقدهم الذمة لأهلها وقد رواها المؤرخون الثقاة كالطبري والبَلَاذُري. واشار بعض الفقهاء الى سقوط الجِزْيَةُ بعجز دار الاسلام عن حماية الذِمّيّين أو عند اشتراك الذِمّيّين مع المسلمين في الدفاع عن دار الاسلام ودفع العدو عنها, فقد جاء في كتاب شرح الازهار في فقه الزيدية (وإنما تؤخذ الجِزْيَةُ اذا كانوا في حماية الامام). ومعنى ذلك ان الجِزْيَةُ لا تؤخذ اذا عجز الامام عن الدفاع عنهم. وجاء في شرح النيل في فقه الاباضية (وأن يتركها - أي يترك الامام الجِزْيَةُ – كلها أن أعانوهم على عدوهم بالسلاح).
ب/ الخَرَاج
31) الخراج ضريبة مالية على الاراضي الخراجية, وهي الاراضي التي تركها المسلمون بيد اصحابها بعد فتحهم لبلادهم كما فعلوا في العراق, اذ ابقى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاراضي المفتوحة بين اصحابها يزرعونها ويستغلونها وفرض عليهم ضريبة يؤدونها عن هذه الاراضي بشروط معينة ومقادير معينة بناء على نوع الارض من جهة خصوبتها وقربها من المدن ونوع ما يزرع فيها. واصحاب هذه الاراضي كانوا في الاصل ذميين لانهم بعد فتح المسلمين لبلادهم دخلوا في الذمة, الا ان هذه الاراضي تداولتها الايدي فيما بعد فتملكها المسلمون أو تملكوا بعضها بالشراء من اصحابها أو أن اصحابها اسلموا الا ان الخَرَاجُ بقي على الارض.
ج/ الضرائب التجارية
32) يخضع الذميون لما يسميه الفقهاء بالتعشير, أي استيفاء ضرائب تجارية عن أموالهم التجارية التي ينتقلون بها من بلد الى آخر داخل إِقليم دار الاسلام. ويشترط الفقهاء نصابا معينا لهذه الاموال حتى تخضع للضريبة, فبعضهم جعل النصاب بقدر نصاب الزكاة وبعضهم جعله أقل من ذلك, الا ان الامام مالك لم يشترط نصابا معينا لخضوع مال الذمي الذي يتجر به فعنده تجب هذه الضريبة على مال الذمي الذي يتجر به سواء كان قليلا أو كثيرا, وحجته ان هذه الضريبة ليست زكاة حتى يشترط لها نصاب الزكاة وانما هي كالجِزْيَةُ المضروبة على اشخاص الذِمّيّين وهذه الجِزْيَةُ لا يشترط لها نصاب بل تجب على الذمي بقدر طاقته المالية فكذلك هذه الضريبة التجارية تجب على اموال الذمي التجارية بغض النظر عن مقدارها. فهذه الضريبة تؤخذ من الذمي ولا تؤخذ من المسلم لان المسلم يدفع عن أمواله التجارية زكاة فلا يدفع عنها ضريبة أخرى.
33) ومقدار هذه الضريبة هو نصف عشر قيمة الاموال التجارية وهذا هو المأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يأمر القائمين على جباية هذه الضريبة بأن يأخذوا هذا المقدار من الاموال التجارية على وجه الضريبة منها, وبهذا أخذ الحنفية والحنابلة والشافعية وغيرهم.
د/ الواجبات غير المالية
34) وعلى الذِمّيّين واجبات اخرى يلتزمون بها, وهي واجبات غير مالية, منها الامتناع عما فيه غضاضة على المسلمين أو انتقاص لدينهم مثل ذكر الله تعالى سبحانه وتعالى أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوء. لان اظهار هذه الافعال استخفاف بالمسلمين وطعن في الاسلام, والذميون لم تعقد لهم الذمة للمجاهرة بهذه الامور. وعليهم الامتناع عن اظهار بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين وان كان لهم ذلك في قراهم وأمصارهم. وعليهم الامتناع عن المعاملات الربوية فقد كتب النبيﷺالى اهل نجران يمنعهم من الربا, والربا محرم في ديانتهم كما هو محرم في ديننا, قال الله تعالى (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ).
وهناك واجبات اخرى يلتزم بها الذميون ذكرها الفقهاء ليس هنا محل بيانها وتفصيلها.
المطلب الثاني
حقوق وواجبات الاجانب (المُستأْمَنين)
أولا: القاعدة العامة في حقوقهم وواجباتهم
35) من المقرر في الوقت الحاضر ان لكل دولة الحق في تحديد مدى ما يتمتع به الاجانب من حقوق في إِقليمها بشرط السماح لهم بالحد الادنى من الحقوق والا عدّت مخالفة للقواعد العامة الدولية التي تقضي بمراعاة هذا الحد الادنى من الحقوق للأجانب.
وسياسة الدولة في تحديد ما يتمتع به الاجنبي من حقوق فيما يزيد عن الحد الادنى منها تختلف باختلاف اوضاعها الخاصة بها وظروفها وما يحقق مصالحها, فبعض الدول تأخذ بقاعدة تشبيه الاجانب بالوطنيين في التمتع بالحقوق الخاصة مع بعض الاستثناءات. والبعض الآخر من الدول, وهو الاكثر يجري على طريقة المعاملة بالمثل. هذه هي القاعدة في تمتع الاجانب بالحقوق في الوقت الحاضر, أما القاعدة في التزام الاجانب بالواجبات فهي مساواتهم بالوطنيين ما دامت هذه الواجبات لا تبنى على اساس الجنسية, وعلى هذه فالضرائب المالية يخضع لها الاجنبي كما يخضع لها الوطني لان فرضها على الافراد لا يكون على اساس جنسيتهم فقط بل على اساس أقامتهم في الدولة أو تملكهم فيها مالا أو قيامهم فيها بعمل قانوني أو لاستفادتهم من تنظيمات الدولة ومرافقها. وواجب الدفاع الوطني أو أداء الخدمة العسكرية يجب على الوطني ولا يجب على الاجنبي لان وجوبه على الفرد يشترط توافر صفة المواطن فيه. ويلتزم الاجنبي دون الوطني ببعض الواجبات لكونه اجنبيا مثل وجوب قيامه ببعض الاجراءات منذ دخوله إِقليم الدولة كتقديمه الاقرارات المطلوبة من الاجانب وحصوله على رخصة الاقامة واعلامه الجهات المختصة بتغيير محل اقامته ونحو ذلك.
36) أما القاعدة العامة في حقوق الاجانب أي المُستأْمَنين في دار الاسلام في الفقه الاسلامي, فهي أنهم كالذِمّيّين في التمتع بالحقوق إلا في استثناءات قليلة اقتضتها طبيعة كون المُستأْمَن اجنبيا عن دار الاسلام ولهذا يقول الفقهاء المسلمون عن المُستأْمَنين بانهم (بمنزلة اهل الذمة في دارنا).
37) وهذه الحقوق التي يتمتع بها المُستأْمَنون أي الاجانب في دار الاسلام مصدرها القانون الداخلي لدار الاسلام أي الشريعة الاسلامية وليس مصدرها القانون الداخلي لأية دولة أخرى ولا مصدرها قواعد القانون الدولي العام خلافا للرأي السائد بين الدول في الوقت الحاضر, اذ يرى معظم علماء القانون الدولي العام ان تمتع الاجنبي بالحقوق حق مقرر له مصدره القانون الدولي العام.
38) وإنما كانت حقوق المُستأْمَن مصدرها الشريعة الاسلامية, لان الشريعة جعلت هذه الحقوق من مقتضيات الأمان الممنوح للمستأمن ومن نتائجه, وان الوقاء بمقتضى الامان أمر توجبه الشريعة الاسلامية ولا تملك دار الاسلام التفريط فيه لأنه غدر وخيانة, والخيانة منهي عنها في شرعة الاسلام. وتطبيقا لهذه القاعدة قرر الفقهاء المسلمون بان دار الاسلام لا يجوز لها تسليم المُستأْمَن الى دولته بدون رضاه ولو على سبيل مفاداته بأسير مسلم, بل حتى لو هددتها دولة المُستأْمَن بالقتال أذا أبت تسليمه اليها فلا يجوز لدار الاسلام أن تسلمه الى دولته. وكذلك قرر الفقهاء ان المُستأْمَن اذا دخل دار الاسلام بمال قليل فان دار الاسلام لا تأخذ منه ضريبة على ماله تستأصله كله وان كانت دولته تفعل هذا بالنسبة للداخلين اليها من رعايا دار الاسلام لان المعاملة بالمثل في هذه الحالة ظلم ولا مجاراة في الظلم. وهذا يؤكد ما قلناه من أن مصدر الحقوق للأجنبي في دار الاسلام هو قانونها الداخلي وليس مصدرها القانون الدولي العام ولا القانون الداخلي لدولة الاجنبي.
39) والقاعدة في الواجبات بالنسبة للمستأمن كالقاعدة في حقوقه أي أن المُستأْمَن كالذمي فيما يلتزمه من واجبات اثناء اقامته في دار الاسلام لان الفقهاء يقولون, كما ذكرنا قبل قليل, ان المُستأْمَن في دار الاسلام بمنزلة الذمي. الا انه يختلف عنه في بعض الواجبات التي اساس التزام الذمي بها كونه من أهل دار الاسلام, فالجِزْيَةُ مثلا تجب على الذِّمِّيُّ باعتباره من أهل دار الاسلام وعوضا عن دفاعه عنها, ولا تجب هذه الجِزْيَةُ على المُستأْمَن لأنه أجنبي عنها وان كان الاثنان من غير المسلمين.
ثانيا الحقوق السياسية
40) المُستأْمَنون اجانب عن دار الاسلام فمن الطبيعي ان لا يكون لهم نصيب في ادارة شؤون دار الاسلام عن طريق التمتع بالحقوق السياسية, ولهذا لم ينص الفقهاء المسلمون على جواز اسناد الوظائف العامة لهم. واتجاه الفقهاء المسلمين ودار الاسلام في حرمان المُستأْمَنين من الحقوق السياسية هو الاتجاه المأخوذ به من قبل الدول في الوقت الحاضر, ويجمع عليه كتاب القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص ولا يرون أي مجال للنقاش والجدل في حرمان الاجانب من الحقوق السياسية لان التمتع بهذه الحقوق تفترض توافر صفة المواطن في الشخص.
ثالثا الحقوق العامة
41) ومن المقرر في الوقت الحاضر بين دول العالم انّ على كل دولة أن تكفل للأجنبي في إِقليمها التمتع بالحدّ الادنى من الحقوق العامة لان الحقوق العامة تعتبر من مقومات الشخصية الانسانية وترتب على تجريد الانسان منها اهدار آدميته, ولهذا قرر معهد القانون الدولي عند انعقاده في نيويورك سنة 1929أعتبار هذه الحقوق حقوقا دولية للإنسان . واذا رفضت الدولة الاعتراف للأجنبي بالحقوق العامة أو الحد الادنى من هذه الحقوق اعتبرت مخالفة لقواعد القانون الدولي العام وتقررت مسؤولياتها.
42) والمُستأْمَنون في دار الاسلام بالرغم من كونهم أجانب فانهم يتمتعون فيها مثل ما يتمتع به الذميون من الحقوق العامة الا في استثناءات قليلة جدا, وعلى هذا فأن الحد الأدنى من الحقوق العامة الذي يقرره القانون الدولي العام في الوقت الحاضر للأجانب متيسر للمستأمنين في ظل القانون الاسلامي, ونذكر فيما يلي بإيجاز شديد شيئا عن هذه الحقوق للمستأمن.
43) حق المُستأْمَن في دخول دار الاسلام: يرى غالبية علماء القانون الدولي العام ان الاجنبي يتمتع بحق الدخول الى إِقليم بلد أجنبي, وهذا الحق مصدره القانون الدولي العام وتقضي به المعاملات الدولية وما بين الدول من تعاون. وهناك راي اخر يقول ان للدولة الحق في تنظيم دخول الاجانب في إِقليمها, فلها ان تمنع دخولهم ولها ان تقبل دخولهم وفق شروط معينة, ولا يوجد ما يلزم الدولة الزاما قانونيا بقبول دخول الاجانب الى إِقليمها.
44) واذا نظرنا الى هذه المسألة بالنسبة الى دار الاسلام نجدها لا تضيق بالأجانب ولا تمنع دخولهم اليها, ولكن هل يجب عليها ان تسمح لهم بالدخول اذا ارادوه؟ قال فقهاء الشريعة اذا طلب الاجنبي امانا أي اذنا للدخول الى دار الاسلام ليسمع كلام الله ويتعرف على شرائع الاسلام وجب على دار الاسلام اجابة طلبه ثم ايصاله الى خارج دار الاسلام بأمان مستدلين بقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ). ما في غير هذه الحالة فلا يجب على دار الاسلام السماح للأجنبي بالدخول الى إِقليمها وانما الامر متروك لتقدير الجهة المختصة – الامام او من يخوله – فلها ان تجيب طلب الاجنبي في الدخول الى دار الاسلام ولها ان ترفض طلبه. واذا ما أذنت الجهة المختصة في دار الاسلام للأجنبي في الدخول الى إِقليمها, فانه يقيم فيها المدة التي يسمح لها بها, ويختلف الفقهاء في تقديرها ومدى سلطة دار الاسلام في هذا التقدير, فالحنفية ذهبوا الى ان مدة الاقامة التي بمكن ان يسمح للأجنبي بها يجب الا تزيد عن سنة أو بتعبير ادق, كما قالوا, يجب ان تكون أقل من سنة. وعند الحنابلة يجوز ان تكون مدة اقامة الاجنبي المسموح بها له اكثر من سنة ولكن يجب أن لا تزيد على عشر سنوات.
45) الحرية الشخصية: للمستأمن الحرية في الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء أو حبسه أو معاقبته بغير وجه حق لأنه استفاد العصمة لنفسه وماله بالأمان الذي منحته له دار الاسلام وبموجبه دخل إِقليم دار الاسلام. وقد قال الفقهاء يجب على الامام أي امام المسلمين ان ينصر المُستأْمَنين ما داموا في دارنا وأن ينصفهم ممن يظلمهم كما يجب عليه ذلك في حق اهل الذمة لانهم تحت ولايتنا.
46) وذهب الفقهاء في حماية المُستأْمَن والمحافظة عليه الى حدّ يدعوا الى الاعجاب والاكبار , فقد قالوا: لا يجوز مفاداة المُستأْمَن بالأسير المسلم ولو طلبت دولته ذلك الا برضا المُستأْمَن نفسه, ولا يجوز تسليمه الى دولته أو الى دولة أخرى ولو هددت طالبة التسليم دار الاسلام بالحرب والقتال اذا رفضت تسليمه اليهم لان المُستأْمَن في أمان دار الاسلام ويبقى آمنا حتى يخرج من دار الاسلام قبل انتهاء مدة اقامته غدر به وعدم وفاء بمقتضى الأمان وهذا لا يجوز في شرع الاسلام.
47) وللمستأمن الحق في العودة الى وطنه ولا يمنع من الخروج. وله ان يعود الى دار الاسلام مرة اخرى بأمان جديد.
48) حرية العقيدة: ويتمتع المُستأْمَن بحرية العقيدة لان الاصل المقرر في الاسلام (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وهذا الاصل يسري على غير المسلم سواء كان ذميا أو مستأمنا في دار الاسلام, وقد قلنا من قبل ان دار الاسلام لا تكره الذِّمِّيُّ على تغيير دينه وعقيدته وهو من رعاياها فمن باب أولى أن لا تكره المُستأْمَن على ذلك وهو ليس من رعاياها بل هو اجنبي عنها.
49 حرية العمل: وللمستأمن حرية العمل ومباشرة النشاط الاقتصادي الذي يريده فهو في هذا المجال كالذمي, وقد صرح الفقهاء بان (المُستأْمَن في دارنا لا يمنع أن يتجر في دار الاسلام في أي نواحيها شاء).
50) تمتع المُستأْمَن بالمرافق العامة وكفالة بيت المال: ويتمتع المُستأْمَن بمرافق دار الاسلام العامة كوسائل المواصلات ومرافق الماء والانارة وغيرها.
اما كفالة بيت المال له عند عجزه وحاجته فالظاهر ان دار الاسلام تفعل ذلك ولا تترك المُستأْمَن وحيدا وهو محتاج الى معونتها لان الاسلام يأمر بالإحسان واعانة المحتاجين والرحمة بهم, وليست هذه المعاني مقصورة على المسلم بل تشمل كل حيّ كما يدل عليه قول النبيﷺ(في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر), فضلا عما في الاحسان الى المُستأْمَن من تأثير بليغ في نفسه وتعريف له عمليا بمحاسن الاسلام وقد يدعوه هذا الى اعتناق المُستأْمَن من تأثير بليغ في نفسه وتعريف له عمليا بمحاسن الاسلام وقد يدعوه هذا الى اعتناق الاسلام. وهناك من الآثار ما يدل على قيام دار الاسلام بإعانة المشركين وان لم يكونوا ذميين ولا مستأمنين, فتكون رعاية المُستأْمَنين وهم في دار الاسلام أولى. فمن هذه الآثار ما جاء في السِّيَر الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني وشرحه للإمام السَّرَخْسِيّ ما نصه: (لا بأس أن يصل المسلم الرجل المشرك قريبا كان او بعيدا محاربا كان ام ذميا لحديث مسلمة بن الاكوح, قال صليت الصبح مع النبيﷺفقال: هل انت واهب لي ابنة ام فرقة؟ قلت نعم فوهبتها له فبعث بها الى خاله حزن بن ابي وهب وهو مشرك وهي مشركة. وبعث رسول اللهﷺخمسمائة دينار الى مكة حين قحطوا وأمر بدفع ذلك الى ابي سفيان بن حرب وصفوان ابن امية ليفرقاها على فقراء أهل مكة فقبل ذلك ابو سفيان وابو صفوان.
رابعا الحقوق الخاصة
51) يتمتع المُستأْمَنون في دار الاسلام بالحقوق الخاصة كالذِمّيّين لانهم ما داموا في دارنا فهم بمنزلة الذِمّيّين كما قال الفقيه الكاسانيُّ.
52) وعلى هذا لهم التمتع بالحقوق العائلية كالزواج وما يترتب عليه, كما لهم مباشرة سائر المعاملات المالية مع المواطنين في دار الاسلام سواء كانوا مسلمين أو ذميين لان التعامل مع هؤلاء المُستأْمَنين جائز للمسلمين وللذميين, وفي هذا يقول الفقيه ابن رشد (واما مبايعة أهل الحرب متاجرتهم اذا قدموا بأمان فذلك جائز). الا انه لا يمكّنون من شراء ما فيه تقوية لدولتهم على دار الاسلام مثل شراء السلاح ونحوه, ولا يجوز للمواطنين ان يبيعوهم شيئا من ذلك, وفي هذا يقول الفقيه ابن رشد المالكي (لا يجوز ان يباعوا ما يستعينون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد ولا شيئا مما يرهبون به المسلمين في قتالهم). ووجه هذا المنع واضح وهو دفع ما قد يترتب على هذه البيوعات من تقوية دار الحرب واضعاف دار الاسلام.
واذا اشتروا شيئا مما هم ممنوعون من شرائه منعوا من الرجوع به الى ديارهم, ولكن لهم أن يبيعوه قبل أن يخرجوا ويتسلموا ثمنه, فأن أبوا أُجبروا على بيعه. ولكن لو دخلوا دار الاسلام بأشياء يمنعون من شرائها من دار الاسلام فان لهم أن يخرجوا بها ولا يجبرون على بيعها في دار الاسلام لانهم بالأمان الذي دخلوا به استفادوا العصمة لأنفسهم واموالهم فلا تملك دار الاسلام الاخلال بهذه العصمة التي هي من مقتضى الامان ونتائجه.
53) ويتمتعون بحق الملكية , وتعترف لهم دار الاسلام بهذا الحق الذي يعتبر من اهم الحقوق الخاصة التي يتمتع بها الاجنبي في الوقت الحاضر. فلهم ان يتملكوا المنقول والعقار في دار الاسلام, بل لهم ان يتملكوا دار المسلم بحق الشفعة كما صرح بذلك فقهاء الحنفية.
وقد بلغ حرص الفقهاء على صيانة حق الملكية للمستأمنين الى حدّ يدعو الى العجب الشديد, فقد جاء في الفقه المالكي ما نصه (المشهور ان الحربيين اذا قدموا الينا بأمان ومعهم مسلمون غنموهم منا فانهم لا ينزعون منهم, ولهم ان يرجعوا بهم الى بلدهم وسواء كانوا ذكورا أو اناثا من الحرير أو العبيد, عن ابن القاسم في أحد قوليه. ولابن القاسم قول آخر: انهم ينزعون بالقيمة وهو الذي عليه اصحاب مالك وبه العمل).
فالمالكية لم يقولوا بنزع المسلمين من ايدي المُستأْمَنين وتخليصهم من هذا الرق المشين وقد تهيأت الفرصة لتخليصهم وخلاصهم لانهم في دار الاسلام, لم يقولو هذا لان المالكية يرون – باجتهادهم – ان حق الملكية ثابت لهؤلاء المُستأْمَنين على ما في ايديهم من مسلمين والملكية مصونة لا تمس بسوء في دار الاسلام ولو كانت لمستأمنين على مسلمين على قول الفقيه ابن القاسم, ثم تساهل هذا الفقيه الكبير صاحب وتلميذ الامام مالك فقال قولا ثانيا هو نزعهم من ايديهم بعد دفع قيمتهم الى مالكيهم المُستأْمَنين ولم يذهب الى اكثر من ذلك. ان هذا النمط من الاجتهاد عند هذا الفقيه الكبير من الادلة على البحث الموضوعي لدى الفقهاء المسلمين تجردهم من العواطف عند استنباطهم الاحكام الشرعية حسب اجتهادهم.
خامسا – واجباتهم
54) الضرائب التجارية : اذا دخل المُستأْمَن دار الاسلام بأمان ومعه مال للتجارة استوفت منه السلطة المختصة في دار الاسلام ضريبة تجارية عن ماله هذا لأنه لما دخل دار الاسلام صار ماله في حماية هذا الدار فأوجب ذلك حق استيفاء هذه الضريبة منه.
55) والقاعدة في استيفاء هذه الضريبة هي المعاملة بالمثل فيعامل المُستأْمَن بمثل ما تعامل به دولته رعايا دار الاسلام اذا دخلوا الى دولة هذا المُستأْمَن بأموال التجارة, فما تستوفيه منهم تستوفي مثله من المُستأْمَن, ودليل هذه القاعدة أن أحد جباتها كتب الى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (كم نأخذ من تجار اهل الحرب؟ فقال كم يأخذون من؟ فقال هم يأخذون منا العشر, فقال خذ منهم العشر). وكتب ابو موسى الاشعري الى عمر بن الخطاب ان تجار مسلمين اذا دخلوا دار الحرب اخذوا منهم العشر فكتب اليه عمر أخذ منهم اذا دخلوا الينا ذلك العشر. وهذا مذهب الحنفية والزيدية.
56) ولكن لا يؤخذ بقاعدة المعاملة بالمثل اذا كان مال المُستأْمَن قليلا وان كانت دولته تأخذ عن مثله ضريبة اذا دخل به الى إِقليمها رعايا دار الاسلام ويعلل الفقيه ابن عابدين الحنفي هذا الاتجاه من دار الاسلام بان مالهم اذا لم يبلغ يعتبر قليلا والاخذ من القليل ظلم وان اخذوا من مثله لأنه لا متابعة في الظلم, كما ان الاخذ من القليل مخالف لمقتضى الامان.
57) وكذلك لا تأخذ دار الاسلام بقاعدة المعاملة بالمثل اذا اخذت دولة المُستأْمَن جميع اموال من يدخل اليها من رعايا دار الاسلام لان اخذ دار الاسلام جميع اموال المُستأْمَن يعتبر من قبيل الغدر والظلم ونحن – كما يقول فقهاء الحنفية – لا نتخلق بأخلاق الغدر والظلم وان تخلقوا هم بهذه الاخلاق لأننا نُهينا عن ذلك, كما لو قتلوا الداخل اليهم بأمان من رعايانا فلا نقتل من يدخل الينا منهم بأمان.
58) واجباتهم غير المالية: ويلتزم المُستأْمَن مدة مكوثه في دار الاسلام بما يلتزم به الذميون من واجبات غير مالية على النحو الذي بيناه هناك فلا يجوز أن يصدر منهم ما يعتبر طعنا ومسا بالله ورسوله والاسلام لان هذا يمس النظام العام في دار الاسلام ويتضمن الاستخفاف بالمسلمين والازدراء بدينهم. وكذلك الواجبات الاخرى غير المالية التي يلتزم بها الذِّمِّيُّ وقد تقدم ذكرها فلا نعيدها.
الفصل الثاني
القانون الواجب التطبيق في قضاياهم والمبين لحقوقهم وواجباتهم
59) ان القانون الذي يبين الحقوق للذميين والمُستأْمَنين وواجباتهم ويطبق في قضاياه ويفصل في أي نزاع يثور حول هذه القضايا وتلك الواجبات والحقوق هو القانون الاسلامي , فهو وحده لا غيره القانون النافذ المفعول على جميع من يوجد على إِقليم دار الاسلام, وهو وحده المرجع للحكام والقضاة والامراء. والقانون الاسلامي, هو الشريعة الاسلامية بمفهومها الواسع الذي يشمل ما جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة وما أستنبطه الفقهاء من نصوصها وما استخرجوه من أحكام في ضوء قواعدها أو من المصادر التي أرشدت اليها نصوص القرآن والسنة. وعلى هذا الذي ذكرته اجماع الفقهاء, فعندهم جميعا وجوب الرجوع الى الشريعة الاسلامية والحكم بموجبها واثبات ما اثبتتهُ وأقرتهُ والغاء ما أبطلته.
60) واحكام القانون الاسلامي الذي يطبق بحق الذِمّيّين والمُستأْمَنين ويبين ما لهم وما عليهم ويفصل في منازعاتهم هي نفسها تطبق على المسلمين الا في استثناءات قليلة يختلف في مداها الفقهاء, وهذه الاستثناءات مردها احكام القانون الاسلامي نفسه حسب فهم الفقهاء واجتهادهم وما قلناه يسري في الامور الجنائية والمالية ومسائل الاحوال الشخصية, لان الشريعة الاسلامية تتصف بالشمول, فأحكامها تحكم جميع شؤون الحياة وجميع علاقات الناس, كما هو معلوم.
61) والفقهاء المسلمون عالجوا قضايا الذِمّيّين والمُستأْمَنين التي يختلفون فيها مع المسلمين بسبب دياناتهم أي التي فيها عنصر ديني, عالجها الفقهاء المسلمون بوضع قواعد موضوعية مستمدة من الشريعة الاسلامية لتحكم هذه القضايا, ولم يضعوا لها قواعد اسناد تحيل الى قانون غير القانون الاسلامي. وهذا الاتجاه يخالف اتجاه القوانين الوضعية الحالية, فهذه القوانين لا تضع قواعد موضوعية لحكم القضايا ذات العنصر الاجنبي وانما تضع لها قواعد اسناد لتدل على القانون الواجب التطبيق سواء كان هذا القانون اجنبيا او وطنيا وكذلك تضع هذه القوانين الوضعية قواعد اسناد داخلية لتدل على القانون الواجب التطبيق لحكم قضايا رعاياها في بعض المسائل ذات العنصر الديني اذا كانت الدولة تتعدد فيها القوانين بسبب اختلاف الدين بين المواطنين. والسبب في مسلك الفقهاء المسلمين هذا هو ان الشريعة الاسلامية لا تعترف باي قانون آخر غير ما جاءت به من أحكام ولا تقر بمزاحمة أي قانون لها, فلا يوجد مسألة تنازع القوانين بينها وبين أي قانون آخر, لأنها شريعة الهية عامة لجميع البشر يلزم تطبيقها على الجميع كلما أمكن التطبيق, وتطبيقها ممكن في دار الاسلام لعموم ولايتها على جميع الموجودين في إِقليمها, فيجب. اذن تطبيقها دون غبرها, وفي هذا يقول الإمام ابو يوسف (ولآن الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة, الا انه تعذر تنفيذها في دار الحرب لعدم الولاية, وأمكن في دار الاسلام فلزم التنفيذ فيها). واذا كان في بعض القضايا التي تخص غير المسلمين من ذميين ومستأمنين عنصر ديني تلزم مراعاته فان الشريعة الاسلامية هي التي تضع الحكم المناسب لهذه القضايا مراعية اعتقادهم الديني الى الحد الذي تراه واجب الرعاية دون ان تحيل الى شريعة اخرى لاستفادة الحكم منها, ويكون حكم الشريعة الاسلامية في هذه الحالة التي روعي فيها اعتقادهم الديني, من جملة احكام الشريعة الاسلامية نفسها لا من احكام شريعة اخرى. وفي هذا المعنى يقول الامام (الكاساني وهو يتعرض لخلاف الامام (زُفر) في مسالة فساد نكاح الذِّمِّيُّ بلا شهود, وانما قوله انهم بالذمة التزموا أحكام الاسلام, فنعم. لكن جواز أنكحتهم بغير شهود من احكام الاسلام).
الفصل الثالث
المحكمة المختصة بالنظر في قضاياهم
62) الاصل ان ولاية القضاء العامة في أي دولة تكون لها دون غيرها على جميع القاطنين في إِقليمها سواء كانوا اجانب أو مواطنين, فوحدة سلطة القضاء في الدولة مظهر من مظاهر سيادة الدولة. فهل الامر هكذا في سيادة الدولة بالنسبة لشمول ولايتها القضائية على عموم القاطنين في إِقليمها؟ ام أنّ هناك محاكم خاصة خارجة عن ولاية دار الاسلام وسلطانها تنظر في قضايا الذِمّيّين والمُستأْمَنين؟ والجواب على ذلك ان دار الاسلام تقوم على أساس وحدة القانون, ووحدة جهة القضاء, والقانون الوحيد الذي تطبقه جميع محاكم دار الاسلام هو القانون الاسلامي, وان محاكم دار الاسلام هي المختصة بالنظر في جميع قضايا الموجودين على إِقليم دار الاسلام وتقضي بينهم بقانون دار الاسلام والشريعة الاسلامية, ومن توهم من بعض الكاتبين بان للذميين في دار الاسلام محاكم خاصة بهم تنظر في قضايا الاحوال الشخصية الخاصة بهم وفق ديانتهم فقوله مردود لأنه يؤدي الى هدم مبدأ وحدة القانون الذي يأخذ به دار الاسلام, لأنه يؤدي الى تعدد القوانين, والشريعة لا تقر بهذا التعدد ولا بمزاحمة أي قانون اخر لها. كما يؤدي هذا القول الى الاخلال بمبدأ وحدة جهة القضاء الذي تأخذ به دار الاسلام وطبقته في عصر النبيﷺوعصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان. واذا قيل ان هذا القول أي تعدد جهات القضاء في مسائل الاحوال الشخصية فقط يحقق العدالة لأنه يؤدي الى تطبيق احكام ديانة الذِمّيّين والمُستأْمَنين على قضايا العائلة الخاصة بهم ولا ضير في ذلك, وقد اجاز الامام ابو حنيفة تقليد ولاية القضاء للذمي ليقضي بين الذِمّيّين فقط. والجواب على هذا القول, ان مراعاة قضايا الذِمّيّين والمُستأْمَنين ذات العنصر الديني تحصل أي هذه المراعاة من قبل الشريعة الاسلامية بوضعها الاحكام الخاصة بهم مراعية اعتقادهم الديني الى الحد الجدير بالرعاية كما قلنا, ولا تحصل هذه الرعاية أو العدالة بإنشاء محاكم خاصة بهم تحكم وفق ديانتهم, واما احتجاجهم بالمروي عن الامام ابي حنفية في جواز تقليد الذِّمِّيُّ القضاء على الذِمّيّين وان هذا يفي جواز اقامة محاكم خاصة لهم فيرد عليه ان ما روى عن ابي حنيفة انما هو في الواقع تقليد رياسة وزعامة للذمي وليس بتقليد ولاية القضاء ولا انشاء محكمة خاصة له سلطة القضاء على الذِمّيّين. وقد اشار الفقيه الامام الماوردي الشافعي الى هذا التكييف لتولية الذِّمِّيُّ القضاء وفقا لمذهب الحنفية فقال الامام الماوردي: (وقال ابو حنيفة يجوز تقليده – أي تقليد الذِّمِّيُّ – القضاء بين أهل دينه. وهذا وان كان عرف الولاة بتقليده جاديا فهو تقليد زعامة ورياسة وليس تقليد حكم وقضاء, وانما يلزمهم حكمه لالتزامهم له لا للزومه عليهم, ولا يقبل الامام قوله فيما حكم به بينهم, واذا امتنعوا من تحاكمهم اليه لم يجبروا عليه وكان حكم الاسلام عليهم أنفذ).
63 وبهذه الوحدة, وحدة القانون ووحدة جهة القضاء تتحقق للذميين والمُستأْمَنين المساواة مع المسلمين امام القانون مع مراعاة خاصة لهم في بعض الامور والقضايا نظرا لعقيدتهم الدينية. فشرب الخمر مثلا جريمة معاقب عليها بالقانون الاسلامي بالنسبة للمسلم ولكن لا يعاقب عليها اذا ارتكبها الذِّمِّيُّ او المُستأْمَن, وأنكحتهم تعتبر صحيحة وان فاتها بعض الشروط التي يجعلها فاسدة بين المسلمين ما داموا يعتقدون صحتها حسب ديانتهم ولا يتعرض لهم بشأنها ويقرون عليها بخلاف ما لو عقدها المسلم فانه لا يقر عليها كالنكاح بلا شهود أو بلا ولي. وكذلك يجوز لهم التصرف بالخمر والخنزير رعاية لما يعتقدونه ولا يجوز مثل هذا التصرف للمسلم. ويضمن المسلم للذمي أو للمستأمن ما اتلفه له من خمر عند الحنفية بينما لا يضمن المسلم ما يتلفه من خمر للمسلم.
64) والخلاصة, فان حقوق الأقَلِّيَّات غير المسلمة في المجتمع الاسلامي وحقوق الاجانب في هذا المجتمع, هي اكثر مما يطمح اليه المعنيون بحقوق الانسان بالنسبة للأقليات الدينية في الدول الحديثة وبالنسبة للأجانب في الوقت الحاضر. وان الواجبات عليهم قامت على اساس العدل ولا تعسف فيها. وان مصدر هذه الحقوق والواجبات هو الشريعة الاسلامية مما يعطبها صفة الثبات والاستقرار والاحترام. وان الذِمّيّين والمُستأْمَنين يخضعون كالمسلمين للقانون الاسلامي ولمحاكم دار الاسلام العامة, مع مراعاة لهم في بعض الاحكام نظرا لعقيدتهم الدينية كما اشرنا وبهذا يتضح لنا كيفية معاملتهم في المجتمعات الاسلامية والمركز القانوني لهم في هذه المجتمعات, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
نشرت بتاريخ: 2015-02-17 (8238 قراءة)